قحطان صالح الفلا‌ح - المؤثرات الفارسية فى أدب سهل بن هارون (ت 210 ه‍)

توطئة:

بلغت الخلا‌فة الا‌سلا‌مية فى العصر العباسى الا‌ول من الا‌تساع والقوة ذروة فخارها، وأوج انتصارها، منيعة فى وجه الا‌عداء، عصيّة علي الطامعين، يسوسها خلفاء أقوياء، آخذين بنصيبٍ وافرٍ من الحزم والجَلَد، يقظين كل اليقظة الي ما يضمره أعداؤهم من البيزنطيين والثائرين وشذاذ الآفاق.وقد انضوي تحت لوائها شعوب من أجناس وأعراف مختلفة متباينة فى العادات والتقاليد والا‌›ديان; فكان لوجودهم فى كنف الدولة العباسية باعٌ مديد فى ازدهار الحياة الفكرية والعقلية خاصة; إذ ازدهرت ازدهاراً لا‌نظير له من قبل، وكان لوجود الا‌›عاجم وامتزاجهم الجنسى واللغوى والثقافى بالعرب يدٌ طولي فى هذا الا‌زدهار، فتلا‌قحت العقول، وتوالدت الا‌›فكار، فأثمرت جنيً دانياً، وافر الثمرات.

وكان للفرس النصيب الا‌وفي من المشاركة والفعالية، ولا‌غرو فى ذلک; فعلي اكتافهم قامت الدعوة العباسية، فاستقي بنو العباس كثيراً من نظمهم الا‌ںدارية، وسياستهم فى الحكم، <بل بالغ الخلفاء العباسيون فى التأثر بالنظم الفارسية، الي حدٍّ أنهم اتخذوا معظم وزرائهم من الفرس>([1])، فطبعوا الدولة بطابعهم، وحاكي الخلفاء ملوكهم وساستهم، وساروا علي سننهم فى كثير من مظاهر الحياة. وكان للفرس إسهامٌ كبير، وفضلٌ لا‌يُجحد فى ميادين العلم والمعرفة، سواء أكانوا كتّاباً أم مترجمين، فقد كانوا من أنبه النقَلَة الي العربية; إذ نقلوا الكثير من علومهم ومعارفهم، فضلا‌ً عمّا كان لديهم من آداب ومعارف الهند واليونان وسواهم <ومن الثابت ان لوزراء الدولة العباسية من الفرس أثراً بارزاً، ويداً طولي فى هذا المجال>([2])، ويأتى البرامكة وبنو سهل فى مقدمتهم.

بزر جمهر الا‌ںسلا‌م :

هو سهل بن هارون بن راهبون (فى بعض المصادر: راهيونى، راهويه، رامنوى) الكاتب، ابو عمرو، فارسى الا‌›صل. ولد فى ميسان، بين البصرة وواسط، وقيل: فى دستميسان، حوالى سنة 140 ه‍أو بعدها بقليل،وغادر مسقط رأسه الي البصرة، وكانت آنذاک (قبة الا‌ںسلا‌م وخزانة العرب)، تستظل بأفيائها عقول العارفين، وتعبُّ من أمواهها أفواه الصيادين، وتحتضن فى أرجائها علماء، غُذّوا بلبانها، واستناروا بنورها; فصار مربدها عكاظ الا‌ںسلا‌م، وملتقي الشعراء والمتكلمين الا‌›علا‌م.وكانت بحكم موقعها وقربها من بلا‌د فارس، موئل مختلف الا‌›جناس والا‌›عراف، من هنود وفرس ويونان ونبط...; فراج الفكر، ونفقتْ تجارة العقل، فنهل من مواردها سهل بن هارون وعلّ، ثم مالبث أن غَذّ السير ميمّماً بغداد، حاضرة الا‌ںسلا‌م وأمّ الدنيا آنذاک، فعمل كاتباً بين يدى يحيي البرمكى، ثم الرشيد من بعده، وفى عهد المأمون صار قيّماً وخازناً علي دار الحكمة، وظل فيها الي ان توفى عام 215 للهجرة([3]).

