محمد حلمي عبدالوهاب - النجار المراكشي وكتابه «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي»

يعد كتاب «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي» لمؤلفه محمد الصغير بن الحاج محمد بن عبدالله الافراني المتوفى سنة 1151هـ/1738م، من أهم المصادر التاريخية الخاصة بتاريخ الأسر الحاكمة في الدولة الإسلامية. وقد نُشر هذا الكتاب للمرة الأولى في طبعة حجرية في مدينة فاس، ثم نشره مع ترجمة فرنسية المستشرق الفرنسي هوداس (1840-1916م) الذي كان يعمل أستاذاً في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس، وصدر الكتاب في العاصمة الفرنسية عام 1888.

كما طبع الكتاب مرة أخرى في المغرب بعناية عبدالقادر المكناسي، ثم أعيد نشر طبعة باريس ضمن سلسلة الذخائر التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية مع مقدمة للدكتور أيمن فؤاد سيد.

وكتاب «نزهة الحادي» ليس الكتاب الوحيد الذي يؤرخ للدولة السعدية، فهناك أيضاً كتاب «مناهل الصفا في مآثر الشُرفا» لأبي فارس عبد العزيز القشتالي. ومع ذلك فإن نزهة الحادي لا يقل أهمية، رغم تفاوت الحجم، مع كتب تاريخية أخرى كـ «مفرج الكروب في أخبار بني أيوب» لابن واصل الحموي المتوفى عام 697هـ/1297م، و»اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا» لتقي الدين المقريزي المتوفى عام 845هـ/1442م.

ولد مؤلف الكتاب محمد الصغير بن الحاج محمد الإفراني النجار المراكشي في مدينة مراكش عام 1080هـ/1670م. وكعادة أهل زمانه تلقى علومه الأولى في مراكش ثم تردّد على مجلس الفقيه أبي العباس أحمد بن علي السويسي، كما درس في جامعة القرويين بفاس، وأيضاً درس في مدينة مكناسة الزيتون حيث كان قريباً من المولى أبي النصر إسماعيل، ثم تولى مهمات ومناصب إدارية إلى أن استقر على تولي إمامة جامع يوسف بن تاشفين وخطابته حتى وفاته عام 1151هـ/1738م.

أما موضوع الكتاب، كما هو ظاهر من عنوانه، فيتناول تاريخ «الدولة السعدية وأخبار ملوكها» وهي أسرة من الأشراف الحسينيين تنتسب إلى الإمام القاسم بن محمد الملقب بالنفس الزكية، والتي حكمت المغرب الأقصى بعد نزوح أجدادهم من الحجاز إلى منطقة وادي نهر درعة جنوبي المغرب مطلع القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وبدأوا في نشر دعوتهم عن طريق الطرق الصوفية وحاربوا حكام المغرب ثم قادوا حركة المقاومة ضد الاستعمار البرتغالي.

يبدأ المؤلف كتابه بداية تقليدية بالحديث عن شرفية علم التاريخ مقارنة ببقية العلوم، وعن مكانه في العلوم الشرعية، مؤكداً أن النظر في ملح النوادر التاريخية فيه تنشيط للأفكار. وبحسبه فإن الدولة السعدية التي يتعرض لأخبارها وإن كان ابتداؤها عام ستة عشر من القرن العاشر لكنها ظهرت واتسعت في آخر القرن العاشر وأول القرن الحادي عشر ومن هنا جاء اسم كتابه «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي».

على أن اللافت للنظر في بداية الكتاب هو وعد المؤلف الذي قطعه على نفسه ولم يوفِ به، حين قال إنه ألف هذا التصنيف من كتب عدة تزري بزهور الروض المنيف، وأنه سيُعيّنُ للقارئ في آخر الكتاب أسماءهم، وينصّبُ مدارج الإمالة لمن أراد أن يرقى سماءهم «فجديرٌ لمن سرَّح فيه ألحاظه أن يسامح نسيجه ولا ينتقد ألفاظه، ولا يكون من قوم ألجم الحسد ألسنتهم وأطال على فراش العصبية أسنتهم»!

وأول ما يبتدئ به المؤلف الكتاب هو ذكر الأخبار المتعلقة بنسبهم الشريف وما قيل فيه وعنه من تنكير وتعريف، مؤكداً إشارة غير واحد من المؤرخين الشيوخ المعتبرين لذلك ونصُّه: محمد المهدي بن محمد القائم بأمر الله بن عبد الرحمن الذي ينتهي نسبه إلى النفس الزكية. ومن أبرز الشواهد التي يعزّز بها مؤلف الكتاب صحة هذا النسب ما أورده عن الشيخ الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن القاضي في كتابه «المُنتَقى المقصور على مآثر خلافة السلطان أبي العباس أحمد المنصور». وإلى جانب هذه الاستدلالات التاريخية يسرد المؤلف «سمَاعات» تؤكد صحة النسب، ووثائق مكتوبة بخط أبي عبد الله محمد بن غالب بن حشّار، وبعض أعيان الأشراف من السعديين.

وبعد أن ينتهي المؤلف من استقصاء هذه المسألة، يبدأ في ذكر أول اتصالهم بالمُلك معولاً في ذلك على صاحب درّة السلوك الذي خصّ سيرة أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله بجزء وافر من حديثه، فذكر أول نشأته في بيئة صالحة بدرعة ولقاءه جماعة من العلماء والصالحين إبان وفادته على الحرمين الشريفين.

