دعوة الحق - الشيخ عبد الرحيم المغربي (521-592)

-1-

بهذا اللقب كان يعرف في الشرق، وعرف في بلدة بالأسد، واشتهر أخيرا بالغنائي، وهو شخصية مغمورة في تاريخ المغرب، لا تكاد تذكره كتب التراجم والسير، شخصية غربية في سلوكها، نادرة في سيرتها وأخلاقها، فذة في علومها ومعارفها.. إنها الرحمة المهداة إلى بلاد الصعيد ـ كما يقول الحافظ ابن المنذري، ذلك هو الشيخ أبو محمد عبد الرحيم ابن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة بن جعفر بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن جعفر الصادق، بن محمد الفاخر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط، يتصل نسبه بالشرفاء الحسنيين، والصقليون بفاس من أبناء عمومتهم، انتقلوا من سبتة على عهد المرينيين، ويعرف فريق منهم ببني حمزة، أصلهم من دمشق، استوطنوا سبتة قديما، ومنهم بنو حجون الذين رحلوا إلى البادية، وسكنوا ترغة إحدى قرى غمارة، على بعد نحو 60 كيلو متر من تطوان، ويعرفون إلى الآن بأولاد حكون، والجاري على الألسن أحكان. ومما ينسب لبعض هؤلاء الحسينيين :
عتبت على الدنيا وقلت إلى متى = أكابد حرثا همه ليس بنجلي
أكل شريف من علي نجاره = حرام عليه اليسر غير محلل
فقالت نعم يا ابن الحسين فإنني = غضبت عليكم حين طلقتني علي
وفي قرية ترغة هذه ولد السيد عيد الرحيم سنة 521، ولذا يقال في نسبته الترغي السبتي، وربما قيل الغماري.
هذا نبعه الأبوي الزكي، الذي أنجب للشيخ عبد الرحيم، أما نبعه من حيث خوولته فأمه سكينة بنت أحمد بن حمزة الحراني، ينتهي نسبها إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، حفيظ الحسين السبط، فبنو حمزة وبنو حجون، يلتقيان في اقرب جد إليهما، فهما ـ معا ـ شرفاء حسينيون، ـ كما أسلفنا ـ وكلاهما كان بيت علم وفضل ودين، فأبو العباس والد المترجم كان عالما فاضلا، وفقيها نبيها، بل كان من كبار علماء المغرب، إلا أن البادية أضاعته ، وأضاعت علمه، ولا بد أنه درس على شيوخ سبته وغيرها من مدن المغرب والأندلس، لكن المصادر التي بين أيدينا لا تحدثنا في هذا الصدد بشيء، وكل ما نعرف أنه كان أمام مسجد ترغة، والشأن أن يكون خطيبها، والإمام يرجع إليه أهل البلد في شؤونهم الدينية والدنيوية.
وكانت غمارة في هذا العصر تابعة لسبتة، وتعتبر إحدى عمالاتها، ولذا نجد أكثر أهلها يرحلون إلى سبتة لإتمام دراستهم، وأخذهم عن علمائها ومشايخها، وقلما يتجهون إلى سواها، وقد استوطنها جملة وافرة منهم وظهر فيهم علماء فطاحل، وفقهاء نابهون، ويكفي أن نعرف أن الشيخ أبا عمرو إسحاق بن إبراهيم الغماري كان قاضي سبتة لهذا العهد، تنقل قاضيا في عدة جهات من المغرب والأندلس، كفاس وجيان وسواهما، وكان حافظ المذهب، يستظهر المدونة، فقد في وقعة العقاب عام 609، عني أبو العباس بولده الصغير، ورباه تربية دينية، وأحاطه بسياج من الفضيلة والأخلاق، ويقال أنه سماه «أسدا» تفاؤلا أن يكون من أسود الله، يكافح عن دينه، ويذب عن حوزته.
وبهذا الاسم كان معروفا في أول مرة، ثم سمى نفسه عبد الرحيم، قال : لما فتح الله علي عاينت كرامة الله علي، ورأيت وصف الرحمة، وشاهدت ألطاف المولى ـ سميت نفسي بعد الرحيم، طمعا فيما عاينت) وكانت له أخت اختير لها من الأسماء(شعثة) ولعل ذلك لحديث : (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).