ذكر ابن النديم ان سهلا‌ً <كان حكيماً فصيحاً شاعراُ، فارسى الا‌›صل، شعوبى المذهب،... وكان ابو عثمان الجاحظ يفضله ويصف براعته وفصاحته،ويحكي عنه فى كتبه>([4]). وقد انفرد كما يقول ابن نباتة - <فى زمانه بالبلا‌غة والحكمة،وصنّف الكتب الحسنة معارضاً بها كتب الا‌›وائل، حتي قيل له: (بزرجمهر الا‌ںسلا‌م)، وله اليد الطولي فى النظم والنثر>([5]). وقد اشاد الجاحظ به غير ما مرّة، منها قوله: <ومن الخطباء الشعراء الذين قد جمعوا الشعر والخطب، والرسائل الطوال والقصار، والكتب المخلّدة، والسير الحِسان المدوّنة، والا‌›خبار المولّدة: سهل بن هارون بن راهيونى الكاتب، صاحب كتاب ثعلة وعفرة، فى معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الا‌ںخوان وكتاب المسائل، وكتاب المخزومى والهذلية،وغير ذلک من الكتب>([6]).

المؤثرات الفارسية فى تكوينه الثقافى:

إن تأثير الثقافة الفارسية فى نفس سهل بن هارون بعيد الغور، يسرى فيها مسري الدم من العروق، ويخالط شغاف قلبه، ولا‌غرو فى ذلک، فهو فارسى الا‌›رومة، يتغني بأمجاد فارس، وحضارة آل ساسان. ويبدو أنه <كان من مهرة المترجمين>([7]) عن الفارسية، ولم يصرّح أحد من الذين ترجموا له بذلک، بيد أن أدبه يشير بصحة هذا الزعم، إن لم نقل يؤكده; إذ تمتزج فيه معانى الفرس بلغة العرب وبلا‌غتهم، ولا‌يمكن أن نزعم أن هذا الا‌متزاج مصدره شيوع الثقافة الفارسية فى المجتمع العربى آنذاک، والي ما قام به المترجمون من نقل ذخائرهم فحسب، بل إن الا‌›مر أعمق من ذلک وأبعد، يبين لنا جلياً من خلا‌ل التعريج علي بعض الملا‌مح المميزة فى سيرة حياة الرجل، وجدّة الموضوعات والا‌›فكار التى طرقها.

إن ارتقاء سهلٍ هذا المرتقي الصعب، أى وصوله الي منزلة سامقة ومكانة عليّة بين كتّاب عصره، ومترسليه بين يدى يحيي البرمكى، ثم الرشيد الذى أجلّه وعرف فضله، فعفا عنه; ليَعضُد ما ذهبت اليه بكون سهل يتقن الفارسية، كما ذهب إليه غيرى من قبل([8]). <وكان منصب الكتاب يقتضيه ان يكون واسع الثقافة، متجدّد المعرفة; لا‌›نه يعرض علي الخليفة أو الوالى مايُرسَلُ اليه، ويكتب عنه مايُرسَلُ منه، فلم يكن بُدٌّ للكتّاب من إجادتهم العربية، ومعرفتهم بالا‌›دب الفارسى، لهذا ألمّوا بحِكَم العرب وحكم الفرس، ووقفوا علي تاريخ العرب وتاريخ الفرس، وجمعوا بين حكم الخلفاء الراشدين، وأكثم بن صيفى، وحكم بزرجمهر، وكسري انوشروان>([9]). وإذا كان هذا شأن الكتّاب جميعاً، فإنّ سهلا‌ً بذَّ شأوهم فى عصره، واستأثر برفيع المنزلة، وجميل الذكر.

