محمد بن العياشي - رسائل الموحدين في الموقف من الفلسفة

( الحلقة الأولى)

لقد تعرضت مجموعة من القضايا الفكرية والعقدية في العهد الموحدي بالمغرب والأندلس إلى بعض الهزات ( ) من الرفض والاستنكار وذلك من منطلق الرغبة "في الإصلاح والرجوع بالدين إلى بساطته وصفائه مجردا من تعقيد الآراء واختلاف الأقوال"( ).
وقد تفاوت موقف الموحدين في درجة الرفض أو القبول للفلسفة ، وذلك حسب رغبة الخلفاء وتطور مراحل دولتهم. حيث وجدنا عددا من الخلفاء يشجع عليها؛ كالخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي قرب منه مجموعة من الفلاسفة؛ كابن طفيل وابن رشد، وكان ينقطع إليهم أحيانا ولا يظهر للناس، لانشغاله معهم في معالجة المسائل الفلسفية. وكذلك فعل ابنه المنصور الذي شجع عليها في بداية أمره، ثم سرعان ما انقلب ضدها( )، حيث عدها من الأمور المنكرة المعيقة للدين التي تحتم عليه محاربتها؛ باعتباره مصلحا دينيا، وكذا منع تداولها بين الناس باعتبارها من البدع المضللة لهم( ). ومن نماذج الرسائل الموحدية في الموضوع رسالة المنصور، وهي من إنشاء أبي عبد الله بن عياش في التحذير من الفلسفة ومن تعليمات ابن رشد( )، ومما جاء فيها قوله واصفا بعد المسافة بين الفلسفة والدين : "... وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عواقهم بشفوف عليهم في الأفهام ... فخلدوا في العالم صحفا مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويشيدون فيها شواكل وطرقا"( ).
يعرب المنصور في هذا النص عن موقفه الرافض للمشتغلين بالفلسفة، معللا رأيه ذلك بعدد من الحجج المنطقية؛ منها معالجتهم قضايا وموضوعات فكرية معقدة (بحور من الأوهام)، وميلهم إلى الغرور والتعالي على الناس (شفوف عليهم في الأفهام)، ومنها أيضا ما خلفوه من مؤلفات وآراء أساءت إلى الدين وأسهمت في تعقيد أموره وتشعيب قضاياه، من خلال تعدد الشروح المتضاربة والمختلفة حول قضايا الدين والله والكون والعالم، والنفس، والحياة والموت، والتي بلغت إلى حد إثارة الفرقة والفتنة بين المسلمين الذين انقسموا إلى شيع وفرق متناحرة وملل ونحل؛ كالأشاعرة والمعتزلة( ) وغيرهم. على أن أهم حجة يقدمها المنصور لتأكيد موقفه الرافض للفلسفة هي اعتراضه المنطقي عن ادعاء الفلاسفة امتلاك الحقيقة منهجا وبرهانا، من خلال اعتقادهم أن ما يقومون به هو عمل عقلي، لا يقربه الهوى، وأن العقل وحده يكفي لتفسير الظواهر الكونية، وفهمها فهما صحيحا. (العقل ميزانها والحق برهانها). ولكن المنصور يرى أن هذا الادعاء هو مجرد وهم باطل ؛ لأن العقل لا يتجاوز المعقولات، بدليل أنه كثيرا ما يتلاشى أمام تفسير عدد من الأمور الغيبية( ) العصية عن الإدراك، فيسقط في عدد من الاختلالات في الفهم، ويسبح في بحر من الاختلافات (وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويشيدون فيها شواكل وطرقا).
فالتشعب في القضايا هو الرد المنطقي على قصور العقل ونسبيته وعدم كفايته وقدرته المطلقة على جز دابر الاختلاف بين الفلاسفة أنفسهم. ومعنى هذا أن هناك ظواهر لا يمكن الإجابة عنها بمفاهيم عقلية، أو ملكات واعية، بل قد تحتاج إلى إجابات خاصة يمتزج فيها العقل بالنقل، والذات بالموضوع، وذلك لضمان تهييء بعض أسباب الفهم المقبول للظواهر الكونية.
والظاهر أن التكامل بين العقل والنقل( ) هو أساس دعوة المنصور التصحيحية لانحراف الفلاسفة وركونهم إلى زاوية نظر عقلية، تنكر كل ما عداها من رؤى أخرى، بما في ذلك إنكار الغيب الذي لا يخفى أثره البالغ على الدين.
وبعد هذا التذكير بأثر الفلسفة السيء على الدين تدرج المنصور في رسالته إلى الأمر بمنع تداول كتب الفيلسوف ابن رشد قائلا: " فاحذروا – وفقكم الله – هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم، فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه ، واليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه "( ).
يتبين من لهجة الخطاب التحذيرية( )، الموقف الصارم للمنصور من كتب الفلسفة التي شبهها هنا بالسموم السارية في الأبدان ، حيث لوح بالعقاب الشديد لمن يتداولها ويتمثل في النار للكتاب ومؤلفه وقارئه( ). ولعل في هذا إشارة صريحة لموقف المنصور الداعي إلى إحراق كتب الفلسفة بعامة وكتب ابن رشد بخاصة؛ وذلك للحفاظ على الدين. وقد نفذ المنصور تهديده ضد ابن رشد، حين نفاه خارج مدينته، ولكنه ما لبث أن عفا عنه.
ومهما يكن موقف المنصور من ابن رشد ، فقد تبين جليا أن الفلسفة شكلت في عهد الموحدين موضوعا من الموضوعات المريبة رغم اعتناء بعض الخلفاء بها. كما اتضح موقف الموحدين الصارم والحازم منها وبخاصة حين اعتبرت داعيا من دواعي الفرقة والاختلاف بين المسلمين، وضررا يستوجب رفعه عن كاهلهم ، من أجل توحيد صفهم، ومحاربة عدوهم، والحفاظ على شجرة الإسلام في بلادهم .

الهوامش:

( ) أقول هزة لكي لا نعطي الانطباع بأن الموحدين كانوا ضد الفلسفة أو المهدوية بهذا الإطلاق، ولأن الموقف العادي هو أن الفلسفة مثلا عرفت نشاطا بارزا في هذا العهد، بل لعلها كانت من أهم مميزاته. وهي من الأمور التي نبه عليها غرسيه غومس في بيان أهمية العصر الموحدي الذي تميز بثلاث فعاليات حضارية في غاية الأهمية، لا ينبغي لمثقف– في رأيه- أن يجهلها تلك هي؛ الفلسفة وفن العمارة والنحو. (انظر الأدب الأندلسي في عصر الموحدين، لحكمت علي الأوسي: 38-39، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1976م).
( ) الأمير الشاعر أبو الربيع سليمان الموحدي: 59.
( ) لم تكن معارضة المنصور للفلسفة موقفا جديدا في المغرب، فقد سبق للمرابطين أن عارضوها للسبب الديني نفسه، وكذلك كان موقف الأندلسيين من الفلسفة منذ عهد بني أمية. فقد ذكر المقري أن من يقرأ الفلسفة كان يتهم بالزندقة وتحرق كتبه" النفح : 1/221. وبالطبع عرف هذا الموقف من الفلسفة حالات من المد والجزر في العدوتين معا.
( ) يمكن عزو الحزم الموحدي في مواجهة الفلسفة إلى سبب آخر لا يقل وجاهة عن الأسباب المرتبطة بالفلاسفة وأثر الفلسفة على الدين، ويتعلق الأمر بخوف المنصور من الخلاف بين المسلمين وبخاصة خلال معارك الجهاد بالأندلس، والدليل على ذلك هو أن يعقوب المنصور حين عزم على الذهاب إلى أرض الأندلس سنة 591هـ من أجل الجهاد صحب معه في هذه الحملة عددا من العلماء الذين يتقنون علم الكلام والفلسفة للرد على آراء بعض الفلاسفة والمتكلمين ودحض أباطيلهم, ومن هؤلاء العلماء أبو الحجاج يوسف المكلاتي الفاسي (626هـ) صاحب كتاب "لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول" حققته فوقية حسن محمود، القاهرة، ط1، 1977. انظر الذيل والتكملة لعبد الملك المراكشي : 6/125-129 تح: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت).
( ) يتعلق الأمر بأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد (ت 595هـ)، وقد اشتهر بجمعه بين الفقه والفلسفة والطب، على عكس جده ابن رشد الذي كان فقيها فقط. وكانت علاقة ابن رشد الحفيد بالخليفة يوسف بن عبد المؤمن قوية وذلك قبل أن تتعرض للاهتزاز في عهد ابنه الخليفة يعقوب المنصور. وقد عزا صاحب المعجب محنة ابن رشد إلى سببين جلي وخفي؛ معتبرا السبب الخفي هو أكبر أسبابها؛ وهو أن ابن رشد في شرحه لكتاب الحيوان لأرسططاليس قال عند كلامه على الزرافة، "وقد رأتها عند ملك البربر"، يقصد يعقوب المنصور الذي استاء من هذه التسمية، معتقدا أن ابن رشد استخف به. فحنق عليه دون أن يظهر ذلك.
فأما السبب الظاهر الذي كان وراء إحراق كتب الفلسفة كلها بما فيها كتب ابن رشد فقد ارتبط بسعاية قوم من أهل قرطبة بابن رشد عند يعقوب المنصور بسبب ما وجدوه من تلاخيص بخط يده تحكي عن بعض قدماء الفلاسفة، يستفاد منها أن الزهرة أحد الآلهة، فعقد المنصور في قرطبة مجلسا لمحاكمة الفيلسوف الذي أنكر المنسوب إليه، فأمر يعقوب بلعنه، ونفاه إلى "اليسانة"، وكتبت الكتب بمنع كتب الفلسفة وإحراقها. (انظر المعجب: 435، عنوان الدراية: 208).