كل ذلك يدلنا على أسرة الطفل كانت تعيش على جانب كبير من الخشونة والنسك والتعبد، وقرية ترغة هذه مشهورة بعلمائها الكثيرين، ففي شاطئها يرقد العدد العديد من العباد الزاهدين، والأولياء العارفين كالشيخ الأكبر عبد الرحمان الزيات، شيخ ابن مشيش، والعارف الأشهر أبي العباس الغزال وسواهما.
أدخل أبو العباس ولده الكتاب ـ ولم يرزق ولدا ذكرا سواه ـ فحفظ القرآن الكريم، وشدا بعض العلوم والفنون، وهكذا تهيأ للناشئ الصغير بيئة صالحة تعده لمكان مرموق في العلم والصلاح، وكانت تطغى عليه منذ نشأته ـ نفحة، تجعله يبتعد عن الصبيان، ولا يلهو مع اللاهين، وكان لسان حاله، يقول :
«قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل» وكان أبو العباس حريصا على أن يرسل ولده الناشئ إلى بيت أخواله بسبتة، لإتمام دراسته، وإنهاء تعليمه العالي، الذي كان يتجلى في الإجازات العلمية، التي يحرز عليها الطلاب المتفوقون، من أساتذتهم النابهين، إلا أن المنية عاجلت الشيخ الوالد قبل أن تتحقق منه هذه الأمنية، والصبي بعد حدث، لم يتجاوز منه السادسة عشرة، ولكن الفتى عرف طريقه، فتسلل بين شعاب الجبل، والتحقق بمدينة سبتة، ونزل ببيت أخواله بني حمزة، ولم يكن غريبا عن هذا البلد، فقد تردد إليه غير مرة صحفة والده، ولم تزل أحاديث والده الشيخ عالقة بذهنه، وكانت تهز نفسه، وتدفعه إلى الأخذ والتلقي عن المشايخ الشهيرين.
وكانت سبتة آنذاك مدينة علم وفكر وأدب، تضج أعلاما كبارا في كل فن، أمثال القاضي عياض في التفسير وعلوم الحديث، حتى لقد قال القائل :
«مشارق أنوار تبدت بسبتة ومن عجب كون المشارق في الغرب» وكأبي عبد الله بن هشام اللخمي في العربية وعلوم اللغة، ومن إليهما من الشيوخ العديدين الذين كانت تطفح بهم مدارس سبتة وكان للشيخ أبي عبد الله بن عيسى ـ صدى بعيد في الأوساط الثقافية بالمغرب والأندلس، وكان إمام عصره في سائر العلوم، انتهت إليه الرياسة في الفقه، تخرج عليها فقهاء سبتة، وكان لتلاميذه الحظوة الكبرى لدى الدولة، ما منهم أحد إلا قدم للقضاء والشورى، ولم يكن في قطر من الأقطار ـ بعد يحيى الليثي ـ من حمل عنه الناس أكثر منه.
وكانت تأتيه الأسئلة من القاضي بن حمدين بقرطبة، والقاضي بن شبريل بأشبيلية، والقاضي بن ملجوم بفاس، وكان حلال للمشكلات. ومن حسن حظ الفتى عبد الرحيم أن يرى جانبه في أكثر الحلقات الدروس طبقة واعية من طلبة سبتة، يزاحمونه بمناكب قوية، فينافسهم وينافسونه من أمثال أبي العباس السبتي، وابن الصبر الفهري، وأبي علي الصواف، وأبي عبد الله بن حماد الصنهاجي وسواهم.
ولم يكن التلميذ القروي ن التلاميذ العاديين، بل كان على سمت حسن، وذكاء عجيب، مما لفت إليه أنظار أشياخه، وحببه إلى أساتذته، وقد ظهر نبوغه مبكرا، فحفظ أكثر العلوم والفنون، ولم يكد ينتهي العقد الثاني من عمره (20) حتى كان إماما مقدما في سائر العلوم، وخصوصا منها علوم الحديث والتفسير، فقد رزق فيهما فهما عجيبا، وسرا غريبا، قال ابن باديس في سينيته :
«وللمغربي عبد الرحيم مواهب
وفاضت من السر المصون بحوزه من الفهم للقرآن جلت عن الحدس
*** جلس للتدريس بجوامع سبتة، وكانت تختلف إلى حلقاته المشايخ والرؤوس.
وعلى الجملة فقد أخذ محل الصدارة بين شيوخ عصره ـ على حداثة سنه، فكان إمام وواعظا، وخطيبا ومدرسا بالجامع الأعظم بسبتة، وكان لا يرتقي إلى كرسي هذا الجامع ـ إلا الشيوخ المحنكون، ثم مال إلى التصوف، وملك عليه شغاف قلبه، وكان يقضي جل وقته في محاريب الله، قال السيد عبد الرحيم ـ وهو يتحدث عن نفسه ـ : فتح الله علي، وأنا في عشرين سنة أو دونها، وكنت رأيت في المنام كأني صعدت منارا عاليا إلى أعلاها، فاستوفيت منها، فنزلت فوجدت في أسفلها عين ماء، قال والرؤيا صفة حال.
ثم التاريخ لا يذكر بعد ذلك شيئا عن شبابه وشيوخه، ومقدار العلوم التي حصلها، ولابد أنه زار الأندلس، وأخذ عن أعلام علمائها، وقلما نجد من شيوخ سبتة من لم يرحل إلى الأندلس ويكترع من مناهلها، وكانت سبتة في هذا الوقت بالذات مهبط صوفية الأندلس، وملتقى الحركات الفكرية، والنزعات الفلسفية، ومن أقطاب التصوف لهذا العهد ـ أبو زيد القرطبي، وأبو الربيع المالقي، وأبو العباس بن العريف الطنجي، وأبو مدين القطياني، وأبو إسحاق إبراهيم بن طريف، وكان أبو يعزى يمثل مدرسة قائمة بذاتها في جنوب المغرب.
وقد اتصل السيد عيد الرحيم بجملة وافرة من شيوخ التصوف فأخذ عن أبي النجاة سالم الجبيلي دفين بجاية وأقام في خدمته مدة، وكان شيخا زاهدا، متخليا عن الدنيا، منقطعا إلى الله، ثم اتصل بابي محمد عبد الرزاق الجزولي، وجدد له العهد، ولعل ذلك بعد وفاة شيخه أبي سالم.
وقال في الطالع السعيد : أنه من أصحاب أبي يعزى، ولم يذكره أبو القاسم الصومعي في جملة أصحابه، والتاريخ لا يبعد لقياه به، ولقي الشيخ أبا مدين وأخذ عنه، قال سمعته يقول : (أوقفني ربي عز وجل بين يديه، وقال يا شعيب ماذا يمينك ؟ فقال يا رب عطاؤك، قال وماذا عن شمالك ؟ قال يا رب قضاؤك قال يا شعيب : قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا...) وكانت بادية شمال المغرب، تعج بالكثير منا لعباد المتبتلين، والأولياء العارفين، وكانت تمتد على هذا الشاطئ من سبتة إلى حدود تلمسان سلسلة من الربط كمعاهد للعلم والتعبد والجهاد، تخرج منها كثير من الأبطال الصناديد وكانوا شجى في حلق العدو، ثم حدثت أحداث، كدرت صفو الحياة على هؤلاء وأولئك، وامتحن البعض منهم في نحلته ومذهبه، وكان الشيخ عبد الرحيم من المشهورين بعقيدتهم السلفية، ومن المتمسكين بمذهب مالك.
كان المغرب يعيش في هذه الفترة ـ حياة الفوضى والاضطراب، وقد بلغ الصراع أشده بين المرابطين والموحدين، وكانت سبتة هدفا لغارات وهجومات عنيفة عاشت معها في شبه عزلة مستقلة عن بقية أجزاء المغرب، تحت زعامة القاضي عياض، ثم كانت مثار فتن وحروب داخلية، قضت مضاجع العقلاء من أبنائها، فرحل الكثير من علمائها ومشايخها، ونفى منها عياض قيدومها الأكبر، وفي هذه الأثناء عرضت غمارة لحملة تأديبية، أراق فيها الموحدون دماء كثيرة، ثم كانت المجزرة البشرية الكبرى، التي ذهبت ضحيتها ثمانمائة رجل من رؤساء غمارة.
كل هذه عوامل دفعت الشيخ عبد الرحيم إلى الخروج من سبتة، ثم من المغرب نهائيا، وقد غادر سبتة 542 وجاء لتوديعه الكثير من تلاميذه ومريده، وكان خروجه برسم أداء الحج، والمحتمل أن سفره كان عن طريق الجزائر، وقد نزل الإسكندرية، ومنها واصل طريقه إلى مكة المكرمة تحدوه الأشواق المتأججة إلى البيت المعمور، وتدفعه العاطفة الثائرة إلى المنبر والروضة والحبيب، وفي إحدى الليالي العاطرة الأنفاس هبط السيد عبد الرحيم إلى مكة، البلد المبارك الذي طوف به الأنبياء، ونزل إلى ساحته الملائكة، فوجد المكان الذي سكن إليه قلبه، هدأ روعه، وانثالت عليه علوم ومعارف، وغمرته نفحات لم يكن ليجدها فيما سواه.
ثم قصد المدينة المنورة، حيث الحبيب، وجاور بالروضة الشريفة ما شاء الله، وهكذا جعل ينتقل ما بين الحرمين الشريفين، مدة سبع سنين أو تزيد، وكان هذا البلد الأمين، مجمع العلماء والمحدثين، وأهل الفتيا والبيان، فنزل السيد عبد الرحيم بينهم كالقمر بين النجوم، فالتفوا حوله وجلسوا إليه واستمعوا إلى أحاديثه وأخذوا عنه في كل العلوم، وتتلمذ عليه الكثير من المريدين، وهنا لمع اسم الشيخ المغربي، والتصق به هذا اللقب، ولهج الناس به في كل محفل وناد.
ويحدثنا في هذا الصدد أحد الذين عاصروه، وشاهدوا من أنوار معرفته، وهو أبو الوفاء المدني، فيذكر في كتابه (الأصفياء) صورا من مجالس الشيخ المغربي، ويتحدث ـ كشاهد عيان ـ عن كراماته ومناقبه، ويعرض علينا كثيرا من أحزابه وأوراده، وهي مجموعة من آيات قرآنية تستغرق نحو نصفها، ثم تتلوها أدعية وصلوات على الرسول الأعظم، الذي كان لا يحلو للشيخ عبد الرحيم الجلوس إلا بجانبه ولا يكاد يفارقه، ولا يزال يلهج بذكره ، أناء الليل وأطراف النهار، ويذكر الكتاب أن مما كان يدعو به الشيخ المغربي بين ركعتي الفجر وصلاة الغداة وبين الشفع وركعة الوتر ـ هذا الدعاء : (اللهم ارزقني علم الحياة وحياة العلم، وامنحني نعيم الحياة وحياة النعيم، واغمرني بفضل من النور ونور من الفضل، وأعطني قوة الأبدان وأبدان القوة، وأسألك نعمة الشفا وشفاء النعمة، وأسألك طول العمر والإنعام، وأحسن إلي يا عظيم الإحسان).
وهناك في رحاب المسجد النبوي، التقى بالشيخ المغربي عالم قوص، السيد مجد الدين القشيري، فرغب إليه في أن يذهب معه إلى بلده، وقد أعجب بغزارة علمه، ونور معرفته وأسرار حكمته.
وبعد سنة كاملة من هذا اللقاء، التحق الشيخ عبد الرحيم بقوص سنة (551) وهناك أسس مدرسته الكبرى، التي جمعت بين العلم والعمل، وكانت خير مثال للتصوف السني كما قيل .
ذلك ما نريد أن نتحدث عنه بشيء من التفصيل في العدد المقبل بحول الله.

* دعوة الحق العد 93


الادب المغربي.jpg
 
دعوة الحق
الشيخ عبد الرحيم المغربي (521-592) -2-



وقد رحل إلى الشرق في هذا العصر، كثير من شيوخ المغرب، ندكر منهم: أبا محمد صالح بن حرزهم، وأبا القاسم بن العجوز، وابا جبل الفاسي، وابا عثمان بن الحداد، وعبد الجليل بن ويخلان، وابا القاسم المعافري، والشريف الادريسي، وابا الحسن الصواف، وابا الصبر الفهري وابا الحسن المراكشي دفين بادس.
واستوطن بلاد الصعيد عدد منهم، كأبي محمد عبد الرزاق الجزولي، وابي العباس بن الحطيئة، وأبي عبد الله القرشي، وأبي العباس التميمي، وهو اندلسي الأصل، توفي بقوص سنة "551".