وهذا الجاحظ يُقِرُّ بثقافة سهل الفارسية، حين يقول: <ونحن لا‌نستطيع أن نعلم ان الرسائل التى بأيدى الناس للفرس، انها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولّدة، إذ كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وابى عبيدالله وعبدالحميد وغيلا‌ن، يستطيعون ان يولّدوا مثل الرسائل، ويصنعوا مثل تلک السير>([10]). وهذا دليلٌ بيّنٌ علي إتقانه الفارسية; إذ كيف يمكنه ان يصوغ رسالة علي النمط الفارسى، او يكتب سيرة من سير الفرس، إذا لم يطّلع عليها بالفارسية، او علي الا‌›قل يقرأ عنها، ثم يؤلّف علي غرارها، وينسج علي منوالها. وقد التقي الجاحظ سهلا‌ً يغر مرّة وثاقفه وروي عنه، فهو حسن المعرفة به، يعلم مقدرته الحقة تمام العلم، ولهذا كان دائم الثناء عليه، والا‌ںكبار له، (ولا‌ينبئک مِثل خبير).

وأوصي إبراهيم بن المدبّر (ت نحو 279 ه‍) من يبتغى سُبل الكتابة، قائلا‌ً: <... وانظر فى كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب، ومعانى العجم، وحدود النطق، وأمثال الفرس، ورسائلهم وعهودهم، وتوقيعاتهم وسِيرَهم، ومكايدهم فى حروبهم>([11]). فإذا كانت الثقافة الفارسية أداة من أدوات الكتابة فى الدواوين فى ذلک العصر، فأحري بسهلٍ، وهو الفارسى الا‌›رومة، ان يكون العَلَم الفرد فى ساحتها، والفارس المجلّى فى ميدانها. وحقاً <انفرد سهلٌ فى زمانه بالبلا‌غة والحكمة، وصنّف الكتب الحسنة، معارضاً بها كتب الا‌›وائل، حتي قيل له: بزرجمهر الا‌ںسلا‌م>([12])، فهو إذن يقوم فى العرب مقام بزرجمهر فى الفرس، فى الحكمة والعقل والبلا‌غة والبيان. فلا‌يُعقل والحال ما ذكرنا الا‌يتقن سهلٌ اللغة الفارسية، وقد اتقنها أقرانه من الكتّاب والبلغاء، كسَلْمٍ صاحب بيت الحكمة مع سهل بن هارون، وعلى بن داود كاتب زبيدة، الذى يسلک سبيل سهلٍ فى التصنيف والتأليف، ما ذكر ابن النديم([13])، وأبان بن عبدالحميد اللا‌حقى، وغير هؤلا‌ء ممن ينتهى أصله الي الفرس. ولم يتوقف إتقان الفارسية عليهم، بل إن كثير من العرب كانا يتقنونها كالعتّابى مثلا‌ً. لذا، لا‌غرو إن أتقن سهل لغة قومه، فضلا‌ً عن ثقافته الواسعة بأدب أجداده الفرس وتراثهم التليد. ولم يكن هذا بالطبع علي حساب معارف وثقافات الا‌›مم الا‌›خري، بل ازدحم فى صدره فيضٌ هادرٌ منها جميعاً.

أما فى أدبه، فقد اتّبع الرجل سنَنَ قومه فى التاليف والتصنيف، فألّف فى موضوعات جديدة فى الا‌›دب العربى، تُعَدُّ من صميم الثقافة الفارسية، لعل من أهمها موضوع: الحكاية علي لسان الحيوان.وإذا كان هذا الجنس الا‌›دبى هندياً فى أصوله، علي ما يري الكثير من الباحثين; فإن مسلكه الي الا‌›دب العربى كان عن طريق الفرس، ولا‌يقصد بهذا الكلا‌م أنه لم يكن موجوداً فى أدبنا، بل هو حافلٌ بهذه الحكايات الرامزة; إلا‌انها كانت تُروي شفاهاً، وعلي نحوٍ غير مجموع فى كتاب واحد. ونقل ابن المقفع (ت 142 ه‍) كليلة ودمنة عن اللغة الفهلوية، وكان تُرجم إليها من السنسكريتية فى زمن كسري انوشروان كما يُقال، فأسدي ابن المقفع بهذا الصنيع يداً بيضاء الي أدبنا العربى، وحاكاه سهل بن هارون،وسار علي غراره، وزاد عليه، وكان أثره فى هذا الميدان لا‌يقلّ عن أ ثر ابن المقفع، فقد كان محرّضاً قوياً، وهو أيضاً، لكل من جاء بعده فى السير فى هذه الشِّعاب العذارء، بعد أو وطّأها وذلّل أكنافها. فهذا ابن النديم يقرّر أن على بن داود كاتب زبيدة (ت نحو 230ه‍) وكان أحد البلغاء - <يسلک فى تصنيفاته طريقة سهل بن هارون>([14])، ويقول فى موضع آخر: <... وكان قبل ذلک ممن يعلم الا‌›سمار والخرافات علي ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم عبدالله بن المقفع، وسهل بن هارون بن راهَيُون، وعلى بن داود كاتب زبيدة، وغيرهم>([15]).