( ) عصر الموحدين وانهيار الأندلس الكبرى، محمد عبد الله عنان: 226-227، ط القاهرة.
( ) هناك من جعل المعتزلة وحدهم في عشر طبقات مختلفة. (انظر : فلسفة المعتزلة، تأليف جماعة من الأساتذة : 12، الدار البيضاء 1986م).
( ) ومما قاله ابن حبوس في هذا السياق مفندا ادعاء الفلاسفة بكفاية العقل في تفسير الغيب:
الديـن ديـن الله لم يعبأ بمب تدع ولم يحفـل بضـلـة ملحد
قالوا بنور العقل يدرك ما ورا ء الغيب قلت قدى من الدعوى قد
بالشرع يدرك كل شيء غائب والعـقـل ينكـر كل ما لم يشهد
قالوا الفلاسف قلت تلك عصابة جاءت من الدعـوى بما لم يحمد
الوافي بالأدب: 1/107.
( ) كان المنصور شغوفا بالدراسات التي تتناول العلاقة الإيجابية بين الفلسفة والدين. ومن أجل ذلك قرب إليه في بداية الأمر، الفقيه والفيلسوف أبا الوليدين رشد الذي بادر إلى كتابة رسالة مهمة في الموضوع بعنوان " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" دافع فيها عن الشريعة من خلال انتقاداته للمتكلمين (أي الأشاعرة) الذين "مزقوا الشرع وفرقوا الناس كل تفريق" (انظر فصل المقال لابن رشد الحفيد: 55، تـح: ألبير نصري نـادر، دار المشرق بيروت، ط 3، 1986م). وكان انتقاده يقوم على أساس أن التأويل الذي يقول به الأشاعرة يشكل فسادا وضررا على الشريعة "وأنت إذا تأملت في هذه الشريعة في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل" وهو موقف شبيه بموقف المرابطين من الأشاعرة ومن التأويل. (انظر، مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد: 182، تح: محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 1964م).
( ) عصر الموحدين وانهيار الأندلس الكبرى: 227 .
( ) من النصوص المساوقة لهذا الموقف قول أبي حفص الأغماتي ( ت 604 هـ ) في ذم الفلاسفة والتحذير منهم – وهم المعنيون بقول القدماء – " إياكم والقدماء وما أحدثوا ، فإنهم عن عقولهم حدثوا ، أتوا من الافتراء بكل أعجوبة، وقلوبهم عن الأسرار محجوبة، الأنبياء ونورهم لا الأغبياء وغرورهم. (الوافي بالأدب: 1/181).
ويقول الرحالة المعروف محمد بن جبير متهما الفلاسفة بالضلال والمروق:
قد ثبت الغي في العباد طائفة الكون والفساد
يلعنها الله حيث كانـت فإنـها آفة العبــاد
وقوله أيضا مبينا أثر الفلسفة على الدين:
يا وحشة الإسلام من فرقة شاغلة أنفسهـا بالسفـه
قد نبذت دين الهدى خلفها وادعت الحكمة والفلسفه
وقوله في المعنى نفسه:
قد ظهرت في عصرنا فرقة ظهورها شـؤم على العصر
لا تقتدي بالديــن إلا بما سن ابــن سينا وأبو نصر
( أي: أبو نصر الفارابي )، انظر شعر ابن جبير ( ت 614 هـ ): 39-99 ، تح: فوزي الخطبا، دار الينابيع للنشر والتوزيع، عمان، ط 1، 1991، عصر المنصور الموحدي لمحمد الرشيد ملين: 180، المطبعة الملكية، الرباط، ط 2، 1996 م.
( ) روي عن المأمون ابن المنصور أنه قتل ابن حبيب القصري بسبب اشتهاره بالفلسفة. (انظر المغـرب لابن سعيـد:1/296، النفح



د. محمد بن العياشي
رسائل الموحدين في الموقف من الفلسفة


الادب المغربي.jpg
 
أعلى