علال الفاسي - مهمة علماء الإسلام... ( النص الكامل لمحاضرة ألقاها الأستاذ علال الفاسي سنة 1959)

مهمة في نقط ثلاث:
حضرات أصحاب الفضيلة إخواني:
أشكر قسم التعليم العالي لوزارة التربية الوطنية على إقامته مثل هذه الندوات التي تلتقي فيها أفكار العلماء للبحث عن وسائل بعث صحيح للثقافة الإسلامية على ضوء التطور الإنساني المعاصر. وفي كامل الانسجام بل الامتداد لروح التربية الإسلامية كما أرادها المربي الأكبر صلى الله عليه وسلم.
وغايتي في هذه الكلمة أن أتحدث عن مهمة علماء الإسلام، أي عن الغاية التي تعمل لها دعوتهم وعن الوسائل والإعدادات التي لا بد منها لأداء تلك الرسالة واستطاعتهم القيام بها.
ومن المعلوم أن مهمة العلماء قديما وحديثا واحدة، فهي مستمدة من طبيعة الدعوة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الثقافة التي يستعملونها لتقويم المعوج من الإنسانية ووصلها بالقيمة المثلى، هي من طبيعة تلك الدعوة، لأنها تجلية لها ودفاع عنها. وبهذا الاعتبار صح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وإذا كان الأنبياء قد بلغوا الدين وحملوا الرسالة، فمهمة العلماء هي حفظ ذلك الميراث وتبليغه بكل أمانة. والنضال في سبيله بمختلف الوسائل وابتكار هذه الوسائل نفسها. وذلك ما يقول فيه الرسول:
يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فالمهمة إذن محددة كامل التحديد في هذا الحديث الشريف، وهي تنحصر في نقط ثلاث:
1 إزالة كل انحراف عن الدين مصدره الغلو في العقيدة أو المشادة في الدين.
2 دفع انتحالات المبطلين الذين يدخلون في الدين ما ليس منه، وتتسرب إلى أفكارهم من حيث لا يشعرون، مبادئ باطلة لا تتفق وطبيعة التوحيد.
3 تقويم تأويلات الجاهلين بالدين الذين لا يبالون بالانحلال الذي يصيب عقائدهم متى تدرعوا بما يرضي غرائزهم.
ويستوجب القيام بهذه النقط طبعا معرفة الدين نفسه ومركزه من الديانات الأخرى ومن النظريات والأفكار الإنسانية على اختلاف العصور.
وهذا ما يستوجب المعرفة بالبشر وباللغات والتطورات التاريخية والعلمية، وكل مقومات الحضارات الإنسانية، ووسائلها الثقافية لتكوين الخلق الإنساني في كل البيئات والعصور، وهكذا تصبح الدعوة الدينية نفسها محورا أساسا تحيط به كل المعرفة الإنسانية وتنجذب إليه كل الابتكارات والمناهج البناءة، فتصبح هي والثقافة متحدتي المعني، مشتركتي المدلول.
لماذا أبدع المسلمون الأوائل؟
وإذا عرضنا لدراسة معالم الفكر العربي في الصدر الأول وتبينا ثروة العرب الفكرية المدهشة في إبان نهضتهم العلمية المبدعة، وجدنا أن كل ما فعله العرب لم يكن إلا بباعث من الدين ولخدمة مقاصده، فالإصلاح الثوري الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي كون من نفسه تعليما جديدا كان الرسول مدرسته الأولى التي أخرجت من الأساتذة العلماء من ذهبوا في الآفاق يبلغون الدعوة، وينشرون العلم بمقوماتها، وسرعان ما احتاج الناس إلى تفهم الغايات والأسباب والمعاني والألفاظ فبدأت العلوم الإسلامية تتكون، وسرعان ما بدأ الفكر العربي يتفتح، فاحتاج إلى معارضة المقاومين له ومقارعتهم بالحجة والبرهان فتكونت العلوم الإنسانية العقلية والفلسفية، وكان عصر الالتقاء بين مختلف الثقافات الإنسانية في ظل الدولة الإسلامية.
ولقد انتبه الكثيرون من علماء المسلمين ومن علماء الاستشراق أيضا إلى الأثر الذي أحدثه الدين في ميدان المعرفة العربية، فاعترفوا بكون الدين نفسه كان السبب المباشر لا في خلق جو علمي قوي في الوسط المسلم فقط، سولكن في ابتكار العلوم وتعاطي ما كان موجودا منها. وقد أوضح مؤلف عربي ناشئ هو الدكتور كمال اليازجي معالم الفكر العربي في كتاب له بهذا الإسم صدر أخيرا ببيروت، فأكد ما سبق أن أعلنه كولد زهير ورجيه باستيد، وما سبقهم إليه الذين كتبوا من المسلمين عن قانون العلوم، أمثال الفارابي واليوسي من متأخري المغاربة.
على أن عالما من علماء القرويين الذين نبغوا في القرن الثاني عشر الهجري هو أبو عبد الله محمد بن عثمان الطرنباطي ألف كتابا في فضل العلم سماه بلوغ أقصى المرام في شرف العلم، وما يتعلق به من أحكام، وأوضح في مقدمته الأسباب التي أدت إلى اختراع المسلمين ما اخترعوه من العلوم وتبني ما تبنوه وقد واجه الموضوع كما يأتي:
1 لما استفحل القتل في القراء وخاف أبو بكر ضياع القرآن جمعه في المصحف لعلمه أن ذلك وسيلة إلى حفظه.
2 لما أحس عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن فهم الكتاب والسنة يحتاج إلى موصل لما فيهما من دقائق الإشارات وغرائب العبارات حض على رواية الشعر وتعلمه فقال في خطبته: عليكم بديوانكم لا يضل. قيل قيل وما هو؟ قال: شعر الجاهلية فيه معنى كتابكم.
3 لما خشي عثمان (رض) اختلاف الناس جمع القرآن في المصاحف لعلمه أن ذلك وسيلة إلى ضبطه وارتفاع النزاع فيه.
4 لما سمع علي كرم الله وجهه اللحن وخاف ضياع العربية وضع النحو لعلمه أن النحو وسيلة لحفظ اللسان العربي، وحفظه وسيلة إلى فهم معاني الكتاب والسنة اللذين هما مدار الشريعة المحمدية.
5 لما علم مهرة الصحابة والتابعين أن ليس كل أحد يقوم بفهم معاني القرآن اشتغلوا بتفسيره ودونوا له التفاسير نصحا لمن بعدهم ودونوا الأحاديث النبوية، لأن ذلك وسيلة إلى معرفة ما وقع به التكليف وهو وسيلة إلى الامتثال المقصود.
6 لما كان ما ينقل من الأحاديث ليس كله متواترا ولا متفقا على صحته عن النبي (ص)، بل منه الصحيح سندا وغيره، والقوي سندا وغيره، واحتاج أيمة الدين إلى تمييز المعمول به من غيره وإلى معرفة تلقي ذلك وتبليغه أحدثوا صناعة الحديث وما فيها من الاصطلاحات والألقاب.
7 لما كانت الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنة منها ما يرجع إلى كيفية عمل ومنها ما يرجع إلى اعتقاد صرف، والأولى لا تتناهى كثرة، فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة، فأنيطت بأدلة كلية من عمومات وعلل تفصيلية تستنبط منها وقت الحاجة، فجمعوا ذلك ودونوه وسموا العلم الحاصل عنه فقها.
8 لما احتاجوا إلى استنباط المسائل المجددة والجواب عن كل نازلة وإلى مقدمات كلية، كل مقدمة منها يبنى عليها كثير من الأحكام وربما التبست ووقع فيها الاختلاف حتى تشعبوا شعبا، وافترقوا على مذاهب لم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم ولا إعانة لهم على إدراك الحقائق، فدونوا ذلك وسموه أصول الفقه.
9 والثانية وهي الاعتقادات التي كانت في صدر الإسلام سليمة، وحين تكاثرت الأهواء والشيع وافترقت الأمة، كما أخبر به الصادق الصدوق (ص) على فرق، وكثر الخبث في الدين وغطت على الحق شبه المبطلين، انتهض علماء الأمة، وعظماء الملة إلى مناضلة المبطلين باللسان كما كان الصدر الأول يناضلون عن الدين بالسنان، وأعدوا لجهاد المبطلين ما استطاعوا من قوة فاحتاجوا إلى مقدمات كلية، وقواعد عقلية واصطلاحات وأوضاع، يجعلونها محل النزاع ويتفهمون فيها مقاصد القوم عند الدفاع، فدونوا ذلك وسموه علم الكلام وأصول الدين ليكون بإزاء أصول الفقه السابق.
10 وأيضا لما كانت ألفاظ الكتاب والسنة عربية، وفهمها موقوف على فهم لغة العرب وضعوا اللغة ودونوها.
11 ولما كان ثبوت الشريعة موقوفا على صدق الرسول الموقوف على ثبوت المعجزة، وكان أعظم المعجزات القرآن العظيم، وكان إعجاز القرآن الموصل إلى ما ذكر يحتاج إلى مزيد فهم وتحقيق، إذ هو مملوء بالمجازات والاستعارات والكنايات، فوضعوا علم البلاغة ودونوه.
12 لما احتاجوا في أمر الصلاة والصيام وغيرهما إلى معرفة القبلة وساعات الليل والنهار دونوا علم الهيئة.
13 لما احتاجوا إلى العد والمحاصات وقسمة التركات وسائر المعاملات وضعوا علم الحساب... إلى غير ذلك من الفنون.
14 لما كان كل ما ذكر من الفنون وغيرها دائرا بين إدراك أمرين والحكم بأحدهما على الآخر، وكان الفكر عند الحكم ليس بمصيب دائما بدليل مناقضة بعض العقلاء بعضا في مقتضى أفكارهم، فاحتيج إلى ما يوصل إلى الإدراك ويميز صحيح الفكر من سقيمه، دونوا علم المنطق وعربوه لتنتفع به هذه الأمة المشرفة العربية إذ هو المهيمن على الأفكار وكان من العلوم التي استخرجها اليونان ومن الحكمة التي أعطوها وكان يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: قلوب اليونان، ولسان العرب، وأيدي اليمنيين. فإذا فهمت هذا علمت أن التوصل إلى الحق بكل ما أمكن سنة فعلها كل من الخلفاء رضي الله عنهم، بل وكل الصحابة، فلا يخطر ببالك وجه لتحريم شيء من هذه العلوم، ولا أن يقال فيه أنه مذموم، إذ هي كلها وسائل إلى المقصود وحائمة على الورد المورود فمن حرم بعضها فليحرم جميعا. وإلا فمن أين التخصيص، ومن أنكر أن يكون ذلك وسيلة فالعيان يكذبه، نعم بعضها أقرب وأكثر إيصالا من بعض، انتهى كلامه.
وهكذا نجد القرويين مدركة للحاجة إلى التجديد واستعمال كل الوسائل النافعة منذ عهد بعيد، ومدركة كذلك أثر الدين الإسلامي في استنباط العلوم واستخراجها.
وقد عد المرحوم مصطفى صادق الرافعي في الجزء الثاني من كتابه تاريخ آداب العرب، وهو الجزء المتعلق بإعجاز القرآن، ذلك من معجزة التاريخ العربي ومن معجزة القرآن وبعد أن نقل عن (أحد العلماء) لونا مما نقلناه عن السيد الطرنباطي عاد فقال :
القرآن مرجع العلوم
غير أنا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم كان هو سبب العلوم الإسلامية ومرجعها كلها فإنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له. فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة، شديدة على أهل العلوم النظرية إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن شيئا من التأويل والاستشهاد والنظر في آثار الله، إلى ما يشبه ذلك بما يكون في نفسه صلة طبيعية بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم. ه (1) ولكني ألاحظ على السيد الرافعي تعليله الأخير بشدة العامة على أهل العلوم النظرية فهو ما لا أوافقه عليه، إذ الحقيقة أن ذلك لم يكن قط الباعث على الاتصال بالقرآن، بل العكس هو الصحيح كما يوثقه بنفسه قبل بضع كلمات. أما تزمت السلفيين على النظريين فهو راجع إلى لون آخر من الاختلاف. هو هل الأفضل التمسك الحرفي بالصيغ المروية وتسليم ما فيها استنادا على اليقين وعلما بأن كل ما يصل إليه الإنسان من المعرفة لن يزيد شيئا في إدراك الحقائق الغيبية. أو البحث عن وسائل أخرى للاقتناع والإقناع، وهو مذهب الخلف علما منهم بحاجة العامة من المومنين وغيرهم إلى ما يأخذ بيدهم ويقرب لهم عن طريق
مسلماتهم العلمية ما يستعصي عليهم قبوله بدونها. وهذا الاختلاف ليس لا في درجة اليقين الناشئ عن مقدار المعرفة.
ومهما يكن فالقرآن الذي أثر في خلق هذه المعارف الجمة وتنويعها، والذي أنشأ عالما مليئا بالبحث والدرس والنظر لا يمكن أن يقف قط في وجه أي منهج جديد من مناهج البحث أو طريق من طرق المعرفة، فكيف يعامل بجرم الجامدين من رجال الكنيسة المسيحية حين اختلفت مع أقطار الحركة العلمية؟
فتح القرآن أذهان المسلمين ودفعهم لأن يقوموا بالنظر في الكون وتلمس أسراره واستجلاء غوامضه، وقد استجابوا للدعوة وقاموا بالمهمة فكان منهم الأقطاب العاملون الذين أناروا السبيل وعبدوا المناهج لمن بعدهم.
وقيام علماء المسلمين بمهمتهم هو الذي جعلهم يفتحون للفكر الإسلامي آفاقا جديدة ويبتكرون للنظز منهجا تجريبيا يختلف تماما عن الفكر القياسي الذي يسير عليه المنطق الأرسطي. وقد قرر الأستاذ بريفو زةئ صجش في كتابه: حءثةخادئ بصح خةشع أن روجي بيكون تعلم العربية والعلم العربي. وأنه لم يكن له ولا لسميه الآخر فضل في إدخال المنهج التجريبي إلى أوروبا، ولم يكن روجي بيكون في الحقيقة إلا واحدا من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوربة المسيحية. ولم يكف بيكون عن القول بأن معرفة العرب وعملهم وهو الطريق الوحيد للمعرفة الحق لمعاصريه.
ويقول بريفو: انتشر منهج العرب التجربي مفي عصر بيكون، وتعلمه الناس في أوربة تحذوهم إلى هذا رغبة ملحة (2)
وهكذا نجد أن القيام بتحمل الميراث الثقيل الذي خلفه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم للعلماء، أدى بهم إلى أن يتحققوا قبل كل شيء بحقيقة العلم، كما أن الدعوة الإسلامية جعلت الفكر العربي يتحرر من كل القيود التقليدية ويميز بين ما هو منسجم من العقل وما هو من الطفيليات التي تلتصق بالذهن كأغلوطة مقدسة موروثة.
ولقد اعترف دارسو الحضارات الإنسانية بأن العرب استطاعوا أن يجعلوا خير طابع لحضارتهم من مقدرتها على استكناه المسائل واقتناء المعرفة من جميع المنابع ثم صهرها وصياغتها بمقتضى المقياس العربي القائم على التجربة وعلى النظر. وبذلك هضموا كل ما تعلموه، واستحقوا أن يكونوا أساتذة العالم لا في ما ابتكروه من علم فقط بل في كل ما نقلوه عن غيرهم بأمانة ودقة.
لقد سبق العرب بالعمل بهذا القانون الذي يلخصه روجيه باستيد في قوله: >إن فاعلية التمدين تتألف بالدرجة الأولى من انتظام الطبيعة في الأخلاق بتوسط الثقافة خلال جميع أحوال التنوع التجريبي وأن عكس فاعلية التمدين يسبب الوحشية< (3)
ومعنى هذا أن المجهود العربي انصرف كله لتوجيه الفاعلية الإنسانية الاجتماعية منحى نمو الأخلاق أو بعبارة أدق منحى معرفة الإنسان لنفسه. فالطبيعة تؤخذ كخميرة أولى لتصنع منها عن طريق الثقافة مدنية غايتها هي الخلق أي معرفة الذات. والعلم لا يقوم إلا بتجلية القيمة النهائية لتنوع الحوادث الإنسانية ولا يمكن أن يتخذ العلم الوضعي أو قوانينه كمعيار نهائي إلا إذا أعطينا للعلم وظيفة تزييف القيم الإنسانية وهو ما لا يستطيع العلم أن يدعيه.
فالغاية إذن هي إنجاح التجربة الإنسانية المبتدئة من المشاهدة والمعتمدة على العقل في تقسيم الحوادث المتنوعة طبقا للغاية المثلى.
المغرب الذي وحده الدين
إن علماء الإسلام الأولين أعطوا الشخصية النموذجية لانكباب الإنسان على التوفيق بين الطبيعة المعطاة له على أنها لا تحمل قيما روحية وبين الغاية الخلقية التي تملأ الطبيعة بمحتوى روحي جديد عن طريق الثقافة. فالأشعري والماتريدي وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي وأبو حنيفة والباقلاني وعياض وابن رشد وابن سينا والغزالي وابن تيمية وعديد غيرهم من مختلف أساطين المعرفة الإسلامية، ضربوا خير مثل لقيام العالم الديني بمهمته. في تجرد من حب الذات، وبعد عن الملذات. إن الحروب المدنية التي وقعت داخل المجتمع الإسلامي ما كانت لتستطيع القضاء على متطرفي الخوارج ولا على مذهب الاعتزال والقول بخلق القرآن مثلا، وإنما قضى على ذلك كله موقف العلماء النظار الذين أضافوا إلى المعرفة الصحيحة الثبات في العقيدة والتضحية من أجلها. إن العذاب الذي تحمله أحمد بن حنبل من الخليفة المعتصم هو الذي قضى على الاعتزال وحكم بالنصر للسنة. وإن الدور نفسه الذي قام به ابن تيمية والشاطبي وأضرابهما في العصور الوسطى هو الذي حمى السنة من الضياع، وكتب لها الغلبة في النهاية على الخرافة وعلى الابتداع.
وإذا كان الشرق الإسلامي قد سبق إلى ابتكار العلوم وإنضاجها فإن المغرب سرعان ما اعتنق الإسلام وأخذ يدلي بدلوه ليكرع من معين حضارة رائعة ويستنبط ينابيع أخرى تتفق مع ذوقه الخاص وطابعه الممتاز.
ولقد لعب المعهد القروي والمعاهد الدينية الأخرى في المغرب والأندلس دورا هاما في تنقيح المنقول وابتكار المعقول، وفي ذلك الجو نشأ أبطال في المعرفة والفلسفة أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن حزم وابن البنا وابن العربي وغيرهم من مختلف رجال الفكر الذين نشروا المعرفة وضحوا في سبيلها، وكانوا القناة التي سقت الغرب الأوروبي فأثمر حضارته الحالية. وقد استخرج صديقنا الدكتور عمر فروخ في رسالته عن ابن باجة بعض المعطيات التي قدمها المفكرون المغاربة للثقافة العربية، وفي مقدمتها سيطرة العقل عند المغاربة وحسن الإنتاج والابتكار إلى جودة التنسيق والاختصار، ونضيف إلى ذلك أن المغاربة عملوا على توحيد مجتمعهم لا من جهة العقائد ولا من جهة الفروع، فتخلصوا من الطائفيات وانصرفوا لدراسة الإنسان وعلاقته بالطبيعة متجنبين بقدر الإمكان كل الأبحاث الميتافيزيقية التي لا يمكن للإنسان إدراكها إلا عن طريق النقل. واتجهوا في فلسفتهم الاجتماعية نحو مجتمع واقعي يقوم على التعاون ويتأثر بقوانين الكون وعوامل الاقتصاد ويتطور بحسب البداوة والغزو أو الحضارة والاتجار. ومقدمة ابن خلدون خير مثال لذلك. على أن الاتجاه الاجتماعي كان
بارزا لا عند الفلاسفة والفقهاء المغاربة فقط بل حتى عند متصوفة المغرب أمثال أبي العباس السبتي وأبي محمد صالح من الذين بحثوا في تجربتهم الروحية سبيل خدمة المجتمع والتعاون على سد حاجاته. وبذلك قدر المغاربة مهمة العالم الديني على أنها ليست في مجرد البحث والتدريس ولكن حتى في نقل معرفته وبذل جهوده لخدمة الإنسان وتحسين حالته المادية والخلقية، ولكن المسلمين لم يسيروا على وتيرة واحدة دائما.
وخلف من بعدهم خلف
وإذا كان الوعد النبوي يضمن قيام جماعة من أهل العلم الذين يجددون لهذه الأمة أمر دينها ويصلحون ما أفسده الناس من سنة نبيها، فإن ذلك لا يعني عدم وقوع تضعضع في الوسط الإسلامي، وإنما ذلك يضمن دوام الإسلام وعقيدته محفوظة بحفظ القرآن، أما المسلمون فيحتاجون إلى المجهود المتواصل إذا أرادوا البقاء دائما في المستوى الرفيع الذي أراده لهم الإسلام. والمجددون الموعود بهم لا يقدرون على أكثر من بذر البذور الصالحة التي لا تؤتي ثمارها إلا بعد أن تستعد الأمة بمجموعها لتغيير ما فيها. وتعدد العوامل لا بد أن يؤثر على المجهود الخاص. والإصلاح لا يتم إلا بعد أن يجتاز المجتمع طورا من الفساد يشعر معه بضرورة إزالته.
وقد خلف من المسلمين خلف أضاعوا كل معالم السنة الصحيحة، ومعالم الفكر العربي وتراث الحضارة الإسلامية الحقيقي، وانغمروا في عالم الغيبيات المزيفة التي كان انتشارها ثمرة مؤامرات من الدول التي غلبها الإسلام على أمرها. لإفساد المجتمع الإسلام وهدم قوته، ولكن ذلك لم يمس مصادر الدين الحقيقي، لأن القرآن قد جمع في أول الأمر ولا شك لأحد في بقائه على الشكل الذي جمع عليه إلى الآن. والسنة المأثورة معروفة بصحيحها ومعلولها. فالتغيير إنما وقع في التفاصيل وفي الإضافات التي نشأت من الاختلاف الذي أدى أحيانا إلى تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، تماما كما نبه إليه الرسول بنفسه في الحديث الذي أدلينا به أولا.
يجيب بعض علماء الاجتماع الديني أن التطور الواقع في الديانات يشمل حتى أسس العقيدة وشعائرها، وإذا كان ذلك ينطبق بحسب الواقع على المسيحية التي أدى الاختلاف فيها إلى التنازع في قواعد ذات أثر محسوس على جوهر الدين، فإنه لا ينطبق على الإسلام نفسه، لأن أصول الاعتقاد، وهو توحيد الله ورسالة نبيه، وقع الإجماع عليها من كل الطوائف والنزعات. ولقد اعترف بذلك جولد زهير إذ قال: لا يمكن المقابلة بين العقائد الإسلامية وبين العناصر الدينية الأساسية في أي كنيسة مسيحية. فليس في الإسلام مجامع دينية يحمى فيها وطيس المناقشات والمجادلات حتى يصل المجتمعون إلى تقرير القواعد الدينية والصيغ الاعتقادية التي يتحتم اعتمادها... كرمز يدل على الدين الصحيح ولا توجد في الإسلام وظائف كهنوتية أو سلطة دينية تمثل المعيار القويم للسنة، ولا يوجد تفسير للنصوص المقدسة أقره المسلمون وحده دون غيره.
يتبع
1 الرافعي تاريخ آداب العرب ج ,2 ص .118
2 علي سامي النشار، خاتمة كتاب مناهج البحث عند مفكري الإسلام
3 روجيه باستيد، المدنية سرابها وواقعها، الفصل الخامس (النص العربي)

* التجديد - 21 - 07 - 2004


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في ما يلي النص الكامل لمحاضرة ألقاها الأستاذ علال الفاسي رحمه الله في شهر أكتوبر سنة 1959 في الندوة التي نظمتها وزارة التربية الوطنية للعلماء، وفيها يتحدث زعيم حزب الاستقلال، وأحد أبرز رجال الحركة الوطنية، عن المهمة النبيلة التي انتدب الله لها العلماء ورثة الأنبياء، وإذ ننشر هذه المحاضرة، فلأننا نرى أن مضامينها ما تزال راهنة وتحتاج إلى التأمل والدراسة.



علال الفاسي
 
- الحلقة الثانية

أورد الدكتور محمد قاسم في مقدمة ترجمته لكتاب مبادئ علم الاجتماع الديني على روجيه باستيد مؤلف ذلك الكتاب في زعمه أن العقائد الإسلامية قد تطورت جاعلا جهل باستيد للإسلام نفسه وبعقائده سببا في جنوحه لهذا الرأي، وبعد أن نقل كلام جولد زهير كحجة قال: إنه إذا لم توجد تلك الأمور كلها فالسبب في هذا يرجع إلى أن الإسلام يقرر أن العاطفة الدينية فردية وأن الصلة بين الفرد وربه لا تحتاج إلى وساطة اجتماعية، وجعل الدكتور قاسم التسامح الذي كان قائما بين المسلمين دليلا على أن المناقشات لم تكن تمس صميم العقائد الأساسية، وأن الاختلاف كان بصدد الفروع التي يجوز الاجتهاد فيها (4)
وتحقيقا للوعد النبوي فقد برز في العصر الأخير علماء مسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي سيبحثون عن الأسباب التي جعلت المسلمين ينحطون بينما يتقدم غيرهم من تلامذتهم. وكان من أبرز هؤلاء العلماء الشيخ محمد عبده الذي جعله تجواله في مختلف أنحاء الخلافة العثمانية يعتقد في أن تأخر المسلمين ناشئ عن أمرين لا ثالث لهما:
الأول: قبول الإضافات التي أدخلها المندسون في الإسلام والمشعوذون عليه مع التقليد لكل ما نقل عن السابقين من العلماء أو غيرهم ونبذ الاجتهاد الديني نبذا ظهريا.
الثاني: استبداد الخلفاء والرؤساء المسلمين ومقاومتهم كل حرية فكرية مع تملق العلماء المسلمين لهم، وتزيينهم لهم ما يعملون بالسكوت أحيانا وبتحريف الأحكام وتأويل التشريع تأويلا متفقا مع الرغبات السياسية وشهوات أولئك الولاة.
العزة في الدين لا في غيره
وإذا كان في ذينك الأمرين السبب المباشر لتأخر المسلمين فلن يعود العالم الإسلامي لعزته وكرامته إلا عن طريق العودة إلى الدين الصحيح من طريق الاجتهاد الحر والنظر المجرد ومقاومة كل استبداد وطغيان.
لأن الإيمان بالله نفسه لا يتم إلا إذا صاحبه الكفر بالطاغوت.
يقول الشيخ محمد عبده في هذا المعنى:
وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع إلى كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه.
أما الأمر الثاني فهو إصلاح اللغة العربية (5)
ويقول عبده أيضا: وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس في عمى عنه وبعد عن تعقله ولكنه الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة (6).
وبالعودة للمصادر الأولى للإسلام وبإطلاق الاجتهاد ونبذ التقليد وبمعرفة ما للحكومة من حق وما للشعب من حق تنفتح من جديد آفاق الثقافة البناءة التي يذهب اجتنس جولد زهير في الفصول الأخيرة ن كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) إل يتوضيح منابع انطلاقها من المدرسة السلفية (7)
ولا يتأخر الدكتور محمد البهي عن تأكيد ما لاحظة جولد زهير من كون مدرسة محمد عبده تمتاز عن حركات التجديد التي انبثقت في الهند باستقلالها وبكونها تطورا طبيعيا لحالة المسلمين (8).
على أن الحركات الإسلامية، سواء منها الهندية أو العربية، كانت ترمي لغاية واحدة هي إقناع المسلمين بضرورة عودتهم إلى دينهم الحقيقي، ومعنى ذلك التحرر من الخرافات وفتح باب الاجتهاد، وقيام إجماع جديد على أسس من الدين تتفق ومقتضيات التطور الإنساني في ميادين العلم والاقتصاد.
ولكن المسلمين لم يمهلوا حتى ينظروا في أمرهم، ويستقبلوا من أمرهم ما استدبروه، فإن الزحف الاستعماري الغربي اكتسح العالم الإسلامي برمته، وأدهشه بقواته المادية ومقدرته الصناعية وبهرجته اللفظية، فأصبح في حيرة من أمره لا يدري أيشتغل بالدفاع عن نفسه وتحرير وطنه أم يبالي بالدعوات التي يقوم بها الغرب لهدم الكيان الروحي الإسلامي. وقد فعل الجهاز الاجتماعي الذي خلقه الاستعمار لممالاته من الداخل ما لم يفعله الجهاز العسكري والسياسي الأجنبيان.
ولقد بدأ الإنجليز الحملة في الهند، بتكوين حركة لتعويض الدين التلقائي بدين موجه، والوطنية التلقائية بوطنية موجهة. ووجد في السيد أحمد خان داعية بالغ المقدرة، كما وجد في الإرساليات الدينية والعلمية خير مهيئ لمجموعة من الشباب لا تبالي بممالاة المستعمر عن طريق الإعلاء من قيمة كل ما هو أجنبي وتحقير كل ما هو إسلامي أو وطني، وامتدت هذه الحملة إلى البلاد العربية وقلدتها فرنسا باستعمال مشايخ الطرق وبعض العلماء، كما قلدتها روسيا التي برعت براعة كلية في توجيه الحركات الأهلية في الاتحاد السوفياتي طبقا لخطة عامة مضبوطة.
الاستعمار يحارب مظاهر التدين
وإذا كانت للاستعمار رسالة غير الاستغلال المادي الذي استطاع المستعمرون أن يقاوموه دائما فهي في عرض هذه الشقة القوية في كل ما هو غربي. وفي اتخاذ تجارب الغرب كلها معيارا لا يخطئ في الحكم على الأشياء والأفكار في الشرق. وهذه هي العبودية الفكرية التي كانت في نظر المفكرين المسلمين عامة أشد على الإسلام وذويه من كل حملة صليبية أو استعمارية.
ومن سوء الحظ أن الحملة الاستعمارية على العالم الإسلامي صادفت بلوغ المادية في الغرب أعلى درجاتها فإن الخلاف الذي قام بين العلماء الغربيين في بدء النهضة وبين رجال الكنيسة أدى إلى عزل الديانة المسيحية منذ ذلك الوقت عن كل مظاهر الحضارة الحديثة، وكان أثر محاكم التفتيش الكنيسية شديدا على الديانة المسيحية بل ضربة قاسية على العقائد الدينية كلها، لأن الصراع بين رجال الدين وبين رجال العلم تحول إلى صراع بين ما سمي بالمنهج العلمي وبين ما سمي بالمنهج الديني، ومع أن الإسلام لم يقاوم قط ولم يخش الدراسة العلمية على اختلاف مناهجها، فإن المسلمين لم يتحرروا اليوم بعد من الحكم على الفكر الإسلامي قياسا على الفكر المسيحي، أي بذنب لم يقترفه الإسلام ولا علماؤه.
إن الفرق بين النظرة الدينية وبين النظرية العلمانية في الغرب هي أن الأولى تعتبر أن كل ما في هذا العالم من مظاهر وآثار مرده إلى قوة أعلى وأسمى من هذا العالم بينما ترفض الثانية تفسير تلك الظواهر إلا على أساس لا وجود فيه لإله أو قوة فوق الطبيعة، وما ذلك في واقع الأمر إلا إمعان في الخصومة بين رجال الحركة العلمية ورجال الكنيسة.
على أن رد فعل روحاني وقع من طرف مجموعة من الفلاسفة والعلماء الذين حاولوا الإصلاح بين المسيحية وبين العلم. وهذه المحاولة هي التي تكون شتى المدارس الفلسفية والعلمية التي ابتدأت بديكارت وسبينوزا وانتهت بهيجل وكانت، وقد كانت نهايتها الفشل لكونها نظرت إلى الدين كمجرد حاجات اجتماعية أو تخيلات مثالية وبلغت في القرن التاسع عشر المادية مستواها الأعلى منذ ظهر فيخته وبوخنر، ومنذ ظهرت الأفكار التجريبية في الفلسفة النفعية وتقدم الاكتشاف العلمي في ميدان طبقات الأرض وعلوم الحياة وعلم النفس التجريبي، وقد مهد ذلك كله لقبول الفكر الغربي نظرية المادية التاريخية التي برزت كرد فعل آخر لتكتل الرأسمالية وحلولها محل الإقطاعية القديمة.
إزاء هذا الهجوم الجارف على المجتمع الإسلامي وقع انفصال كامل بين التراث العربي بما فيه من ثقافة ودين وبين الناشئة التي لم تعد تجد مربعا لدراستها وتلقى معارفها إلا في مدارس الغرب ومعاهدها العليا وهي كما يعرف الجميع لا يمكن أن تعنى في قليل ولا كثير لا باللغة العربية وأسرارها، ولا بالحضارة الإسلامية ومفاخرها ولا بتعاليم الإسلام وأخلاقه لأنها على أحسن الأحوال تومن بأن من الإحسان للشعب الأهلي أن ترفعه إلى المستوى الثقافي الذي عليه أبناء المستعمر وتوحدهما توحيد العبد مع السيد. وقد استيقظ المسلمون اليوم فوجدوا الأغلبية الساحقة من أبنائهم بعيدة بعدا كليا عن أية معرفة إسلامية وعن كل لغة عربية، بل لقد أصبحوا في نفس الحالة التي كان عليها الإسبانيون في أوائل القرن التاسع والتي يصفها الأب ايجاروا بقوله: يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق، فأين تجد اليوم علماءنا الذين يقرؤون التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفاه إن شباب المسحيين الذين هم أبرز
الناس مواهب ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة وأنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب، وأنك لتراهم في الناحية الأخرى يحتجبون في زاوية إذا ذكرت الكتب المسيحية، محتجين بأن تلك الكتب غير جديرة بالتفاتهم فواحر قلباه لقد نسي المسيحيون لغتهم. ولا يكاد يوجد واحد منهم في الألف قادر على إنشاء رسالة لصديق بلاتينية مستقيمة، ولكن إذا استدعى الأمر كتابة العربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة بل يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم<. (9)
خوفا من لادينية هدامة
أليس من نكد الدهر أن تنقلب الآية وأن يصبح المسلمون أولى بتلك النعوت التي يضفيها الأب الكارو على أبناء دينه؟ ولقد تغير شيء في العالم المسيحي، فهل نستطيع أن نغير من أمرنا كما غير المسيحيون من أمرهم؟
على أن قسما من المسؤولية في هذا الأمر يرجع إلى جمود بعض العلماء وعدم قيامهم بواجبهم، فالتقهقر الذي أصاب الدراسات الإسلامية وانعزال المعاهد الدينية عن مسايرة التطورات الفكرية في الشرق وفي الغرب وعدم استماع العلماء لنصح الناصحين من أمثال عبده وجمال الدين ومحمد إقبال وغيرهم من المفكرين العصريين كاد أن يحدث هوة سحيقة بين الدراسات العربية والدينية المحافظة على أساليبها العتيقة ومراكزها غير المجددة، وبين الفكر الجديد الذي يتلقفه أبناء المسلمين في معاهد الغرب الكبرى مباشرة أو بواسطة المعاهد العربية الجديدة التي أقصى شرفها أن تردد دروس العلماء الغربيين في غير نقد ولا ملاحظة، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، ولم تقم المعاهد الأصلية بواجبها نحو العربية فإنه لا يمر زمن قليل حتى يعم الإلحاد المدن والقرى ويصبح الكل مقلدا للغرب في انزلاقه نحو لادينية هدامة.
يقول أبو الحسن، من علماء الهند (10): >يجب أن نواجه الحقيقة بفقه ووعي وشجاعة. إن العالم الإسلامي يعاني اليوم ردة دينية وفكرية وثقافية جارفة يجب أن تكون موضوع دراسة جميع من يهمهم الإسلام.
إن الطبقة المثقفة في كل قطر إسلامي مضطربة في العقيدة متحللة في الأخلاق، مادية في التفكير، علمانية في السياسة، وإن كثيرا من رجالها إن لم أقل أن أكثر رجالها لا يومنون بالإسلام كعقيدة ونظام.
والشعوب الإسلامية وفيها كل خير وكل صلاح وكل استعداد وهي أصلح الكتل البشرية في العالم خاضعة لهذه الطبقة بحكم ثقافتها وذكائها ونفوذها. وإذا بقي هذا الوضع تسرب الإلحاد والفساد إلى هذه الشعوب وإلى الطبقات التي تعيش في البادية والقرى، وتعمل في المصانع والمزارع وسارت في طريق اللادينية والزندقة. هذا ما وقع في أوروبا وهو واقع في الشرق إذا جرت الأمور مجراها الطبيعي، ولم تحل إرادة الله القاهرة.
هذه شكوى الهند ولنسمع إلى الدكتور البهي من مصر يقول : (11) ... وتحولت بذلك الحركات التحريرية إلى حركة عزل الإسلام عن الحياة الملية العامة للجماعات المسلمة... إلى أن قال: وبجانب انفصال موضوع الثقافة وعزله عزلا تاما عن الإسلام الذي هيأ الفكر الغربي السابق، الاستشراقي والمادي، فرصة قبول المثقفين له دون أن يجدوا في ثقافتهم التي يحملونها وفي أنفسهم يناقش هذا الفكر حتى يكون قبولهم إياه نتيجة اقتناع وتأمل، وجد فراغ ما آخر في الحياة التوجيهية العامة، وهي حياة الجماهير من العمال والفلاحين وهذا الفراغ سببه عزلة الأزهر عن الحياة الجارية، وهي عزلة رسمت له في ظل الاستعمار أو عاون على بقائها الاستعمار.
ويقول بعد ذلك: وكلا النوعين من الفراغ في حياة المثقفين أو في حياة الفلاحين والعمال أتاح الفرصة لغير الإسلام في التوجيه والتطبيق العملي في الحياة.
ويؤكد الدكتور البهي أن الأزهر لو قام بواجبه وجعل دعوة الإصلاح السلفي تنمو في أحضانه كان احتكاك الإسلام بالصليبية والماركسية على غير الوجه الذي هو عليه الآن ويمكننا أن نقول مثل ذلك عن جميع المعاهد الإسلامية في الشرق والغرب.
وإذن فما هو الواجب إزاء هذا الفراغ..
الجواب بسيط وسهل. يجب ملء الفراغ بما يجب أن يملأ به. يجب أن يعاد للمعاهد الإسلامية مركزها كمشعل لحراسة اللغة العربية وتعليم الدين والدفاع عنه، ويجب أن يقوم العلماء بمهمتهم التاريخية التي ألقاها الإسلام على عاتقهم.
من أجل العناية باللغة العربية والمعاهد الدينية
وكما قام العلماء الأولون بمسايرة التطور الفكري والابتكارات الجديدة، وكما عملوا على التوفيق بين ذلك كله وبين السنية الإسلامية عن طريق الدين والجدل، يجب أن يتجه العلماء المسلمون اليوم إلى بعث معاهد الإسلام وإكسائها الصبغة العصرية التي تساير التطور وتفتح آفاق المعرفة لأبنائها، حتى يتكون منهم علماء يقومون بأداء الرسالة الموروثة وكما أعطت طبيعة الدعوة الإسلامية في الأول طبيعة المعرفة وطبيعة مهمة العلماء كذلك يعطينا الوضع الحاضر في العالم الإسلامي طبيعة البعث الجديد لتلك المعرفة وللغاية المقصودة منها.
إن الغاية الأولى هي عدم بقاء العزل القائم بين المثقفين والشعب وبين المعرفة الإسلامية الصحيحة والانفصال القائم بين العلماء وبين الحياة العلمية الصاعدة.
إن في العالم الإسلامي اليوم حركة تجديد قوى لمناهج الدراسة وأساليبها إصلاحا لما أفسده المستعمر من قبل، وهذه الحركة تشمل المغرب وتونس، كما تشمل بقية العالم الإسلامي ولكن المعاهد الأصيلة تقف بين فكرة الانطواء خوفا من الكيد لها، وبين فكرة اللامبالاة التي تكاد تؤدى بها، وأن طبيعة المهمة الملقاة على هذه المعاهد نتفرض أن يكون لها مركزها الممتاز بين منارات المعرفة القومية، في الوقت الذي لها من المرونة ما يسهل عليها التغلغل في صميم الثقافة وفي صميم الفكر الوطني لأداء رسالتها الإيجابية.
إن التعليم العالي الأصيل يجب أن يعنى قبل كل شيء ببعث اللغة العربية بعثا صحيحا، وتكوين معاهد الشريعة أو الفقه على الطريقة التي تمهد لقيام قانون إسلامي موحد تكون له السلطة العليا في القضاء وفي السلوك إلى جانب العمل على بعث الدراسات الدينية المحض، والأخلاقية بصفة مقارنة لابتكار جدل علمي صالح لمقاومة كل تحريف أو انتحال.
فأما مناهج اللغة العربية فقد أصبحت اليوم في تقدم يشغل كل أنظار المربين في العالم العربي ولا ينقص الجهود المبذولة في هذا السبيل إلا أن تكون مؤاخذة وبعيدة عن كل أغراض سياسية أو إقليمية. ولكن المعاهد الأصيلة في المغرب ما تزال ضعيفة من هذه الجهة سواء من ناحية الأسلوب أو من ناحية المادة.
ولذلك نرى من الضروري عناية المسؤولين والعلماء بشؤون اللغة العربية بكيفية تجعل المعاهد الأصلية منارا لها، ودرعا يحميها من كل تقهقر، خصوصا في هذه المرحلة التي ما تزال مشكلة التعريب صعبة الحل، بعيدة المنال للأسباب التقنية التي يعرفها الجميع.
وأما معاهد الشريعة فأرى أن يدرس فيها الفقه الإسلامي على الطريقة التي خطها الدكتور عبد الرزاق السنهوري، (12) وهي:
الأساس في هذه الدراسة أن تكون دراسة مقارنة فيدرس الفقه الإسلامي في ضوء القانون المقارن ويعنى في هذه الدراسة بأمرين جوهريين: (أولهما) أن تدرس نشأة الفقه الإسلامي دراسة دقيقة، فيبحث كيف تكون هذا الفقه على مر الزمن، وكيف تطور وبخاصة في العصور التي سبقت عصر المذاهب الكبرى الأربعة. والأمر الثاني أن تدرس مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة التي منها الشيعي والخارجي والظاهري، وغير ذلك من المذاهب، دراسة مقارنة لنستخلص منها وجوه النظر المختلفة ولتتركز هذه الوجوه في تيارات من التفكير القانوني ثم تتبلور في اتجاهات عامة وتستكشف من كل هذا قواعد الصناعة الفقهية الإسلامية ثم تقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث، حتى يتضح ما بينهما من الفروق ووجوه الشبه، وحتى نرى أين وقف الفقه الإسلامي لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وفي تفريعاته، فتمديد التطور إلى هذه التفصيلات على أسس تقوم على ذات الفقه الإسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجارى مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيير وهو في الحالتين فقه إسلامي خالص لم تداخله عوامل أجنبية تخرجه عن أصله.
ومن ثم تكون موضوعات البحث الأساس في دراسة الفقه الإسلامي هي:
1 تاريخ الفقه الإسلامي وبخاصة قبل عصر المذاهب.
2 أصول الفقه الإسلامي على أن يعاد البحث في النظرة التقليدية لهذه الأصول.
3 مقارنة مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة فيما بينها
4 مقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الغربية الحديثة.
ويرى الدكتور السنهوري أنه لا بد لهذه الدراسة من معهد خاص يتوفر على الأسباب الرئيسية لنجاحها من أساتذة يتخصصون لها، ومراجع يتعاون بها وطلاب يتفرغون لهذه الدراسة ويؤكد الدكتور أن الغاية من دراسة الفقه الإسلامي هي تجديد شبابه لينبثق القانون الحديث من الشريعة الإسلامية على أن يكون هذا القانون الحديث في منطقه وصياغته وفي أسلوبه فقها إسلاميا خالصا. والواجب أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة علمية دقيقة وفقا لأصول صناعتها ولا يجوز أن تخرج على هذه الأصول بدعوى أن التطور يقتضي هذا الخروج.
وأما الدراسات المتعلقة بالأخلاق وبالعقيدة فيجب أن يؤسس لها معهد خاص أيضا تكون له أقسام، للعقيدة، أصلها وحججها العقلية والنقلية، ومذاهب المتكلمين وطريقة دراستهم المختلفة ومقارنتها بالفلسفات القديمة والحديثة وبالفلسفة التجريبية بصفة خاصة، وقسم للأخلاق من جهتها الواقعية والاجتماعية، وعلم الاجتماع الديني ومقارنته لمختلف النظريات الفلسفية والاجتماعية وقسم الإرشاد والتوجيه، ويعني بطريقة التبليغ وتربية السلوك إلى دراسة لعلم النفس والاجتماع وأساليب الإقناع الحديثة.
وإذا كان الطلبة في إعدادهم الثانوي متهيئين من الناحية العامة تهيأ صحيحا لدراسة هذه المناهج فإنهم لا يلبثون أن يعيدوا للعالمية الإسلامية مركزها اللائق بها ولا تلبث المعاهد الأصلية أن تكتسي حلتها القشيبة التي كانت لها بين مختلف معاهد العالم.
ولكن المعاهد الأصيلة بحاجة أكثر من البرامج والمناهج إلى إيمان القائمين عليها برسالتهم في تكوين جيل جديد يضطلع بمهمة الدعوة الإسلامية وإصلاح ما أفسده العصر وظروفه من شؤون الدين. وهذا التكوين لا يقع بمجرد المعرفة وجودة الفكر، بل لا بد من أن يصاحب ذلك سلوك إسلامي صحيح يتربى عليه الطلبة ويعطي به العلماء قدوة حسنة لأن التربية بالحال أصدق من التربية بالمقال.
إن رسالة القرويين والمعاهد الإسلامية عظيمة جدا، وهي ليست في تقوية المرتبات ولا في إضافة العلاوات، ولكنها في قيام العلماء بمهمة الدعوة وإعداد أنفسهم لها عن طريق المعرفة الصحيحة، ومسايرة التطور المتمسك بالحق، ومقاومة كل جمود وجحود.
إن هذه الرسالة ضرورية لكل بعث إسلامي وعليها يتوقف الاتجاه المغربي نحو الإسلام وكل تقصير في هذه الجهة سيضر بالمجتمع المغربي وعسى أن يوفق الله علماءنا وأولي الأمر منا إلى أداء هذا الواجب والتحرر من تبعيته، وذلك هو المظنون.
4 الدكتور محمد قاسم، مقدمة ترجمة كتاب علم الاجتماع الديني لروجيه باستيد، ص .7
5 الأستاذ رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ج ,1 ص 11
6 نفس المرجع أعلاه.
7 اجتنس جولد زهير، مذاهب التفسير الإسلامي، الترجمة العربية، ص 347
8 الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 84 وما بعدها.
9 مجلة المسلمون عدد 5 رقم ,6 ص 7
10 مجلة المسلمون، عدد ,5 م ,6 ص .7
11 الفكر الإسلامي، ص 461
 
أعلى