ومما يؤسف له ان كتب سهل فى هذا الفن وغيره أيضاً سقطت من يد الزمن، ولميصل الينا غير قصته المعنونة ب‍(النمر والثعلب)، ويجريها سهل علي لسان الحيوان: امّا تأليفه الا‌›خري فى هذا المضمار فكثيرة، وأهمها كتاب (ثُعْلة وعفرة) وقد ذكره الجاحظ وبان النديم وغيرهما، وقد ألّفه للمأمون فى معارضة (كليلة ودمنة) ولم يبق منه غير لُمْعَة نقلها الحصرى لنا فى زهر الا‌›داب وقال بعدها: <وكتابه هذا مملوء حِكماً وعلماً>([16]). وقال المسعودى عنه إنه يزيد علي (كليلة ودمنة) فى حسن نظمه([17]). ويبدو من عنوانات كتبه، التى ذكرها القدماء من مصادر ترجمته، انه أجري بعض قصصه علي لسان الا‌ںنسان أيضاً، مثل (المخزومى والهذلية) و (الوامق والعذراء) كما رأي شوقى ضيف([18]). ومما يؤكد ذلک ما ذكره ابن النديم عن سهل بأنه <ممن يعمل الا‌›سمار والخرافات علي ألسنة الناس والطير والبهائم>.

والحق ان أحداً ممن ترجم له لم يذكر صراحة- ان من بينها ترجمة عن الفارسية او غيرها، الا‌ان قصة (الوامق والعذراء) تتفق فى عنوانها مع قصة فارسية قديمة من بقايا العهد الساسانى، ترجمها الي العربية ابو الريحان البيرونى (ت 440 ه‍) المؤرخ والفيلسوف الشهير([19]). وإذ قلنا <ان سهلا‌ً كان من النقلةِ الي الفارسية، فمن المحتمل ان يكون قد نقل هذا الكتاب من الفارسية قبل البيرونى، أو أن يكون قد وضع كتاباً آخر علي غِرار هذه القصة الفارسية، وسمّاه باسمها>([20]).

ويُعدّ موضوع السياسة الملوكية من أهم الموضوعات الفارسية، التى برّز فيها سهل ولمع نجمه. وقد أفرد لهذا الغرض كتاباً خاصاً، بعنوان: (تدبير المُلک والسياسة) ([21])، ويبدو من عنوانه انه خاص بموضوع إدارة الحكم وتنظيم شؤون البلا‌د والعِباد، وطرق التعامل بين الراعى والرعية، والا‌›دب الواجب مراعاتها لمن حاز حظوة الملوک، وسَمت منزلته عندهم، وجلّت مرتبته فى نفوسهم. وهو يتأثر بما اختطه الفرس فى سابق عهدهم، و <من المعلوم ان الفرس أمة عريقة فى الملک، وترتيب شؤون الخاصة والعامة، وقد كانت لهم فى ذلک طرائق وسياسات وسِيَر، بقيت بقية من هذه الرسوم والسياسات والتدابير الملوكية مدوّنة ومحفوظة فى كتبهم وخزائنهم، كما ظلت صور ملوكهم وسِيَرهم وسياساتهم وتنظيماتهم السياسية والعسكرية والا‌جتماعية مرتسمة فى نفوس أبناء فارس، الذين غَدوا رعايا فى الدولة الا‌ںسلا‌مية>([22]). وكان سهل فى الذروة من هؤلا‌ء; لما يمتلكه من فكر سياسى سديد، وبصيرةٍ إدارية نافذة، وعقلٍ بصير بأقدار الرجال، فظهر أثر ذلک واضحاً فى أدبه. وتُعدّ قصصه علي لسان الحيوان منبراً لبثّ هذه الآراء; إذ ان المقاصد الخفية من وراء تأليفها لا‌تعدو فى الحق، عن اصلا‌ح أولى الا‌›مر وإرشادهم، بما يستقيم به حالهم وحال الرعية معاً; لذا فإن القص علي لسان الحيوان من صميم السياسة الملوكية.

وفى نصيحته الباقية من كتاب (ثعلة وعفرة) يقول: <اجعلوا أداء مايجب عليكم من الحقوق مقدّماً قبل الذى تجودون به من تفضلكم; فإن تقديم النافلة مع الا‌ںبطاء عن الفريضة مظاهر علي وَهَن العقيدة وتقصير الروية، ومضرٌّ بالتدبير، مخلّ بالا‌ختيار، وليس فى نفع محمدته عِوَض من فساد المروءة ولزوم النقيصة>([23]). وهذه النصيحة كما يبدو تخص عطايا الملوک وهباتهم لمن رام رفدهم، وانتجع جنابهم، فلا‌يبقي لهم أن يٌُقدّموا النافلة علي الفريضة; لما ينجم عن ذلک من فساد المروءة ولزوم النقيصة.

وعرضٌ سهلٌ لكثير من القضايا المتعلقة بالسياسة الملوكية، ومنها صفات نديم الملک، وما يتوجب عليه فعله، فقال: <ينبغى للنديم أن يكون كأنما خُلِقَ من قلب الملک; يتصرف بشهواته، ويتقلب بإرادته، إذا جدّ جدّ، وإذا انطلق تطلق، لا‌يملّ المعاشرة، ولا‌يسأم المسافرة، إذا انتشي تحفّظ، وإذا صحا تيقظ، ويكون كاتماً لسره، ناشراً لبره، ويكون للملک دون العبد، لا‌›ن العبد يخدم نوائب، والنديم يحضر دائباً>([24])، وقد لخّص سهل فى هذه السطور القليلة آداب المنادمة بأجمعها، لقوله: <كأ،ما خلق من قلب الملک>، فهذه العبارة تحمل فى طياتها فكراً لا‌تحصر، وما ذكره سهل بعدها إنما هو بعض الوجوه التى ينصرف اليها معني هذه الكلمات، وإن كانت عميقة فى مدلولها هى أيضاً: <يتصرف بشهواته، يتقلّب بإرادته، يكون له دون العبد>، فقد أوجز اللفظ، وكثّف المعني.

وانبري سهل لموضع آخر فى هذا الصدد، هو من الا‌›همية بمكان، وفصّل فيه القول، وحدد أبعاده، وهو موضوع الحجابة، يقل سهل للفضل بن سهل وزير المأمون: <إن الحاجب أحد وجهى الملک، يُعتبر لعيه برأفته، ويلحقه ما كان فى غلظته وفظاظته،فاتخذ حاجبک سهل الطبيعة، معروفاً بالرأفة، مألوفاً منه البر والرحمة، وليكن جميل الهيئة، حسن البسطة، ذا قصدٍفى نيته وصالح أفعاله. ومُره فليضع الناس علي مراتبهم. وليأذن لهم فى تفاضيل منازلهم، وليعظ كلا‌ً بقسطه من وجهه، ويستعطف قلوب الجميع إليه; حتي لا‌يغشي الباب أحد، وهو يخاف أن يقصّر به عن مرتبته. وليضع كلا‌ً عندک علي منزلته. وتعهّده فإن قصّر مقصر قام بحسن خلا‌فته، وتزيين أمره>([25]).

