وليد إبراهيم القصاب - قضية الوضوح والغموض في الشعر العربي بين التراث والحداثة

[SIZE=6](2-1)[/SIZE]

تمهيد:
لعل أول إلماعة إلى الغموض، أو عدم وضوح الكلام - في تراثنا النقدي - نجدها في العصر الجاهلي عندما أنشد النابغة الذبياني النعمان بن المنذر قوله في مديحه:

تراك الأرض إما متَّ خِفاً = وتحيا إن حييت بها ثقيلا

فقال له: هذا بيت إن لم تتبعه بما يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب. ويروى ان النابغة أعانه ابن لزهير، هو كعب بن زهير بن أبيي سلمى على أن يقول:

وذاك بأن حللت العز منها = فتمنع جانبيها أن يزولا

فطابت نفس النعمان.

ثم برزت قضية الوضوح والغموض بشكل عميق في العصر العباسي مع ظهور المحدثين ومذهبهم في الصنعة والبديع، وأشير إلى أبي تمام على وجه الخصوص بأنه شاعر يؤثر الغموض، إذ يعقد المعنى، ويبالغ، ويحيل، ويبعد في الصور، ويستعمل الغريب من الألفاظ.
ونقل التاريخ النقدي الحوار الطريف الذي دار بينه وبين ناقديه أبي سعيد الضرير وأبي العميثل عندما استمعا إلى شعره فقالا له: «لم لا تقول ما يُفهم؟» فكانت اجابته التي استُظرفت: «لم لا تفهمان ما يقال؟».
ثم اتهم شعراء آخرون بعد ذلك بالغموض كأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهما.
وعلى وجود نقاد اشاروا إلى الغموض في الشعر، وعدوه ميزة، إلا أن هذا الغموض - كما سنوضح - كان له مفهوم خاص يختلف عن مفهومه في الشعر الحديث، كما أن الغموض ظل - بشكل عام - عيباً يؤاخذ به الكاتب: شاعراً كان أم ناثراً.
ظل النقد العربي، بل الثقافة العربية الاسلامية عامة، تميل إلى الوضوح، وتحث عليه، وتعيب الغموض والتعقيد بأشكالهما كافة، وتستهجن كل ما يمكن أن يكون سبباً فيهما: كوحشي الألفاظ، وغرابة المفردات، والمعاظلة في التركيب، والتقديم والتأخير من غير سبب بلاغي، والبعد في الاستعارة، وعدم المقاربة في التشبيه وادخال الفلسفة والمنطق، وما شاكل ذلك.

مصطلحات البلاغة والنقد تدل على الوضوح:
ظل الوضوح هو السمة الأصيلة المميزة للأدب العربي، بل سمة واضحة من سمات الثقافة العربية، واللسان العربي، وان الملاحظ ان جميع المصطلحات الأدبية التي تحدثت - في تراثنا - عن جماليات الكلام وخصائص القول الايجابية، هي مصطلحات تحمل معنى الوضوح والظهور.
ان فن القول يسمى «بلاغة» والبلاغة من البلوغ والوصول، فالقول الفني الجميل هو قول يبلغ المتلقي، ويؤثر فيه، ولو كان غاماضاً مبهماً ما بلغه ولا وصل إليه، ولا أثر فيه.
وان الفصاحة - وهي من صفات الألفاظ، وأحد عناصر البلاغة - تعني كذلك الابانة، تقول العرب: أفصح الصبح، إذا أضاء وأفصح اللبن، إذا انجلت رغوته فظهر. وأفصح الأعجمي ، اذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين.
وان من أسماء البلاغة - وهي فن القول كما ذكرنا - البيان، وهو الظهور والوضوح والانكشاف.
وان من خصائص العربية «الاعراب» وهو يعني كذلك الابانة والافصاح. واعرب فلان عما في نفسه: ابان واظهر. والاعراب - في مصطلح النحو - يوضح المعاني، ويكشف عن وظائف الالفاظ والتراكيب.
ان هذه الامثلة وكثيراً غيرها لتقفنا - بشكل جلي - على ان الوضوح خصيصة كبرى من خصائص الفكر العربي والثقافة الاسلامية. وقد مضت كثير من قواعد النقد والبلاغة عند العرب ترسخ مفهوم الوضوح والجلاء، فنفرت من وحشي الالفاظ وغرابتها، وهي تلك التي لا يظهر معناها، فيحتاج أن ينفر عنها في كتب اللغة. كما نفرت البلاغة من التعقيد بنوعية: اللفظي العائد إلى اختلال نظم الكلام، فلا يدري المتلقي كيف يتوصل إلى معناه، والمعنوي، وهو الذي يرجع إلى المعنى، فيكون انتقال الذهن من المعنى الاول إلى المعنى الثاني غير الظاهر.
ودعى في التشبيه إلى المقاربة، وفي الاستعارة إلى مناسبة المستعار منه للمستعار له، واستقبح ما بعد من التشبيهات، وما اعتاص من الاستعارات كما كان حال بعض استعارات أبي تمام.
ولو مضينا نستقصي ما في تراثنا الفكري من أقوال تشير إلى الوضوح، وتنفر من الغموض والتعقيد لطال بنا الاستقصاء، وأخرجنا عن القصد. ولكن حسبنا على رأس ما ذكرناه جميعاً ما وصف الله تعالى به كتابه العظيم، وهو القمة السامقة المعجزة للقول الفني الجميل، وأرفع نموذج أدبي عرفته أو يمكن أن تعرفه البشرية لقد وصف الله تعالى القرآن الكريم في أكثر من موضع بالوضوح والبيان قال تعالى: «الر تلك آيات الكتاب المبين» (يوسف:1) وقال عز اسمه: «تلك آيات الكتاب المبين» (الشعراء:2).
واقترن وصف القرآن الكريم بالعربية والابانة في قوله تعالى: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» (النحل:103) وصفت آياته بأنها مبينات «ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات» (النور:34) وسميت الآيات والبراهين والأدلة بينات قال تعالى: «وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس» (البقرة:87).
ووصف الله - عز وجل - القرآن بأنه ميسر للفهم والحفظ والاتعاظ، فقال: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدكر» (القمر:17).
وعد بعض العلماء من وجوه اعجاز القرآن الكريم يسر تناوله، وسهولة حفظه وفهمه، وانه قادر على مخاطبة جميع فئات الناس على مختلف ثقافاتهم وعصورهم، إذ ان معانيه مصوغة «بحيث يصلح ان يخاطب بها الناس كلهم على اختلاف مداركهم وثقافاتهم، وعلى تباعد أزمنتهم وبلداتهم، ومع تطور علومهم واكتشافاتهم...».