وفي هذه السنة بالذات، نزل السيد عبد الرحيم بلاد الصعيد، وهي الأرض الخصبة بالروح الدينية، والمركز الأساسي للتصوف الإسلامي، وقد استقبله عالم قوص الشيخ مجد الدين القشيري، وقدمه للجمهور كعالم ديني كبير، وشيخ مرب مصلح، هدفه خدمة الإسلام، وهداية الناس إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم، وهي مهمة بعث من أجلها الرسل، وجاهد في سبلها المصلحون، وقد اختار الشيخ المغربي بلدنا – بأعلى الصعيد- مقاما له، وسلمت اليه مفاتيح المدرسة التي كان يؤمها القاصي والداني، ويلجأ اليها الفقير والعاني، وانتظر الناس خروج الشيخ، وجلسوا حلقات حول الكرسي الذي أعد له، ولشد ما كانت دهشتهم عندما رأوه يحزم أمتعته ويخرج إلى السوق، فيجلس للبيع والشراء، وظل يتاجر في الحبوب، ثم في الأقمشة مدة، وكأنه أراد أن يعطي لتلاميذه درسا عمليا، تتجلى فيه روح العمل، والاعتماد على النفس، ومحاربة الكسل والبطالة، وقد ثار الشيخ المغربي على عادة كانت مألوفة بين الناس، وهو أن الشيوخ ينقطعون في زواياهم، والتلاميذ هم الذين يكفونهم مؤونة العيش، يجمعون من هنا وهناك، ويلقون بين أيديهم ، قيل يا رسول الله: أن فلانا يصوم النهار ويقوم الليل، قال ومن يكفله؟ قالوا نحن، قال كلكم خير منه. وربما جرت ذيلها – هذه الآية على أولئك المتواكلين: "يا أيها الذين آمنوا أن كثيرا من الأحبار والرهبان لياكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله".
والتجارة من أفضل وجوه الكسب – والتكسب لا ينافي التوكل – وقد تاجر أبوبكر وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، وهم خيرة الصحابة، وصفوة هذه الأمة، روي عن سفيان الثوري أنه كانت له بضاعة يقلبها، ويقول: لولا هذه لتمنده بي بنو العباس. أي لا متهنوه.
ثم اختار السيد عبد الرحيم مكانا، بنى فيه رباطا لحماية البلاد، والذب عن حوزة الإسلام، وكان يدرب فيه تلاميذه على البطولة، والفتوة والخشونة، "المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف، وليس الصوفي هو ذلك النحيف الضعيف المتهالك وقد قال عمر لرجل أظهر أمامه غاية الضعف والمسكنة -: مالك يا هذا تتماوت علينا؟ أماتك الله؟
ولعل الشيخ المغربي أراد أن يحيي بهذا العمل حياة الربط التي عاشها في بلاد المغرب، ورآها لا تقل أهمية عن المدارس والمساجد في التربية والتهذيب، وهي أشبه ما تكون بمراكز التجنيد، يتلقى فيها المتدربون دروسا علمية وعملية، تعدهم الأمة ليكونوا عمدتها، وقوتها التي لا تغلب.
وكانت هذه الربط كرد فعل للحروب الصليبية التي اكتوى المسلمون بنارها، عانوا منها الويلات في الشرق والغرب.
وكان لرجال التصوف دورخطير في هذه التكنات لحماية الإسلام، وكانوا الدرع الحصين لهذه الأمة، سئل شقيق البلخي – وهو في صف القتال – كيف تجد نفسك ؟ قال الله أني لا أرى نفسي مثل ما كنت ليلة زفافي؟
تفرغ الشيخ المغربي للمدرسة التي و كل اليه أمرها، فجعل أساسها الكتاب والسنة، ومن أهدافها تكوين المومن الصالح، ومن بنوالمريد منهجها:
1- أن يكون المريد متزوجا، ليمنع نفسه من النزوات الشيطانية وربما كان الأغلب على الصوفية أن ينفروا من الزواج، وقد استشاروا رجل الإمام الشعبي في الزواج فقال: أن صبرت على الباه فاتق الله ولا تتزوج، وان لم تصبر فاتق الله وتزوج، وقد تزوج الشيخ المغربي، وولد له أولاد، على ما سنذكره بعد. روى عن بشر الحافي أنه قال في أحمد بن حنبل: فضل علي بثلاث : يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا طالب الحلال لنفسي، واتساعه للنكاح وضيقي عنه ...