فالحاجب برأى سهل أحد وجهى الملک; أى إن صورة الملک فى عيون الرعية تتمثل من خلا‌ل حاجبه; فيجب اتخاذه علي هذا الا‌›ساس سهل الخلق، ليّن الجانب، رحيماً، جميل الصورة، يعرف أقدار الناس ومنازلهم; فيضع كلا‌ً علي مرتبته، ويستميل القلوب إليه ببشره ودماثة خلقه.

وتتجلي مقدرة سهل الفكرية فى علم تدبير الملک والسياسة، بالغوص العميق فى تحليل نفسية الملوک، وما تنطوى عليه من طباع، من مثل قوله: <الملک صبىُّ الرضا، كهل الغضب، يأمر بالقتل وهو يضحک، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الهزل بالجد، ويتجاوز فى العقوبة قدر الذنب. وربما احفظه الا‌›مر اليسير، وربما أعرض صفحاً عن الخطب الكبير، أسباب الموت والحياة معلّقة بطرف لسانه، لا‌يعرف ألم العقوبة فيبقى، ولا‌يؤنب عن بادرة فينتهى....> ([26]). وتكشف هذه السطور عن عمق معرفة سهل بسياسة الملوک، وأحوال تقلبهم، وهى معرفة استمدت من ثقافة قومه الفرس، الذين كان لهم فيها شأن عظيم. وقد انعكست هذه المعرفة بأخلا‌ق الملوک وسياستهم، وحسن معاشرتهم، وعدم الا‌ںدلا‌ل عليهم فى نفس سهل فتمثلها وعمل بموجبها، فظلّ قريباً منهم، وهبّت ريحهم رُخاء عليه.

ومن وجوه تأثره بأدب الفرس، واستلهامه من معين فكرهم، تأليفه كتاب (سيرة المأمون)، الذى ذكره ابن نباته فى سرحه، فهو دون ريب يقلّد فيه قومه، فى كتبهم المعروفة ب‍(سير الملوک خداينامه)، وقد تُرجم منها الكثير الي العربية، وتُعدّ مجالا‌ً فسيحاً لتضمين الحِكَم والنصائح وضرب الا‌›مثال وأخذ العِبر. ويُظهر الفرس تعلقاً شديداً بملوكهم، إذ <تؤكد أقاصيص الشاهنامة اعتقادهم الراسخ فى عدم إمكان قيام دولتهم وصلا‌ح أمرهم، بغير الا‌لتفاف حول ملک، واستنكارهم الخروج علي طاعة الملوک الشرعيين وتوقّعهم سوء المصير للخارج عليهم>([27]). ومن ثم ورث سهل اعتقادهم، وتأثر به، لذا لا‌عجب أن نراه فى قصة (النمروالثعلب) ينصح الذئب علي لسان الثعلب، بعد أن لجّ فى عصيان النمر الملک الشرعى قائلا‌ً: <فارفق به، واسلک سبيل موافقته، فإنک راعٍ فى ولا‌يته، ولا‌تأخذ به فى طريق العُجب، فيأخذ بک فى طريق القهر والغلبة>([28])، وقال أيضاً: <.... وقد كان يقال: من غالب الملک الحاذق الا‌›ريب المصنوع له، الذى لا‌تبطره السّرّاء ولا‌تدهشه الضّراء، فإنّ حينه يحدوه، وقال بعض الحكماء: معاداة الملک كالسيل بالليل، لا‌تدرى كيف يأتيک، ولا‌كيف تتقيه>([29]).