ذم الغموض والتعقيد:
إن أقوال النقاد والبلاغيين العرب في ذم الغموض والتعقيد، والتنفير من الصعب الغريب أكثر من أن تحصى، بل ان مفهوم البلاغة نفسه ارتبط عند العرب - كما سبق ان ذكرنا - بالوضوح والابانة.
قال علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - «البلاغة افصاح قول عن حكمة مستغلقة، وابانة عن مشكل».
ومثله قول الحسن بن علي - رضى الله عنهما-: «البلاغة ايضاح الملتبسات، وكشف عوار الجهالات، بأسهل ما يكون من العبارات» وقوله: «البلاغة تقريب بعيد الحكمة بأسهل عبارة».
ومن ذلك قول محمد بن علي - رضى الله عنهما-: «البلاغة تفسير عسير الحكمة بأقرب الألفاظ».
وأشار أبو هلال العسكري إلى مفهوم الوضوح الذي ارتبطت به البلاغة العربية، فقال: «قال العربي: البلاغة التقرب من المعنى، والتباعد من حشو الكلام، وقرب المأخذ.. ومثله قول الآخر: «البلاغة تقريب ما بعد من الحكمة بأيسر الخطاب» والتقرب من المعنى البعيد هو أن يعمد إلى المعنى اللطيف فيكشفه، وينفي الشواغل عنه، فيفهمه السامع من غير فكر فيه وتدبر له..».
قال بشر بن المعتمر: «إن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك في نفسك، على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف على الدهماء، ولا تجفو عن الاكفاء، فأنت البليغ التام».
وتحدث بشر عن ثلاثة منازل للمعاني، وجعل «أولى ذلك أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، اما عند الخاصة ان كنت للخاصة قصدت، واما عند العامة ان كنت للعامة أردت..».
وسئل بعض العلماء: ما الشعر عندك؟ قال: السهل الممتنع.
وقال أبو هلال العسكري: «من أراد الابانة في مديح أو غزل أو صفة شئ، فأتى بإغلاق، دل ذلك على عجزه عن الابانة».
وقال الآمدي في التعقيب على بيت أبي تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنهم = قد لقبوها جوهر الأشياء
مازلت أسمع الشيوخ يقولون: هذا البيت من تخليطه ووساوسه، لأن الشعر انما يُستحسن إذا فُهم. وهذه الاشياء التي يأتي بها منغلقة، ليست على مذهب الأولين والمتأخرين».
وذكر الثعالبي من عيوب المتنبئ استعماله لألفاظ المتصوفة، واستعمال كلماتهم المعقدة، ومعانيهم المغلقة، من مثل قوله في وصف فرس:

وتسعدُني في غمرة بعد غمرة = سبوحٌ لها منها عليها شواهد
كما عد من عيوبه - بسبب تعقيده - «ا لخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة».
ودعا النقاد الشعراء أن يجتنبوا من القول كل ما يُعتذر عن عدم وضوحه. قال أبو بكر الشنتريني: «الأولى بالشاعر أن يجتنب كل ما اعذر منه، فقد قيل: شر الشعر ما سئل عن معناه، وأحسنه ما كان لفظه إلى سمعك أقرب من معناه إلى قلبك..».
وتحدثت طائفة من العلماء عن الصور الفنية التي يأتي بها الشعراء، فربطوا جمالها بالوضوح، وقدرتها على كشف الغامض، قال الرماني: «التشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض إلى الأوضح. والقبيح خلافه. وأحسن التشبيه ما قارب الحقيقة وكان أبلغ منها..»
وقال أبو بكر الشنتريني: «كلما بعدت الاستعارة عن الحقيقة قُبحت، كقول بعضهم:
اسفري لي يا ضرّة الشمس
كأنه توهم أن الضرة لا تكون إلا حسنة. وهذا وهم شديد، وتوهم غير سديد.. ومن قبيح الاستعارة قول بشار:
وجدت رقاب الوصل أسياف هجرها وقدت لرجل البين نعلين من رجلي
فجعل للوصل رقاباً، وللبين رجلاً. وهذا بعيد جداً..»
وعرف الشعراء أنفسهم ان رواج شعرهم عند المتلقي مقرون بوصوله إليهم، وعدم انغلاقه دونهم، قال ابن أبي المنذر: «إنما نفق شعر أبي نواس على الناس لسهولته، وحسن ألفاظه. وهو مع ذلك كثير البدائع. والذي يُراد من الشعر هذان».
وقال اسحاق بن ثابت العطار: «كنا كثيراً ما نقول للسيد: مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تُسأل عنه كما يفعل الشعراء؟ قال: لأن أقول شعراً قريباً من القلوب، يلذه من سمعه، خير من أن أقول شيئاً معقداً تضل فيه الأوهام».
وقال البحتري يمدح قصائده بالابتعاد عن الغموض والتعقيد:
خزن مستعمل الكلام اختيارا = وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدر = كن به غاية المراد البعيد

مفهوم الوضوح:
ما مفهوم الوضوح الذي هو سمة عامة من سمات الفكر العربي الاسلامي؟ وما صلته بمصطلحات كثيرة قد تلتبس به؟
ان الوضوح لا يعني السطحية والابتذال كما قد يظن بعضهم، وهو لا يتنافى مع الايحاء والاشارة واستخدام الرمز والأسطورة ولغة المجاز والتصوير، بل ان الأصل في لغة الأدب عامة، والشعر خاصة، انها لغة تصويرية مجازية، تعتمد التخييل، وتقوم على التجسيد والتشخيص.
قال الجاحظ «انما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير».
وقال ابن سينا: «الشعر كلام مخيل، مؤلف من أقوال موزونة متساوية. وعند العرب مقفاة».
وكان النقاد يدركون خصوصية لغة الشعر، وتميز لغة الشعراء من لغة الكلام العادي. ان الشعراء - كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي-: «امراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم: من اطلاق اللفظ وتقييده، ومد المقصور، وقصر الممدود، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وايضاحه، فيقربون البعيد، ويبعدون القريب، ويُحتج بهم، ولا يُحتج عليهم..».
وقال ابن فارس عن لغة الشعراء: «الشعراء قد يمنون ايماء، ويأتون بالكلام الذي لو أراد مريد نقله لاعتاص، وما أمكن إلا بمبسوط من القول، وكثير من اللفظ. ولو أراد أن يعبر عن قول امرئ القيس:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
بالعربية - فضلاً عن غيرها - لطال عليه..».
ويقيد ابن فارس امارة الشعراء للغة بقوله: «فأما لحن في إعراب، أو ازالة كلمة من نهج صواب، فليس لهم ذلك، ولا معنى لقول من يقول: ان للشاعر - عند الضرورة - أن يأتي في شعره بما لا يجوز..».
وقال ابن رشد: «والأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة..».
وقد أجمع النقاد والبلاغيون العرب على أن التعبير المجازي أبلغ من التعبير الحقيقي، وأن الكناية - ومن ضروبها الرمز - أبلغ من التصريح.
فالوضوح الذي نصف به الفكر العربي لا يعني السطحية، والتعبير المباشر، وأداء المعنى بشكل مبتذل رخيص، أو تقريره في الذهن تقريراً ساذجاً كما تقرر الأقوال العادية في لغة الخطاب اليومي؛ إن الوضوح الذي هو من صفات البيان العربي ليس شيئاً من ذلك، ولكنه يعني في مفهومه العام بلوغ النص المتلقي، ووصوله إليه، لأن من غايات اللغة - سواء أكانت عادية أم أدبية - الاتصال والإفهام.
ولكن من طبيعة القول الأدبي أنه لا يصل بسهولة، ولا يسلم قيادة من أول سانحة، لأن لغته - في أصلها - شفافة كثيفة، إذ هي تستعمل فيه بشكل طريف جديد، وهي تكتسي بكثير من الظلال والايحاءات، مما يجعل التعامل مع النص الأدبي - والشعري خاصة - تعاملاً غير ميسور للجميع، وهو يحتاج إلى غوص وتأمل، وإعمال فكر، وإيقاظ خاطر، مرفوداً ذلك كله باستعداد ثقافي، وذوق نقدي، وملكة مدربة مصقولة.


٭ بحث مقدم لمهرجان الشعر العربي - الخرطوم - مايو 2011م




وليد إبراهيم القصاب
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى