جمال بامي - محمد الصغير الإفراني..

(1)

شخصية هذه الحلقة عالم فاضل من علماء العصر العلوي الأول، ساهم بحظ وافر في الحركة العلمية في عصره خصوصا في ميدان التاريخ والتراجم، يتعلق بالمؤرخ محمد الصغير الإفراني.

جاء في كتاب درر الحجال في مناقب سبعة الرجال أنه أبو عبد الله محمد الملقب بالصغير بن محمد بن عبد الله الإفراني نجارا، المراكشي دارا، ولد بمراكش في حدود سنة (1080ه/1666م) كما جاء في أغلب الكتب التي عرفت به.
وقد اختلف المؤرخون في ضبط نسبه فمنهم من جعله الإفراني بالألف واللام، نسبة لأفران قبيلة بسوس قال ابن المؤقت المراكشي: وقد رأيت بخط المترجم له الإفراني هكذا بالألف واللام، ورب البيت أدري بالذي فيه كما في السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية لابن الموقت المراكشي، وهي النسبة الواردة في كتاب سوس العالمة قال: "وإفران في الجنوب يسمى وادي الأدباء، وسموه كذلك اليفرني واليفراني نسبة إلى بني يفرن، القبيلة الزناتية المشهورة بالمغرب.. ".
كان الإفراني فقيها محدثا، حافظا نحويا بيانيا أديبا بليغا مشاركا في علوم شتى، مشتغلا بالتقييد مستغرق الأوقات في ذلك كما في السعادة الأبدية، وكان ينتسب لبيت علم وصلاح وكانت لأسرته مدرسة بتنكرت، استمرت الدراسة فيها زمنا طويلا، وخرجت العدد الكبير من العلماء والأدباء[1].
وتجدر الإشارة إلى أن عصر الإفراني هو عصر انتعاش للأدب والثقافة على العموم، فبعد الركود الذي شهدته في آخر العصر السعدي بسبب الصراعات بين أبناء المنصور حول الحكم، بدأت ملامح الاستقرار والتطور مع نشاط الزاوية الدلائية وجهود شيوخها في سبيل نشر العلم، وهذا ما أوضحناه من خلال المقالات العديدة التي خصصتها لعلماء هذه الفترة المفصلية في تاريخ المغرب من أمثال اليوسي والمرغيتي، والولالي، والعياشي، والعكاري، ومحمد المرابط الدلائي، ومحمد بن أحمد المسناوي أحد شيوخ الإفراني، ومحمد بن أحمد الشاذلي، ومحمد البكري الدلائي، كلهم ساهموا في إبقاء جذوة العلم متقدة بفضل من الله..
وقد عبر سيدي عبد الله كنون عن ذلك في كتابه خل وبقل بقوله: "إن الثقافة الأدبية اللغوية التي كانت في الناحية التي درس فيها اليوسي أقوى منها في فاس، بل إننا نقول: إن الثقافة اللغوية المتينة التي كانت موجودة في زاوية الدلاء حيث درس اليوسي هي التي أحيت دماء الأدب في المغرب بعد عدم"، وإلى جانب الزاوية الدلائية نشطت زوايا في المجال العلمي والتربوي الثقافي كالزاوية الشرقاوية بأبي الجعد والزاوية الناصرية بتمكروت والزاوية الفاسية، وزاوية تاسّافت التي ألف في رحابها الإفراني كتابه المسلك السهل، وهي زوايا وقفنا عليها أكثر من مرة عبر أعلامها الكبار والعلائق العلمية والثقافية التي كانوا سببا في نسجها واستفحالها وفق القاعدة المباركة المتمثلة في جدل العلم والعمران. أمثال محمد بناصر الدرعي وابنه احمد، وأبو عبيد الشرقي وأحفاده محمد الصالح ومحمد المعطى، وعبد القادر الفاسي وعبد الرحمن الفاسي.. إن هذه الجهود المتواصلة في نشر العلم جعلت الحركة العلمية والأدبية تزدهر بشكل ملفت للنظر، ويكفي أن نعرف أيضا أن هذا العصر هو عصر محمد بن أحمد المسناوي، وأحمد بن عبد الحي الحلبي، الذين كانوا يتميزون بثقافة لغوية وأدبية متينة، والعلامة ابن زاكور، ومصباح الزرويلي..
درس محمد الإفراني ببلده على جماعة من العلماء أمثال الشيخ أحمد بن علي المداسي السوسي، ثم رحل إلى فاس لاستكمال دراسته سنة (1118ه/1706م) وكان يسكن بالمدرسة الرشيدية وهي المعروفة باسم مدرسة الشراطين قرب جامع القرويين المبارك، وقد كانت هيأة التدريس الموقرة التي تتلمذ عليها صاحبنا الإفراني مكونة من السادة الأفاضل العالم الكبير سعيد بن أبي القاسم العميري قاضي مكناس، ومحمد بن عبد الرحمان الفاسي، درس عليه علوم الحديث، والعربي بن أحمد بردلة قاضي القضاة بفاس، وأبو علي الحسن بن رحال المعداني، ومحمد بن أحمد المسناوي، والعربي بن أبي القاسم الإفراني، وأحمد بن عبد الحي الحلبي..
وقد ذكر الإفراني بعضا من هؤلاء الأفذاذ في كتاب درة الحجال[2]، وقد أنهى محمد الإفراني دراسته بفاس (1130ه/1717م) حيث رجع إلى مراكش للتعليم والتأليف، وكان وقتذاك قد بدا في تأليف بعض كتبه.
ويفيدنا الأستاذ حسن جلاب في مقدمة تحقيقه لكتاب درر الحجال للإفراني أن هذا الأخير كانت له علاقات علمية وأدبية مع بعض معاصريه من مدن مختلفة، من أمثال: مسعود بن محمد جموع الفاسي دفين الحضرة السلوية وصاحب نفائس الدرر من أخبار سيد البشر، ومحمد بن حمدون بناني، ومحمد ابن مبارك اللمطي، وأحمد بن عبد الله الوزير الغساني، ومحمد بن الطيب العلمي ومحمد الطيب بن مسعود المريني، وأبو عبد الله بن عبد السلام جسوس وله مراسلات مع الشيخ المتصوف محمد الصالح الشرقي، والد الشيخ المعطى صاحب ذخيرة المحتاج..
بعدما أنهى الافراني دراسته بفاس سنة (1130ه/1717م)، عاد إلى موطنه مراكش، وتصدر للتدريس بها، وكان يدرس العلوم الإسلامية عموما من تفسير وحديث وفقه.
ذكر محمد السملالي[3] أنه كان للإفراني منهج في التدريس، إذ كان إذا افتتح القراءة أملي عليه السارد جميع النصاب، فيشرع في تفسيره حرفا من أوله إلى آخره، وبقي على ذلك عاما كاملا وشاع خبره في البلدان، فصار الناس يكتبون له الأسئلة من أقصى بلاد سوس..
من أشهر تلامذة الإفراني عبد الله بن عبد السلام جسوس، وأهم ما يسجل في هذه المرحلة من حياة الافراني، قيام الطلبة ضده واتهامهم له بالزندقة، وقد رفعوا أمره إلى قاضي المدينة، وقالوا إن التفسير إذا قرئ بمراكش حل به الجوع، وقد طلب منه الحاكم أن يترك تدريس التفسير ويقتصر على الحديث والفقه، فأخذ يدرس صحيح البخاري[4].
ورد الإفراني بسبب الحملة عليه، بالإضافة إلى ذلك، إلى حسد علماء المدينة له لسعة علمه وفقهه، وقد عبر عن ذلك في قصيدة شعرية طويلة هاجمهم فيها، وحمل على الطلبة الذين تزعموا هذه الحركة بتحريض من بعض الشيوخ، ومطلع القصيدة :
إلى كم يهتك الحساد عرضي وجفني عنهم بالحلم معض[5]
يقول حسم جلاب في مقدمة تحقيق درر الحجال للإفراني: "وقد وصلت أصداء الخصومة إلى سوس فدافع محمد بن أحمد التفنكلتي المراكشي عن الإفراني خاصة، بعدما اطلع على أجوبته التي وجهها إليه في موضوعات فقهية كان عددها 25 سؤالا، وقد مر الإفراني في هذه الفترة بأزمة نفسية حادة، وأكبتها ضائقة مالية جعلت دائنيه لا يتورعون عن بيع مكتبته الخاصة لاستخلاص مستحقاتهم، وقد عبر عن تلك المشاعر المؤلمة في الرسائل التي وجهها لشيخ الزاوية الشرقاوية محمد الصالح الشرقي ولعل معاناته للازمة جعلته ينطوي على نفسه وينكب على تأليف أهم مؤلفاته.. ".