ويمكن اعتداد موضوع الحِكَم والنصائح والوصايا الفارسية، من أهم ما اختص به أدب سهل; فقد بثه فى تضاعيف كتبه، وأدرجه فى أثناء كلا‌مه، وأتخذه قالباً يصوغ فيه عصارة فكره، وخلا‌صة تجاربه فى السياسة والا‌جتماع والا‌›خلا‌ق. ومن كتبه فى هذا المضمار كتاب (الا‌ںخوان) الذى ذكره الجاحظ، وذكر له ابن النديم كتاب (اسباسيوس فى اتخاذ الا‌ںخوان) ولعلهما كتاب واحد، ويبدو من عنوانهما أنهما يعالجان قضية الصداقة والصديق، التى تطرق اليها ابن المقفع فى كتابه (الا‌›دب الصغير والا‌›دب الكبير); بيد ان سهلا‌ً يُفرد لها كتاباً كاملا‌ً، علي نحو ما يبدو. وسهل بن هارون فى تعامله مع إخوانه <واسع الحلم، إنْ فوخر لم يكذب، وكالا‌›رض ما حمّلتها حملت، وكالماء طهور لملتمسه، وناقعٌ لغُلّة من احترّ اليه....> ([30]). ولهذا لا‌عجب ان نري سهلا‌ً يكتب الي محمد بن زياد الزيادى بعد أن هجاه هذا الا‌›خير: <أما بعد; فالسلا‌م علي عهدک وداع ذى ضنٍّ بل، فى غير مقلية لک، ولا‌سلوة عنک، بل استسلا‌م للبلوي فى أمرک، وإقرار بالمعجزة فى استعطافک، الي أوانِ فيئتک، أو يجعل الله لنا دولة من رجعتک، والسلا‌م. وكتب فى أسفل الكتاب:

إنْ تعفُ عن عبدک المُسىء ففى عفوک مأويً للفضل والمِنَنِ

أتي‍تُ م‍ا است‍حقُّ م‍ن خطأ فَجُد بما تستحقّ من حَسَنِ([31]).

وواضح ان سهلا‌ً يمتلک قدرة متميزة علي ضبط النفس، والمحافظة علي الصديق، والحرص علي المودة، والترفع عن الدنايا، والا‌ںقذاع فى الكلا‌م مع مَنْ أساء اليه. وسهل هنا يصدر بطبعه عن اسلوب فارسى فى الا‌جتماع، كَثُرَ وحِكم سهل تصبّ فى بوتقة السياسة والا‌جتماع والا‌›خلا‌ق، وقد اتّبع فى عرضها أكثر من طريقة، فمن التحليل والتعليل، الي محاورة النفس وملا‌طفة الشعور، والغوص فى أعماق النفس الا‌ںنسانية، وكشف نزعاتها، وجلا‌ء خفاياها.وتأثر سهل أيضاً، فى طريقة عرضه للحِكَم والوصايا، بطريقة مؤثرة لدي الفرس، تقع فى نفس المتلقّى موقعاً محبباً; تلكم هى طريقة السؤال والجواب، وهى من مظاهر الفلسفة الا‌ںغريقية أيضاً، كما فى جمهورية أفلا‌طون. ومن كتب سهل فى هذا الموضوع علي نحو مايشى به عنوانه كتاب (المسائل) ([32])، وقد تُرجم عن الفارسية عددٌ من الكتب بالعنوان ذاته، مثل مسائل أنوشروان الموجّهة بزرجمهر، وإجابته عنها([33]). ولا‌ندرى فيما إذا كان كتاب سهلٍ مترجماً عن الفارسية، او من تأليفه هو، وسلک فيه سُبُلَ الفرس فى هذه التآليف؟ وقد اختتم سهلٌ كتاب (النمر والثعلب) بأسئلة وأجوبة علي لسان شخصياته تتسم بالقِصر لتعلق بالذهن، ويُتمكن من حفظها، علي شاكلة ما يأتى:

<قال: فما الخير الذى لا‌شرّ معه؟ قال: الشكر مع العافية والصبر عند المصيبة>.

<قال: ففيم الكمال؟ قال: فى ثلا‌ثة; الفقه فى الدين، والصبر علي النوائب،وحسن التدبير فى المعيشة>.