2- ويشترط لقبول المريد في هذه المدرسة أن يكون له عمل يتعيش منه، حتى لا يكون عالة على غيره، أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ" واسلفنا أن الشيخ كان يخرج الى السوق للتجارة، وكان له رصيد من المال درته عليه تجارته ومع ذلك فقد كان زاهدا ورعا، عابدا متبتلا. قال الحافظ المنذري، صاحب الترغيب والترهيب: كان السيد عبد الرحيم من الزهاد المذكزرين، والعباد المشهورين، ظهرت بركاته على أصحابه، وتخرج عليه جماعة من أعيان الصالحين، لصالح أنفاسه".
وكان شيخنا وقورا، كثير العبرة، دائم الفكرة، ياخذ أصحابه بالبجد والحزم، وكان يقول: لو ولد لي ولد ما تركته ليضحك.
وفي الحديث: لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم منه".
وكان اذا ذكر أصحابه الدار الآخرة، يقول: ما رأيت أقرب من الآخرة، غمض بصرك، وادخل الآخرة.
ومن اداب هذه لمدرسة في الذكر – أن يكون بادب وخشوع ، بعيدا عن البهرجة، وآلات اللهو والسماع، لا شطح ولا تواجد، ولا صعق ولا نعيق؟ وكان التلاميذ اذا جلسوا لذكر الله، ومدارسة كتاب الله، فكأنما على رؤوسهم الطير؟.
"والذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم، واذا تليت عليهم آياته زادتهم أيمانا وعلى ربهم يتوكلون"
وكان الشيخ المغربي يكره للمريدين اسم الدراويش، ويرى أنها تسمية اعجمية، جاءت من الفرس، والتصقت بالسالكين ورجال التصوف في الشرق العربي، كما انتقلت معها كثير من عوائد الفرس: ظنها بعض الجهلة من آداب التصوف الاسلامي. وربما كان الطرطوشي على حق حين كتب الى سلطان المغرب – رسالة يقول فيها: أن أهل المغرب، هم المشار إليهم في الحديث الشريف: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق" لما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والاحداث في الدين.
وكانت بدعة الاسم الاعظم، هي الشغل الشاغل لكثير من المريدين، فشدد الشيخ المغربي النكير عليهم في ذلك، وكان يقول: أروني الاصغر، أريكم الاكبر؟ يا هؤلاء اسماء الله كلها عظيمة. وكان اذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إلاه إلا الله يقول هو: شهدنا بما شاهدنا، وويل لمن كذب على الله تعالى.
وكما كانت هذه المدرسة تجمع بين العلم والعمل، فمن حرم المعرفة، لا يجد للطاعة حلاوة، ومن علم ولم يعمل فما وعى فلبه خيرا- كانت كذلك تجمع بين الكتاب والسنة، والفقه والتصوف، فبالكتاب والسنة يستضيئ المريد، وبنورهما يرى الطريق، وبالفقه يفقه أمور دينه ودنياه، وبالتصوف يعرف أداب الاسلام وأخلاقه، فالشيخ المغربي يصور لنا التصوف بأنه أخلاق ترتفع الى الادراك، حتى يصير الادراك اخلاقا، والأخلاق ادراكا، ويقسم الآخلاق إلى حسية ومعنوية، ونفسية وكلامية، ويرد التصوف الى الخلق النفسي، فالتصوف – عنده- وان لم يكن ركنا من أركان الإسلام، فهو ركن من أركان الأخلاق، والدين الإسلام، علم وعمل وأخلاق، فمن ترك واحدة فقد ضل الطريق، فالأخلاق عنده هي كل شيء، وكان رغم حبه للعطف والاحسان، يكره ان يكون عطوفا على أمثال هؤلاء الناس، ممن لا علم لهم ولا عمل، ولا أخلاق، وكان يقول: العطف على الناس فيما ينتقص من دينهم وأخلاقهم جريمة، والنصح لهم هو الاحسان الكامل.
وكان السيد عبد الرحيم المغربي – الى كونه عالما عاملا، فقيها متبحرا في علوم الشريعة، وكان على مذهب مالك، وكان كتاب "المعونة" – للقاضي عبد الوهاب – هو الكتاب المفضل لديه في الفقه المالكي، وكان ينصح تلاميذه بالرجوع إليه.