وكعادة كتّاب التاريخ المتأخرين، وما اعتدنا عليه أثناء الحديث عن نشأة الدول من ارتباطها ببعض الأساطير، يروي المؤلف رؤيا عرضت لأحد أجداد مؤسس الدولة السعدية تتعلق بخروج أسدين من ظهره يتبعهما الناس إلى أن دخلا صومعة فوقف هو ببابها! فعبُّرت رؤياه بأنه سيكون لولديه شأن عظيم وأنهما سيملكان الناس! وتعزيزاً لهذا الجانب يروي المؤلف حكاية مفادها بأن ولديْ أبي عبد الله القائم، وهما أبو العباس أحمد الأعرج وأخوه محمد المهدي، كانا يقرأن القرآن في مكتب تحفيظ وهما صغيران فدخل ديك فوثب على رأس كل منهما وصاح! فتمّ تأويل ذلك بأنها البشارة بتملكهما البلاد والعباد!

ومن المعلوم أن أتباع الأسرة السعدية قد استولوا على مراكش ثم دخلوا إلى مدينة فاس عام 957هـ/1550م تحت قيادة المؤسس الأول أبي عبد الله محمد الشيخ المهدي، وما لبثوا أن فرضوا سيطرتهم الكاملة على كل البقاع المغربية وصولاً إلى مدينة تلمسان غربي الجزائر. ثم تابع ابنه مولاي محمد الحران المسيرة ذاتها حين قاوم بضراوة محاولات العثمانيين المستميتة للتوغل داخل الأراضي المغربية في الفترة 965- 982هـ/1557-1574م.

ضمن هذا السياق نجحت الدولة السعدية في القضاء نهائياً على التواجد البرتغالي في أعقاب موقعة وادي المخازن أو القصر الكبير عام 986هـ/1578م، إلى أن بلغت الدولة السعدية ذروة تألقها السياسي في عهد السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذهبي 986-1012هـ / 1578-1603م الذي يعد بحق المؤسس الثاني حيث نجح في تأمين البلاد وفتح السودان الغربي في سنغاي ودخلت جيوشه مدينة تمبكتو وطوّر في أجهزة الدولة مستحدثاً أنظمة إدارية جديدة أطلق عليها اسم «المخزن»!

وكعادة الإمبراطوريات والممالك والدول ما لبثت الدولة السعدية أن أخذت في التراجع بعد وفاة مؤسسها الثاني المنصور الذهبي عام 1012هـ/1603م، حيث تنازع أبناؤه على الحكم واقتسموا البلاد في ما بينهم فاستقر فرع منهم في مراكش بين عامَي 1012-1070هـ /1603-1659م فيما استقر فرع آخر في مدينة فاس بين عامَي 1012-1037هـ/ 1603-1627م.

وكان سبب الخلاف في ما يذكر المؤلف أنه لما توفي المنصور اجتمع أعيان فاس وكبراؤها وأهل العقد والحل فيها على بيعة ولده زيدان وقالوا: إن المنصور خلَّفه في حياته ومات في حجره! وممن تصدَّر لذلك قاضي الجماعة أبو القاسم بن أبي النعيم الغساني الذي قام في الناس خطيباً وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات اجتمع الناس على أبي بكر ونحن نفعل كذلك! فقد مات مولانا أحمد وهذا ولده مولانا زيدان وهو أولى بالمُلك من إخوته فنبايعه! فبايعه الحاضرون يوم الإثنين السادس عشر من ربيع الأول، ثم كتب لأهل مراكش بالمبايعة له فامتنعوا منها وبايعوا أبا فارس في مراكش يوم الجمعة الموالي للتاريخ المذكور.

ولا يفوت المؤلف أن يصف صاحب مراكش بأنه كان «عظيم البطن أكولاً، مصاباً بمس الجن، ويقال إنه لذلك ابتنى المسجد الجامع بجوار ضريح الشيخ العارف بالله أبي العباس السبتيّ رجاء أن تعود عليه بركة ذلك الولي بالبرء من تلك العلة»!

وبعد امتناع أهل مراكش من بيعة زيدان كثر القيل والقال حتى صدرت فتوى من قاضي فاس ومفتيها تصريحاً بحديث: إذا بويع خليفتان فاقتلوا الآخر منهما! كما أفتى أيضاً بأن أولاد الإماء لا يتقدمون على أولاد الحرائر في إشارة إلى أم أبي فارس وأخيه الشيخ التي كانت تسمى الخيزران! لكن الأمر انتهى بانتصار الأخيرين على زيدان واستبد الشيخ بالخلافة من دون أخيه وعنّف الشيخين الفقيهين قاضي الجماعة بفاس ومفتيها أبي عبد الله محمد بن قاسم القصار لمبايعتهما زيدان، وعزم على أن يمكر بهما فبعثهما مع جيش مراكش إلى أخيه أبي فارس لينظر في أمرهما برأيه، فأما الشيخ القصار فتوفي في الطريق على مقربة من مراكش فدفن بقبة القاضي عياض، وأما قاضي الجماعة فاجتمع بأبي فارس فصفح عنه وقبل عذره وردَّه إلى فاس مكرماً.



* كاتب مصري
الحياة

الادب المغربي.jpg
 
أعلى