محمد بن العياشي - رسائل الموحدين في الموقف من المهدوية

(الحلقة الثانية)


-2 -الموقف من المهدوية:
بعد أن تناولنا موقف الموحدين من الفلسفة في الحلقة السابقة، سوف نعالج في هذا الجزء الثاني قضية لاتقل عنها جدلية، ويتعلق الأمر بقضية المهدوية. ولنبدأ أولا بالوقوف عند معنى الكلمة وما تدل عليه. فالمهدوية ( أو المهدية ) هي فكرة من أفكار المذهب الشيعي، وتقوم على أساس توقع مجيء داعية اسمه المهدي المنتظر ليخلص العالم من شروره" ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا، وسيبقى أمره قائما إلى أن تقوم الساعة "( ).
ولم تكن فكرة المهدوية التي قامت عليها الدعوة الموحدية جديدة بالمغرب، فقد كان ظهورها فيه لأول مرة عندما تمت مبايعة "عبيد الله الفاطمي" بالمهدوية بسجلماسة سنة 297 هـ كأول مهدي منتظر في العالم( ) .
ويظهر أن مهدوية "محمد بن تومرت" مؤسس الدولة الموحدية تقتفي – في بعض جوانبها – أثر المذهب الشيعي ومهدوية الفاطميين، إلا أنها لم تكن مغالية كمغالاتها( )، ومع ذلك فقد كانت محل نقد واستنكار من طرف فقهاء المالكية( ) وبعض الخلفاء الموحدين أنفسهم الذين تصدوا لمهدوية ابن تومرت باعتبارها بدعة فاسدة، وذلك في سياق جهادهم الداخلي الذي ينسجم ونظرتهم الإصلاحية التصحيحية التي ترفض تعقيد الدين حتى لو تعلق الأمر ببعض أسس الدعوة الموحدية نفسها كما نلاحظ ذلك في تعاملهم مع قضية المهدوية، حيث تؤكد رسائلهم أن يعقوب المنصور كان على وشك التصريح بأنها بدعة لولا وفاته، ولعله لم يفعل ذلك أيضا بسبب رغبته( )، بسبب رغبته في الحفاظ على كلمة الموحدين وخوفه على دولته من أخطار الفتنة والتمزق( ).
ويبدو أن الحسم في أمر المهدوية لم تنضج أسبابه( ) إلا في عهد المأمون -ولد يعقوب المنصور- فهو الذي أمر بنبذ المهدوية وإزالة اسم المهدي من السكة والخطبة وغيرهما.
ومن الرسائل النفيسة في هذا السياق، رسالة المأمون إلى الأمة التي يقول فيها بعد الديباجة : "وبعد فالذي أوصيكم به تقوى الله العظيم، والاستعانة به، والتوكل عليه، ولتعلموا أننا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحق، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم، وما سمي مهديا، إلا أنه تكلم في المهد، فتلك بدعة قد أزلناها، وقد أسقطنا اسمه، ولم تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فيمحى ويسقط ولا يثبت"( ) ثم انتقل إلى الحديث عن سبق والده المنصور إلى التفكير في إلغاء المهدوية قائلا:
"وقد كان سيدنا المنصور هم أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرفع عن الأمة الحزن الذي رفعنا، فلم يساعده لذلك أمله، ولا أجله لزواله إلا أجله"( ) .
يظهر من النص أن المنصور هو أول من أرسل شعاع ضوء الإصلاح والتصحيح على إحدى العتمات في تأسيس الدولة الموحدية، فاتحا بذلك الباب أمام ابنه المأمون الذي لم يقف عند حد الإنكار، بل تعدى ذلك إلى ذم المهدي (مؤسس الدولة الموحدية)، ونبذ مذهبه حين بين حقيقة المعنى اللغوي لاسم المهدي الذي تم إطلاقة على سيدنا عيسى بن مريم، وما تم تحميله لهذا اللفظ من معان مبتدعة وباطلة.
والسؤال الآن: لماذا كل هذا الطعن على مهدوية الموحدين سواء من العلماء أو الخلفاء؟ وما وجه الباطل أو البدعة فيها. ربما لا يسمح الحيز المخصص لهذه القضية من الإفاضة في الجواب عن السؤال، ولكنني مع ذلك أرى من اللازم أن أشير إلى بعض عناصر الإجابة قصد تعميق فهم الموضوع وسبر أغواره.
لعل أول اعتراض يوجه إلى مهدوية ابن تومرت هو تكفيره لعدم المؤمنين بها "إن الإيمان بالمهدي واجب، وإن من شك فيه كافر"( ).
