نقد هيثم الريس - لماذا أكتبُ ؟

الساعة الثالثة صباحاً ، أنا مُكتظ فوق العادة بالشعور، والذكريّات تقررُ اختناقي هذا الحيّن ، عندما نتذكرُ من لا يستحق ، نعاقبُ على نسيانا لجواهر الحيّاة ، والتي فرطنا بها لأسبابٍ حمقاء لا أكثـر . أكتبُ الآن لأن دمعة واحدة لا تكفي لوصف ما أعيشه، لقد فقدتُ مقدرتي على البكاء مذ زمن بعيد ، وصرتُ أبكي في أحلامي لأعوض بعض الفقد الذي يتنقلُ معي كظل ويتشبث بي كفكرّة . قراري الأول بالكتابة كان قديماً، حينما كنتُ في المرحلة المُتوسطة، انعزالي عن الأقران وطد علاقتي بها ، فأصبحت منذ الوهلة الأولى تحملُ نظرياتي ، طريقتي في النظر للحياة من عدستي المُكبِرة، الناس لم تكن تتفهم ذاك السلوك وظلت تصفه
بالغامض و الغريِب يوماً بعد يوم ، وهذا ما جعل انكفائي على ذاتي أعمق من كل أحد لذا أنا أكثرُ فهماً لذاتي بينما يتعلقون بالأشياء التي تقول مَن هم، صممتُ إذني عن كل ذلك ، هناك أزمة ثقة بيني وبين الناس، فعندما كنتُ صغيراً اجتمع الكثرّة ليوقفوا مسيرتي، فقط لأني سحبتُ البساط من تحتِ أقدامهم، لم يعد يقرأ لهم أحد ! . كثيرّة الأشياء التي تعرض لها قلبي وكانت فوق طاقته، لقد أصبحت الخيانة ماثلة أمامي و أنا الذي كنتُ أعتقد أنها إفراز وموضوع للقصيّدة لا أكثر . كلهم يعرفون قلبي لِذا يقتربون منهُ ثم يرحلون، فقط ليكسروا إيمانه بالوفاء، ولِيشعروا أنفسهم بأنهم كسبوا معركةً بينما خسروا أنفسهم، لقد اجتمعوا بي، حدثوني ساعاتٍ كثيرة ليبثوا كل ذلك في نصوصٍ تنتقدني ، وتكشف لكل العالم كما أنا مُتوحش، مصاص لدماء البشر ، وسيء ! . لما بلغتُ الثامنة عشر فجرت الفاجعة لهم، لقد أصبح الكل لا يفتأ مناقشاً لما أكتبه، ولتكونَ موجوداً في تِلك الساحة عليك بتحديد موقعك مني ، لقد اعتقدوا أني تجاوزت كل الخطوط الحمراء، و أنا لم ابتدئ بعد ، حتى قرروا إطلاق الكُفر علي ، وبلا مُسوغات ! ، لقد أعطوا أنفسهم صفة مُقدسة ووقعوا باسم الله، بينما ثقافتهم لم تتعدى يوماً الأدب الإنجليزي ! . مرّت سنوات عِدة لقد اعتقدتُ أني لن أعود للكِتابة الأدبية مرّة أخرى ، وكنتُ أقاوم هذا بكتابة المقاطع القصيّرة، ولأكافح لبداية حالة جديدة و طريقة أخرى أُمسك بها قلمي، بدأتُ كطفلٍ جديّد صار عاهل آلام العالمين ، وسميّته أوزان . لقد صار الساخر مأوى لأولئك الذين لم تكن لهم أي يد في كونهم مُختلفين ، وعلامات فارقة، الكثيرُ يقرأ هذا ويصفه بالتباهي ، بينما الأشدُ ألماً أن تكون مختلفاً، لا يفهمك أحد ، و إذا كتبتَ لم يستطع قراءتك ، وربما أصابهُ الصداع لِكثافة ما كتبتُ، ما الأشدُ وحدةً مني؟ . كثيرة الأسباب التي جعلتني أكتبُ من الداخل ، و أن أتعمق أكثر فأكثر كل ما مرَّ الزمن ، و لأمحو لغة الماضي التي كتبتُ فيها النصوص المُشتركة مع صديقي السابق الذي ظن أنهُ عتيق بما يَكفي لينسى كل ذلك، ويحتاجُ ليذَّكر مراتٍ ليتعرفَ لغته التي صنعت من ذا الإلتقاء ، أين نصوصنا عن دارفور، والعراق، وفلسطين، ما الذي جعلنا نفترقُ لذا الحد عندما ابتدأتَ الكتابة عن الحُب ، و أمعنتُ في الآلام لأكتبَ عن ذا الاجتماع كيف يودع في صدريّ كنورٍ أبدي ، تنبعُ منه اللغة، للحيارى ، ولِمن اختارَ إحدى تلك الطُرق ، من هنا صرتُ أكثر بعداً عن الناس فلا أسمع أصواتهم ، وصارت قلوبهم تخفقُ في صدري . الأصدقاء السابقون يمتلكون جزءً كبيراً من الذاكرة التي تحتاج الخرَّف لتخلعهم مِنها ، وترمي بهم للمُحيط ! ، الخرّف يدلُ أن الذاكرة ممتلئة أكثر مما يجب بمن لا يستحقُ أن يذكر ، لذا عقدتُ إتفاقاً مع النسيان أن نبقى أقرب صديقان مهما كان من أمر ، ولذا أُمارس الكتابة أشارك الورق الذاكرة، وأشارك القهوة حزني الذي يذوب في تفاصيل الكُتب ، ويختبئ بين صفحاتٍ لا أعرفها ! . الإنسان بطبيعته يحتاجُ للتحدث مع مَن يتفاهم ويتعايش معه، لكن تلك الحاجة سرعان ما تتبدل عند العودة للذات، الإنكفاء للكتابة، الحُزن الفريد يتحول سريعاً لأفراح، وعند معرفة الناس بما يكفي عن تعريفهم بأنفسهم ، لذا أختارُ الصمتَ أحياناً، و أتحدثُ بما يقرب تلك الروح مني بالحس لا باللغة وحدها، وبالكتابة كمرحلةٍ مُتقدمة لنقل ذلك . لقد صارت الكتابة سلوك يومي أفعله و إن لم أُمسك بقلم، لذا هناك فجوة بيّن ما أعرفه، و ما أنا خبيّر فيه . لقد مرّت هذه التجربة وكأنها ساعة نهار، الذين عادوا أصبح بعضهم من الأصدقاء، وذابَ الآخرون في الحيّاة،، ولم نعرفنا . كل تلك الذكريات تذوبُ ببعضها البعض، وكأنها موقف واحد بمكان واحد يصارعُ النسيّان ليملأ بما هو أجدى و أنفع . ما زالت تلك الكلمات التي تصفني بالتعقيّد و الصعوبة حاضرة، وكيفَ تنسى . بينما كانت كتابتي دواء للروح التي تسكنني ، كانت تفتقُ جروحَ من جعلوني مشكلة حياتهم، لقد حاولتُ جاهداً الاقتراب، أن أمسح بيدي مكمن الجرحِ فيبرأ، أن أكتب بحبهم قصائد ونصوصا، ولكن لا فائدة ترجى ، ولا ثمرة تُجنى ،، لقد قررتُ الرحيـّل أخيراً رغماً عن اللغة التي سكنت هذه التفاصيل ، لأقرأ قصة وجهي في كل وطنٍ عابر، قرر بعد مئات السنين أن يحالَ على التقاعد، ويقضي أيامه مُتنزهاً بين الأوطان الأخرى ، وكبائعٍ لأجود أنواع الهواء، بينما الجميعُ يستنشق هواءً ملوثاً، مملوء بالموت، ببقايا الفراق تحفلُ به الأرصفة كمشهدٍ لا يُنسى ، وتتصارعُ حقب التاريخ لوضعه ضمن السطور المُهملة . لا تحكي ألمك للأصدقاء، لأنهم سيهونوها، وهذا ما لا يُريّده كل شخص قرر أن يحكي ، أن يُشتت هذه الغصة من اللا شيء، ويحسُ بأنه ليسَ وحيداً على هذا الكوكب ، فلماذا إذا بالمسارعة