<قال: فمن شرّ الا‌›بناء؟ قال: مَنْ دعاه التقصير الي العقوق. قال: فمن شر الآباء؟ قال:: مَنْ دعاه البر الي الا‌ںفراط>.

<قال: فبمَ يسود المرء؟ قال: بأربع; العلم، والا‌›دب، والفقه، والا‌›مانة>([34]).

هذا، وقد تأثر سهل بخصائص أسلوبية فى نثره، تميّزت بها العقلية الفارسية، يمكن المرء أن يقف عندها طويلا‌ً، لولا‌أن هذا الحديث قد جاوز حدّه الذى رُسم له.


المصادر والمراجع

- بدوى، أمين عبدالحميد: جولة فى شاهنامه الفردوسى،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت.

- البغدادى، إسماعيل باشا: هدية العارفين (ومعه إيضاح المكنون للمؤلف نفسه، وكشف الظنون لحاجى خليفة)،دار الفكر، بيروت، 1402ه‍/ 1982م.

- التوحيدى، أبو حيان: البصائر والذخائر، تح: وداد القاضى، دار صادر، بيروت، ط1، 1988 م.

- الصداقة والصديق، تح: إبراهيم الگيلا‌نى، دار الفكر، دمشق، 1964م.

- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تح: عبدالسلا‌م هارون، دار الفكر، بيروت، د.ت.

- رسائل الجاحظ، تح: عبدالسلا‌م هارون، مكتبة الخانجى بالقاهرة، د.ت.

- الحصرى القيروانى: زهر الا‌›دب وثمر الا‌›لباب: تح: على محمد البجاوى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط2، د.ت.

- الحموى، ياقوت: معجم الا‌›دباء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411ه‍1991م.

- الحوفى، أحمد محمد: تيارات ثقافية بين العرب والفرس، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ط3، د.ت.

- الدميرى، كمال الدين: حياة الحيوان الكبري، وضع حواشيه: احمد بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415ه‍/ 1994م.

- سهل بن هارون: كتاب النمر والثعلب، حققه وقدم له وترجمه الي الفرنسية: عبدالقادر المهيرى، منشورات الجامعة التونسية، كلية الآداب، تونس، 1973م.

- الصفدى، صلا‌ح الدين خليل بن أيبک: الوافى بالوفيات، تح: مجموعة من العرب والمستشرقين، الجزء 16 باعتناء: وداد القاضى، دار النشر فارنز شتاينر بفيسبادن، 1402ه‍1982/م.

- ضيف، شوقى: العصر العباسى الا‌›ول، دار المعارف بمصر، ط6، د.ت

- العاكوب، عيسي على: تأثير الحِكَم الفارسية فى الا‌›دب العربى فى العصر العباسى الا‌›ول، دار طلا‌س، دمشق، ط1، 1989م.

- ابن عبدربه: العقد الفريد، شرحه وضبطه: احمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم ا لا‌›بياري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1361ه‍1942/م.

- الكتبى، محمد بن شاكر: فوات الوفيات، تح: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، د.ت.

- كرد على، محمد: رسائل البلغاء، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط3، 1365ه‍1946/م.

- الكروى، إبراهيم سلمان: نظام الوزارة فى العصر العباسى الا‌›ول، مؤسسة شباب الجامعة، الا‌ںسكندرية، ط2، 1989م.

- محمدى، محمد: الا‌›دب الفارسى (فى أهم أدواره وأشهر أعلا‌مه)، منشورات قسم اللغة الفارسية وآدابها فى الجامعة اللبنانية، بيروت،1967م.

- المسعودى، على بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر، صنع فهارسه: يوسف داغر، دار الا‌›ندلس، بيروت، 1416ه‍1996/م.

- ابن نباته المصرى: سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون، تح: محمد ابو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربى مطبعة المدنى، القاهرة، 1383ه‍1964/م.

- ابن النديم، محمد بن ابى يعقوب إسحاق: الفهرست، شرحه وعلّق عليه: يوسف طويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416ه‍1996/م.
 
أعلى