ومن أنجب تلاكيذه – أبو الحسن بن الصياغ، وربما كان أول تلميذ بها، بعث به السيد القشيري، وهو ابن عشر سنين، وأقان في خدمة الشيخ المغربي مدة، ونال حظا وأقرا من عمله ومعرفته، وكان وارث مقامه وسره، حتى قال بعض الشيوخ: ولو لم يكن من أصحابه الا الامام الشيخ ابن الصباغ- لكفاه عن سائر الأمم، ولان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وهناك عدد عديد ممن تخرجواعلى يد السيد عبد الرحيم، وكانوا أعلاما يهتدي بهم، كأبي يحيي بن شافع ، ومفرج بن عبد الله الدماميني، ورفاعة الجذامي، في آخرين.
قال الحافظ ابن المنذري: وهو "أي السيد عبد الرحيم" شيخ من مشايخ المسلمين، وأمام العارفين، وكانت أقامته ببلاد الصعيد رحمة بأهله، اغترفوا من بحر علمه وفضله: وتمتعوا ببركاته وأشرقت أنوار قلوبهم لما دخلوا في خلواته".
وكان الشيوخ وكبار العلماء يرحلون إلى زيارته، والتبرك به. ومن الذين زاروه في أخريات حياته – الشيخ أبو علي الحسن بن العربي الحسين بن الامام أبي الفضل الهمذاني، وهو من كبار علماء مصر.
توفي السيد عبد الرحيم المغربي – صبيحة يوم الجمعة تاسع صفر عام اثنين وتسعين وخمسمائة هجرية "592" وخلف وراءه ثروة من العلم والمال، وجيلا من التلاميذ والمريدين، حملوا لواء المعرفة، أحقابا من السنين، ولا نعرف من آثاره – الا ما يرويه عنه تلاميذه من مقالات في التوحيد، وحكم في التصوف، قال في الطالع السعيد:
وللشيخ عبد الرحيم تصانيف في التوحيد، ورسائل في علم القوم، وهي عبارة تدلنا على أن الشيخ خلف مؤلفات ورسائل، وربما ضاعت فيما ضاع من جراء سيل عرم أصاب قنا، وجرف كثيرا من دورها، وذهب بآثارها وذخائرها. وقد جمع تلميذه يحيي بن يحيي المعروف بابن الحلاوي – منتخبا من كلامه. ولعل خلاصة هذه الكتب وتلك الرسائل – هو ما ضمنه أبو الوفاء المدني في كتابه "الأصفياء" وقد ذكر بعض الباحثين أنه من استقى من الذين كتبوا عن الشيخ الغربي، قال وتوجد منه نسخة بمكتبة المدينة المنورة. وقد أورد هذا الكتاب جملة من الاحزاب كان الشيخ يجعلها وردا له ولتلاميذه الحزب الكبير، وحزب التكوين، وحزب الوحدانية والتوسل لرب العزة ومناجاته .. وكل هذه الأحزاب تبتدئ بالاستعادة والبسملة، وآيات قرآنية، تستغرق نحو نصفها ، ثم أدعية وصلوات على الرسول – كما أشرنا إلى ذلك سابقا. والذي يجب أن نسجله هنا – هو أن الشيخ ابن عطاء الله ربما اقتبس كثيرا من حكم السيد عبد الرحيم المغربي ومناجاته .... وأنك لتكاد تجد بعض الحكم بالنص كقول ابن عطاء الله مثلا: ان أردت أن تعرف قدرك عنده فانظر فيما ذا يقيمك" فهو نفس قول السيد عبد الرحيم: اذا أردت أن تعرف مقامك، فانظر فيما أقامك" – مع تغيير بسيط ، ولا نستطيع أن نقول الكلمة النهائية في الموضوع حتى نطلع على أصول حكم الشيخ المغربي، والأيام كفيلة بذلك.
ومن كلامه في التوحيد – أدركت جميع صفات الله الا صفة السمع. وكان يقول: المتكلمون كلهم يدندنون حول عرض الحق، ولا يصلون إليه.