------------------------------------
1. المختار السوسي، سوس العالمة، ص: 156.
2. الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام، 6/50.
3. في الإعلام، 6/53.
4. الإعلام، 6/53.
5. الإعلام للسملالي، 6/52.

* ميثاق الرابطة يوم 03 - 01 - 2013

.../...

جمال بامي
 
جمال بامي - محمد الصغير الإفراني..

(2)

يعد الإفراني أحد كبار مدرسي التفسير والحديث والفقه في عصره الزاهر، وله مؤلفات في فنون علمية مختلفة، أهمها التاريخ والتراجم والمناقب، والأدب والبلاغة، والكتابة الفنية والشعر..
وقد كان يَعتبر نفسه أشعر أهل زمانه، فإلى جانب نظمه في موضوع الدفاع عن نفسه من هجومات طلبة مراكش وفقهائها، له قصائد عديدة في مدح أولياء مراكش، وعلى رأسهم أبو العباس السبتي[1].
أما مؤلفاته فهي: المسك السهل في توشيح ابن سهل ألفه سنة (1128ه/1715م) شرح فيه موشح إبراهيم بن سهل، حققه الدكتور محمد العمري، ونال به دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط[2]، وطلعة المشتري في ثبوت توبة الزمخشري، ألفه بين (1128 و1137ه/1715-1724م) وهو مقتطف من أزهار الرياض للمقري، والمغرب في أخبار المغرب، ألفه بين سنتين (1128 و1137ه/1715-1724م) ذكره صاحب دليل مؤرخ المغرب الأقصى العلامة بن سودة[3]، وياقوتة البيان شرح فيه أرجوزة في البلاغة، ألفه سنة (1130ه/1717م)، وروضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف أو الظل الوريف، في مفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف، ألفه سنة (1133ه/1720م)، عرف فيه بالسلطان العلوي مولاي إسماعيل ودولته، وفتح المغيث بحكم اللحن في الحديث، ألفه سنة 1134ه/1721)، ودرر الحجال في مناقب سبعة رجال، عرف فيه بسبعة رجال مراكش لم يكمله، ألفه بين سنة (1134ه/ و1137ه/1712-1724م)، وكتابه الشهير صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، ألفه سنة (1137ه/1724م)، وهو عبارة تراجم علماء وصلحاء المغرب في القرن المذكور، أكمل به كتاب دوحة الناشر بمشايخ القرن العاشر لابن عسكر، وكتابه الآخر الذي اشتهر بين المؤرخين وأهل التراجم: نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي.. عرف فيه بالدولة السعدية وأخبار ملوكها وبداية الدولة العلوية ألفه حوالي سنة (1139ه/1726م)، والإفادات والإشادات، وأجوبة وفتاوي فقهية، ورسائل وأشعار مختلفة، وتقريظ رسالة لمحمد بن عبد المومن سماها تنقية النفس، ألفها سنة (1156ه/1742م)، والوشي العبقري في ضبط لفظ المقري عرف فيه بمؤلف نفح الطيب ألفه سنة (1156ه/1742م)[4]، وخطبة كتاب واسطة العقدين، لخص فيه كناشتي المولى إسماعيل. وإذا عرفنا كل هذا أدركنا قيمة الرجل في زمانه، وأدركنا أن اتهامه بالزندقة بمراكش بتحريض من بعض الشيوخ راجع إلى أنه كان مزعجا بموسوعيته وسعة اطلاعه وتنوع المداخل التي اعتمدها ليكتب عن عصره، وليبدع في مجال التاريخ والتراجم والأدب، ويطرق باب السياسة، وهذا حال معظم المبدعين في كل زمان ومكان، والطريف أن الخلوة التي فرضها الإفراني على نفسه تحت وطأة الأذى نفعته كثيرا في التفرغ للتأليف والإبداع فيه، وإذا كنا مدركين حدود العطاء الفكري للإفراني؛ فإننا نتحدث عنه هنا في سياق الظروف الفكرية والسياسية التي عاش فيها الإفراني، فجاءت كتبه، خصوصا التاريخية منها، أصداء حية لعصر حاسم في تاريخ المغرب الفكري، ومن هنا نجد القيمة العلمية والتاريخية لهذا الرجل، وهو لا يقل أهمية عن العياشي، والزياني، والولالي، والعكاري، وآخرين..
وقد وقع اختلاف كبير بين المؤرخين حول تاريخ وفاة الافراني بالضبط، وقد بلغ الفرق بينهم، حدا غير مسبوق في مثل هذه الأحوال، فقد ذكر صاحب معجم المؤلفين أنه توفي سنة (1138ه/1725م) أو سنة (1140ه/1727م)، وفي السعادة الأبدية لابن الموقت سنة (1140/1727م)، وفي التقاط الدرر أن وفاته كانت بعد (1150ه/1737م)، وجعله صاحب دليل مؤرخ المغرب الأقصى بين (1152 و1154ه/1739 و1741م)، وفي الإعلام للسملالي أن وفاته كانت سنة (1155ه/1742م).
ويفيدنا الأستاذ حسن جلاب في مقدمة تحقيق درر الحجال[5] بأن التاريخ الأنسب لوفاته هو بين سنتي (1156ه/1743 و1744م)، وهو التاريخ الذي ذكره الأستاذ العمري لأسباب:
1. أن كتابة الوشي العبقري ألف سنة: 1156ه/1743م؛
2. أنه أقر بممارسته لبعض الأنشطة خلال سنة: 1156ه/1743م؛
3. أن بعض أفراد أسرته قد أعاد إلى مكتبة ابن يوسف كتبا كان قد أعارها منها بعد توزيع تركته سنة: (1157ه/1744م)..
وقد دفن رحمه الله بمحل الجنائز عن يسار الداخل إليه ببيت هناك من المسجد اليوسفي بمحروسة مراكش، وبلصق قبره نخلة صغيرة موجودة إلى الآن، كما في السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية. رحم الله العلامة الإفراني وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
والله الموفق


------------------------------------------
1. انظر نماذج منها في السعادة الأبدية 1/114، وفي الحركة الصوفية بمراكش، ج: 3، وفي تعطير الأنفاس لابن المراكشي، ط: حجرية.
2. منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1997.
3. دليل مؤرخ المغرب الأقصى 1/164، مؤرخو الشرفاء لبروفنصال 90.
4. حسب فهرس الفهارس 2/15 ودليل مؤرخ المغرب الأقصى، 1/242.
5. الطبعة الأولى، 1421ه/2000م.
 
أعلى