أما ثاني اعتراض فهو القول بعصمة المهدي "وإنه معصوم فيما دعا إليه من الحق، لا يجوز عليه الخطأ فيه ... وإنه يفتح الدنيا شرقها وغربها"( ).
يظهر من إقرار ابن تومرت بأنه المهدي المعلوم، والتخصيص بالعصمة أنه كان يسعى إلى التأثير في أتباعه لكي يطيعوه طاعة عمياء ؛ وهو الأمر الذي قاده إلى ابتداع أشياء كثيرة ؛ كالكرامات المتعددة ، وانتحال القضايا الاستقبالية ، والدعاء بأنه مأمور من الوحي، وغير ذلك من الأمور التي استنكرها الفقهاء وشنعوا بصاحبها المهدي بن تومرت، وأفتوا بكفره ( ) لادعائه أشياء مخالفة للشرع، وقتله لمخالفيه من غير اقتراف أي ذنب( ).
وينسجم موقف الفقهاء مع العقيدة السنية التي لا ترى العصمة إلا للأنبياء ، كما أنها ترفض وصف الأئمة بأنهم يعلمون الغيب وما يخفيه الغد .
و يبدو أن المعارضة للمهدوية والعصمة كان لها أثرها البالغ مع تطور مراحل الدولة الموحدية ، حيث أصبحت تغيض فكرة المهدوية بعامة والإمام( ) المعصوم بخاصة إلى أن حسم أمرها المأمون بقوله: "وإذا كانت العصمة لم تثبت للصحابة، فما الظن بمن لم يدر بأي يد يأخذ كتابه. أخالهم، قد ضلوا وأضلوا، ولذلك ولوا وذلوا، ما تكون لهم الحجة على تلك الحاجة. اللهم أشهد، أننا تبرأنا منهم براءة أهل الجنة من أهل النار، ونعوذ بك من أمرهم الرتيب، وفعلهم الخبيث؛ لأنهم في المعتقد من أهل النار، وإنا نقول فيهم، ما قال نبينا عليه أفضل السلام، " رب لا تذر علي الأرض من الكافرين ديارا"(*) ( ).
يتضمن النص شهادة براءة قوية للخليفة الموحدي المأمون من عصمة المهدي بن تومرت التي طالما أشاد بها الموحدون، وسودوا بها بياض رسائلهم، ولا شك في أنها ثورة عميقة ضد أهم الأسس التي قامت عليها الدعوة الموحدية، والتي بلغت حد تفكير المهدي بن تومرت؛ كما يظهر من الدعاء الختامي للرسالة. ولا جرم، فمثل هذه الرسائل قد تطرح أمام الباحث أسئلة أخرى مفتوحة لا يتسع المجال للخوض فيها مثل: هل يمكن اعتبار هذه الشهادة الصادرة عن خليفة موحدي دليلا على بطلان بعض أسس الدعوة الموحدية، وعلى هيمنة الطابع السياسي على الديني فيها ؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار هذا الموقف من الفروع المالكية ومن المهدوية والعصمة دليلا على رغبـة إصلاحيـة موحدية – لا تشوبها شائبة – في الدفاع عن الدين وعن بساطته، وإنقاذه من الانحراف والبدع، ارتباطا بدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل ما قام به المأمون من إزالة رسوم المهدي وتعاليمه هو اقتراب من أهل السنة، وانتصار للفقهاء المعارضين للمهدوية، وإقرار بانهزام دعاة الموحدين الذين لم تظهر عليهم – فيما يبدو– أية معارضة أو بوادر انتقاد( )، بل بالعكس، فقد أشاد الشعراء الموحدون بهذا العمل ونوهوا به( ).
تلكم بعض الأسئلة ونماذج القضايا الشائكة التي تطرحها علينا رسائل الموحدين المرتبطة بدعوة الإصلاح وتغيير المنكر التي قادها المهدي بن تومرت، واستمرت ردحا طويلا من الزمن قبل أن ينقلب الموحدون أنفسهم على بعض أسسها وقضاياها؛ كالدعوة إلى العقل والمهدوية والعصمة التي أصبحت عندهم محل انتقاد ورفض وإنكار. بينما اطرد نشاط دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الميدان الاجتماعي والخلقي دونما اختلاف بين الموحدين أو بينهم وبين المرابطين؛ وذلك بحكم المعطيات الاجتماعية والدينية الموحدة بين العهدين، كما يظهر هذا واضحا من القضايا الكبرى التي عالجتها رسائل المرابطين والموحدين في الجانب الاجتماعي والخلقي.
الهوامش:

( ) أعز ما يطلب: 245- 246 .
( ) انظر الدعوة الموحدية بالمغرب:217 ، مقدمة أعز ما يطلب لعبد الغني أبي العزم :21 .
( ) توصف مهدوية محمد بن تومرت بالاعتدال، وذلك مقارنة مع المهدوية الفاطمية التي قامت على مبادئ إسماعيلية مغالية يعدها الإسلام كفرا؛ لأنها تنتهي في كثير من الأحيان إلى تأليه الأئمة، بخلاف مهدوية ابن تومرت التي تندرج في سياق جهاده الداخلي ضد خصومه المرابطين أكثر مما تندرج في عقيدته المذهبية " فهو رجل مصلح ثوري، أراد أن يعيد للإسلام جدته وقوته عن طريق المهدوية والإمامة ".
انظر مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي لعبد الهادي أحمد الحسين: 1/173 ، طبع اللجنة المشتركة المغربية الإمارتية 1982 .
( ) أعد الفقهاء المالكيون هذه العقيدة الموحدية بدعة أو مجموعة بدع محرمة ، وأن أهلها خوارج . انظر الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام لعباس بن إبراهيم المراكشي: 4/73 المطبعة الملكية، الرباط: (وانظر أيضا: حول تاريخ المجتمع المغربي في العصر الوسيط: 43).
( ) ومما يؤيد هذا الموقف سؤال يعقوب المنصور أحد طلاب العلم، يدعى ابن هانئ الجياني. عن ما قرأه من العلم فكان جواب الطالب : تواليف المهدي. وقد أغضب هذا الجواب يعقوب الذي رد عليه بالقول: ما هكذا يقول طالب العلم، إنما حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت شيئا من السنة، ثم بعد هذا، قل ما شئت, (المعجب: 417).
( ) لعل هذا ما ظهر في رسائل يعقوب المنصور التي حافظت على العبارة النمطية المألوفة لدى الموحدين وهي: "الرضى عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم". (انظر مجموع رسائل موحدية، الرسائل رقم: 27-28-29-30-31-32-33-34-35).
( ) في مقدمة هذه الأسباب الصراعات الداخلية بين شيوخ الموحدين على الحكم.
( ) الحلل الموشية: 164، البيان المغرب: 3/266، عصر المرابطين وبداية الدولة الموحدية: 2/384.
( ) الحلل الموشية. ص.ن.

( ) أعز ما يطلب : 257.
( ) نفسه ص.ن.
( ) وفي مقدمتهم القاضي عياض الذي جاهد ضد المهدوية والعصمة حيث قاد الثورة على الموحدين بمدينة سبتة.
انظر مقدمة المرحوم محمد بن تومرت الطنجي لكتاب " المدارك " لعياض: 1/7.
( ) الإعلام ، للمراكشي: 4/26.
( ) فكرة الإمامة من الأفكار المشتركة بين الشيعة وأهل السنة وربما توسل بها ابن تومرت للتقرب أكثر من أهل السنة تشبها بالأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
(* ) سورة نوح: 28.
( ) الحلل الموشية: 165.
( ) انظر مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي: 1/172
( ) ومن ذلك القصيدة التي أنشدها ابن الخبازة في الإشادة بتبرؤ المأمون من المهدوية حيث تعرض فيها للمهدي قائلا:
وجد النبوة حلة مطـويـة لا يستطيع الخلق نسج مثالها
فأسر حسوا في ارتغاء يبتغي بمحالة نسجا علـى منوالهـا
(انظر أزهار الرياض 2/379).

د. محمد بن العياشي - رسائل الموحدين في الموقف من المهدوية


الادب المغربي.jpg
 
أعلى