مقامات محمد عامر - المقامات أو أدب الكدية في التراث العربي

اسئلة عديدة تراود المهتم بتاريخ الاداب العربية وحتى بالتاريخ الاجتماعي للعرب تطرحها المقامات. ولا اعرف السر في اعراض الدراسات الادبية والاكاديمية وعلوم الاجتماع عن الغنى الكامن في ادب المقامات التي توارت خلف دواوين الشعر التي حجبت عن القراء العرب اثرا مهما من اثارهم والذي يعتبر بمثابة فن القصة العربي بامتياز. فلم يعرف العرب الملحمة على غرار الاغريق كما لم يعرفوا فنون القص والمسرحية وبقي الشعر ديوانهم وسجل افكارهم وحياتهم. الا ان المقامات تعتبر اثرا فريدا في تراث مناخات الشعر العربي المتسيد لساحة الثقافة والتداول الادبي العربي. ويعتبر الهمذاني مبتدع فكرة المقامات التي لم تجد بعد ذلك امتدادا سوى في مقامات الحريري.

لقد كان الحريري المولود سنة 446 للهجرة ثريا ومتمكنا ماديا عاملا في ديوان الخلافة بوظيفة "صاحب الخبر"، ووظيفة صاحب الخبر تعني في ايامنا هذه موظف التشريفات، ومن الغريب ان يهتم الحريري بالمقامات وهو على هذه الدرجة من الثراء والغنى، وهذه من الغاز الكتابة والادب العربي والتي لم اعثر لها على جواب حتى الان. ويمكن ان نطلق على المقامة مجازيا ما يعرف اليوم بالقصص القصيرة، تعتمد هذه القصص على الانتقال السريع في الوصف واستخدام المحسنات اللفظية بافراط يصل حد الضجر، تستند مقامات الحريري الى شخصيتين رئيستين غنيتين، ومصدر الغنى هو امكانية دراسة احوال العرب والمسلمين والنظام الطبقي والعادات

الاجتماعية من خلال هاتين الشخصيتين وتنقلهما في مختلف مواقع المجتمع كالمساجد والاسواق ودور السلطة. الشخصية الاولى شخصية الراوي والذي اختار الحريري له اسم الحارث بن همام، ويذهب الكثير من الباحثين الى ان الراوي هو المؤلف اي الحريري نفسه، اي ان الحريري قد استخدم ما نسميه في الدراسات الادبية اليوم بـ"القناع". وتنطوي التسمية على رمزية تتضمن حديثا للنبي صلى الله عليه واله وسلم "كلكم حارث وكلكم همام" فيعني الحارث العامل اما الهمام فهو النشيط الذي لا يفرط بالزمن. واستنادا الى ذلك فان الانسان المثالي هو الحارث الهمام، اما ابو زيد السروجي فهو شخصية اجتماعية نموذجية ترتبط بالفئات الدنيا من المجتمع والخاضعة لظروف القهر الاقتصادي والاجتماعي الذي غالبا مايلجؤها الى الحيلة والخداع لكسب قوتها وقوت عيالها. وتتحرك مقامات الحريري على مساحة واسعة من الزمان تبتدئ بلقاء الراوي والبطل في صنعاء، وكان هذا اللقاء بداية التعارف بينهما حيث كتب الحريري مقامته الاولى والتي استل اسمها من مدينة صنعاء فاسماها بالمقامة الصنعانية، وكان الراوي والبطل في هذه الاثناء شابين صغيرين، ثم تدور بهما الازمان ويلتقيان مصادفة في كل مواقع المجتمع. وبعد ان كبرا ومرضا يلتقيان بالمصادفة ايضا في مسجد البصرة ليعلن ابو زيد السروجي توبته من الحيل. وبطريقة غامضة يقرر الحارث بن همام "الجنوح الى الراحة". وفي لقاء البصرة الاخير تنتهي المقامات بالمقامة الخمسين. وتسمح المقاربة الرمزية لاحداث نهاية الرواية الطويلة او القصص القصيرة المسماة مقامات بالوقوف مليا عند توبة السروجي وانصراف الحارث بن همام وجنوحه الى الراحة. فلماذا يتوب الفقير عن مباذل مجتمع كان قد دفعه اليها وينصرف الثري الارستقراطي الى راحة ودعة لم يساهم في صنعها؟. اعتقد ان هذا المعنى يوازن التشكل الطبقي والقيمي في الحضارة التي تسيد فيها السادة الارستقراطيون في العصر العباسي رقاب البلاد والعباد. وان الادب يعبر رمزيا بوعي الاديب عن هذه العلاقات كما الحال في المقامات. تمتاز المقامات بالتشويق والاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة والدخول الى قاع المجتمع العباسي في مباذله وصوامعه وجده وعبثه، وقد ذكر المؤلف الحريري دواعي تاليف المقامات "انشات خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ورقيق اللفظ وجزله وغرر البيان ودرره وملح الادب ونوادره، الى ما وشحتها به من الايات ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الامثال العربية واللطائف الادبية والاحاجي النحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والمواعظ المبكية والاضاحيك الملهية...الخ؟ وكان الحريري متمكنا من علوم العربية بدرجة يستطيع فيها كتابة رسالة في احدى مقاماته تتضمن كلمتين الاولى خالية من النقاط والثانية منقطة "العطاء ينجي والدعاء يقي والمدح ينقي والحر يجزي...الخ". اما مقامته الرقطاء وهي السادسة والعشرين في مراتب المقامات فقد اسماها كذلك بسبب توالي حروف كلماتها بين التنقيط وعدمه "ونائل يديه فاض وشح قلبه غاض وخلف سخائه يحتلب". اما مقامته الثامنة ففيها خطبة لابي زيد السروجي غير منقوطة بالكامل "الحمد لله الممدوح الاسماء المحمود الالاء الواسع العطاء المدعو لحسم اللاواء مالك الامم ومصور الرمم واهل السماح والكرم ومهلك عاد وارم...الخ". وقد مثلت المقامات ما يشبه الكنز للمستشرقين الذين ترجموها الى لغات مختلفة. كما اهتموا بحياة الحريري ودرسوا بخلاف نظرائهم العرب الاصول الاجتماعية والطبقية للمؤلف من خلال المقامات. وللمؤلف كتب غير المقامات منها "درة الغواص في اوهام الخواص" و "ملحة الاعراب في صناعة الاعراب". كما كتب الحريري بطريقة مستقلة رسالتين شهيرتين "السينية والشينية" وقد اشار اليهما ياقوت الحموي صاحب معجم الادباء، تبتدئ السينية بحرف السين وتتضمن جميع كلماتها هذا الحرف "باسم القدوس استفتح وباسعاده استنجح، سجية سيدنا سيف السلطان السيد النفيس سيد الرؤساء حرست نفسه واسستنارت شمسه وبسق غرسه واتسق انسه استمالة الجليس ومساهمة الانيس ومواساة السحيق والنسيب...الخ". اما الشينية فهي تضمن جميع كلماتها حرف الشين. توفي الحريري في 516 للهجرة تاركا خلفه تراثا كبيرا واسئلة ما تزال بحاجة الى جهود دارسي الادب والاجتماع العربيين.



المقامات.jpg
 
أعلى