ومن حكمه : الحياة أن يحيا القلب بنور الكشف، فيدرك سر الحق الذي برزت به الأكوان في اختلاف أطوارها. ويقول: الهيبة في القلب لعظمة الله تعالى، هو طمس أبصار البصائر عن مشاهدته لمن سواه حسا، فلا يرى الا بأنوار الجلال، ولا يسمع الا بسواطع الجمال.
ويقول: الرضا سكون القلب تحت مجاري الاقدار ...".
وقد انجب السيد عبد الرحيم – الكثير من الاولاد، فكان منهم العلماء العاملون، والشيوخ المربون، كالسيد الحسن، وكان من الصوفية الفقهاء، والعلماء الفضلاء، وكان مالكي المذهب كوالده، روى عنه المنذري بعض شعره، قال وتبرك بدعائه توفي بقنا سنة 655 – وقد قارب الثمانين.
ومنهم السيد محمد وبه كان يكنى الشيخ عبد الرحيم، ولا نعرف شيئا عن حياته.
ومن حفائده – جعفر بن محمد بن عبد الرحيم، شيخ الدهر وتحفة العصر، تقلب في عدة وظائف سامية في مصر والشام، وكان مع ذلك يجلس للتدريس بالمشهد الحسيني، ويقال أنه كان يطمح للخلافة – لكماله نبلا وفضلا، توفي بمصر سنة 696 هـ.
ومنهم أبو العباس أحمد بن ابراهيم بن الحسن ابن عبد الرحيم، وكان من أهل الفضل والاصلاح، من حفاظ العصر، انتفع الناس به كثيرا، توفي بقنا سنة 828.
والتحق به من أسرته بالمغرب – اخته شعثة مع ثلاثة من أولادها وهم جابر وعبد الشافي ورقية مات والدهم في وباء بالمغرب، فشملهم بعطفه، وضمهم إلى رعايته، تعلموا بمدرسته، ونالوا نصيبهم من العلم والثقافة، وكان عبد الشافي ضخم الجثة، طويل القامة، حتى لقد كان خاله يلقبه بيوشع، توفي سنة 600 ودفن بشرق مقبرة قنا، ويعتقد الناس –خطأ- أنه النبي يوشع عليه السلام.
والمهم أن الشيخ المغربي لم تنقطع صلته بأسرته، وبأبناء قومه بالمغرب إلى أن لقي ربه.
ونورد في خاتمة هذا البحث كلمة الشيخ أبي العباس رضوان البغدادي نوه فيها بمدرسة السيد عبد الرحيم، وبمقامه في العلم والتصوف، ومما جاء فيها:
"... وكان السيد عبد الرحيم مقيما على الكتاب والسنة، غيورا على الدين، يتعهد مريديه بالتقوى، والعمل الصالح، وكان يامرهم بأخذ الأسباب المباحة التي لا تشغلهم عن الله تعالى، وكان زاهدا عارفا، عالما ربانيا، جامعا بين العلمين: علم الشريعة وعلم الحقيقة، وصل إلى مقام المشاهدة بعد المجاهدة ... وخرق الله له العادات، حتى صار هواه تبعا لما جاء به النبي "ص".
وقبر الشيخ عبد الرحيم – مزارة مشهورة بقنا الصعيد، يحتفل بمولده كل سنة، من أول شعبان إلى نصفه، تخليدا لذكراه، واكراما لجهاده.
وبعد: فهذه سطور عن عالم مغربي، درج من أسرة واغلة في البداوة، وعاش حياة التقشف والخشونة، ولكنه كان قمة سامقة في العلم والمعرفة، وطودا شامخا في التصوف والحكمة، وهو رجل أهمله قومه، فاضاعوا صفحة مجيدة من تاريخهم الفكري، وبكل أسف لم يتبرع ولو واحد منهم بكلمة تشير إلى اسمه أو نسبه، فضلا عن التعريف به أو ذكر شيء من آثاره، وقاتل الله الاهمال، فكم ضاع بسببه من رجال.
والفضل كل الفضل لاخواننا المشارقة، الذين عرفونا بكثير من رجالنا، ولولاهم ما عرف الشاذلي، بل ولا ذكر اسم ابت مشيش، ولما عرفنا شيئا عن ابن خلدون والمقري واضرابهم من عباقرة المغرب، وقد قيل : "من أرخ عالما فكأنما أحيا أمة".

* العدد 94
 
أعلى