بوصفِ شعوره هذا بالمُبالغ فيه، بالغير حقيقي، الكتابة تحل هذا اللغط فالحكاية التي أرويها يقرأها الجميع ، وقلبي الذي صارَ مفتوحاً أمام سكان الكرة الأرضيّة، صار أكثر قوةً، وتحصناً. لم أعد ذاك الإنسان المتشبث بما يُريد، لكنها صارت بي مُتشبثة ولا تنفك، لذا لا يتبدل ما أردته، و أحصلُ على ما أُريّد ! على كل حال ما زلتُ ذاك الكائن الذي قرر السير بطرقٍ لم يسلكها أحد ، لذا اعتدتُ صوتي وصارَ حاضراً عندما أكتب ، فوق كل شيء نحنُ نكتب لنحفظ الذاكرة للغة ، و إن نزعنا الماضي هناك شيء يملئ ذا المكان، ربما فكرّة، أو فراغ أو شيء لا نعرفه نظلُ باحثينَ عنه حتى ننتهي، أو نحكم على نفوسنا بالإنقراض المُبكر. لا تدري كيف تمرُ هذه الأيام سريعاً، وتحملك فوق ذلك أعظم و أكثر منها فبعد مخالطتي للناس، عشتُ حيّاة مختلفة كل موقفٍ ومع كل شخص ، أحزان الناس التي يرثون أسبابها مختلفة فالوجوه الغاطة بالبؤس هنا، سعيّدة هناك رغم إتحاد الظروف ! . مذ زمن كنت أتساءل عن إبداء الإمتنان، والشكر، ووجدته أعظم بالكِتابة ، أريد للعالم أن يقرأ هذا الشكر على مدى مئات السنوات، و أريدُ لعقبي أن لا ينسى . بعد كل شيء قد مضى ما زلتُ على ما أنا عليه رغم كل من تبدّل - وربما لم يتغيّر أحد، لكني أنا بدأتُ أكثرَ قدرّة على قراءتي لذا زادت معرفتي بالنـاس ، رغم الوجوه العابسة التي تريدُ القول: لسنا على شيء، وكل ما أمنا بهِ كذبة ليس إلا ، لذا أنصرفتُ عنهم لذلك اليوم الذي ابتسموا فيه، وعندما ابتسموا كنتُ أنا بعيد جِداً في عالمٍ آخر ، لا يمكنني تفهم ذلك، إلا أنه إنتعتاق من الشكِ له أخرى ، وذي حلقة فاصلة بيني وبينهم ، ومن هنا حتماً تضيء جوانبَ في النص الذي يوجدُ من المأساة، والضيّاع، الوحشة في وجوه من رحلت قاصداً لهم، ومن وضعت حياتك، تاريخك على المحك ومع ذا يسألون أسئلة حمقى، و يدعون إختبار المحبة، لا شيء في هذه الدنيا يمكن وصف ما أعيشه من تناقضات الآخر فيّ غير الكتابة . يقررُ الصمت أن يبتاع صوتاً ليصرخَ، ليتملص من ذاتهِ، من زيفِ الحكمة في السكون، لجوهرها في اللا مُبالي بأي أحد في العالم، ومن هنا: كتبتُ رغماً عن النصائح الحمقاء، ورغماً عن الكلمات الجميّلة والتي تبلو سريعاً ، و قررتُ جعل القلم واسطتي للإنسان الذي سكن قلبي ، وتقاسم أمنياتي ، حياتي الرتيبة جداً بتغيرها السريع جداً، بعاهليتي بين الكائنات، بيني وبين ذاتي التي عكست هذا الكون في صدري . سأكتبُ مرّة أخرى لأتساءل و أُجيب، لأجعل حبي خالداً، ولأجعلَ للفراق أسباب مَنطقيّة جداً، لأضع ذاتي على المحك، أو قمة السيّادة، وكما حملتُ آلام العالمين في صدري ، أبثها بالكتابة، وسأجد في كل لحظة تمرُ سبباً جديداً لما أنا عليّه، في استمرار بالكتابة .


خير جليس
 
أعلى