دعوة الحق - البيئة المغربية ومظاهرها الثقافية في عصر بني مرين

تمهيد :
بنو مرين، أصلهم، الخلاف في نشأتهم
يلعب الفرد في المجتمع دورا قد يكون إيجابيا كما قد يكون سلبيا، نظرا للعلاقات التي تربط بينهما، والتفاعل المستمر الذي يطبع وجودهما في الزمان والمكان. ذلك أن التفاعل وهذا الارتباط هما الظاهرتان المميزتان للتطور الناشئ عنهما والمتجدد حسب قوة وضعف كل منهما، ونتيجة لذلك، قد تكون الغلبة للبيئة المادية والاجتماعية التي تتحكم في الفرد إلى درجة معينة تجعل منه عنصرا منفعلا متلقيا عاداته وسلوكها منها؛ بمعنى أن كل ما يصدر عنه من سلوك نفسي واجتماعي آت من التيار الاجتماعي الناشئ عن الإطار الذي يعيش فيه، كما قد تكون الغلبة للفرد بحيث يتحرر من القيود ومن الضغط الاجتماعي ليقوم بدور فعال خلاق يطبع البيئة بطابع خاص ويجعلها تسير وفقا لإرادته، خاضعة لسلوكه، فتتحول تحولا وتنقلب انقلابا فتغير نظمها وتطور أحوالها كل ذلك ما كان ليحدث لولا فرد من أفرادها والدور الخطير الذي قام به من أجل تطورها.
وهكذا يستمر الصراع بين البيئة والفرد إلى أن يحدث التكيف ويقع الانسجام والتوازن الضروري لقيام المجتمعات البشرية؛ وإذا كان بعض المؤرخين لا يولون لهذه الظاهرة الاجتماعية اهتماما خاصا ولا يقيمون وزنا لنتائجها (غاياتهم في ذلك سرد الحوادث وتاريخها)، فإن من الضروري لكل باحث الاستناد إليها، والعمل على كشف نتائجها في تفسير الأحداث وتحليل الوقائع التي على ضوئها يمكن أن تفسر الأوضاع تفسيرا علميا، بعيدا عن تأثير العاطفة وتحكم العادات وسيطرة الحالات النفسية والذهنية، سواء في الوصف أو المشاهدة أو التعليل.
لذلك أصبح من الضروري، فيمثل هذه الدراسات، التعرف على الفرد الذي يلعب دور العنصر المحرك في البيئة المراد دراستها حتى لا نفاجأ بالتأثير الذي يحدثه في هذه البيئة وبالاتجاهات التي تنتج عن سلوكه فيها كفرد له نفوذ وسلطة.
وهكذا يتطلب البحث الرجوع إلى الفرد نفسه، قبل الانطلاق في الطريق لمعرفة ماهيته، ماضيه وحاضره، طبيعته ونوع ثقافته والروابط التي تربطه بالبيئة التي دخلها كي يعيش فيها أو يحكمها أو يسوسها كما هو الشأن بالنسبة لموضوعنا. كل ذلك ضروري ومفيد لمعرفة مدى تكامله أو تناقصه مع المجتمع الذي يتطلع إلى تسييره. فالنتائج التي يسجلها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية مرتبطة به أشد الارتباط وخاضعة حتميا وإلى درجة كبيرة لشخصيته وسلوكه. كم مجتمع تغيرت أحواله وتطورت أنظمته نتيجة سلطة قوية حازمة حكيمة أخذت بزمام أمره، فقادته نحو الرقي والازدهار، وكم مجتمع أصابه التخلف والانحطاط وحلت به مصائب كادت تقضي على كيانه نظرا لضعف الشخصية التي استبدت بأمره وتحكمت في مصيره.

ومعنى ذلك بالنسبة لموضوعنا أن التعريف ببني مرين يشكل عنصرا أساسيا في هذا لبحث ويلقي كثيرا من الضوء على الطريق الذي سنسكله كما يساعد على الوقوف على كثير من العوامل التي كانت وراء ظواهر برزت وأخرى اندثرت في هذا العصر.
لقد تضاربت الأقوال حول بني مرين واختلفت الآراء حول أصلهم ونسبهم، فكثرت النظريات وتشعبت الأحكام، فكان من المؤرخين من أرجع نسبهم إلى البربر وكان منهم من أكد عروبتهم كما كان منهم من ادعى أنهم أوربيون كسائر القبائل البربرية إلا أن الأحكام لم تكنن، في جملتها، مبنية على أسس علمية وحجج موضوعية، مستمدة من التاريخ نفسه ومن الواقع الاجتماعي الذي عاشته البيئة المغربية عبر العصور، فتحيز البعض لعنصر كان قويا في ظروف معينة وتأثر البعض الآخر بعاطفة دينية أو عنصرية كما اكتفى عدد كبير من المؤرخين بالرواية والنقل المجرد. مع أن القضية ذلت أهمية عظمى من الوجهة التاريخية المحضة ومن الناحية الاجتماعية أيضا. وإذا كنا لا نريد الخوص في هذا الميدان الشائك الذي ظل إلى اليوم مستعصيا على كثير من العلماء المختصين، نظرا لقلة المصادر التي يمكن الاعتماد عليها وكثرة الأساطير المتعلقة بالأجناس التي سكنت العالم في العصور السحيقة، فإننا كذلك لا نريد أن نمر ساكنين عن أهم ما جاء في هذا الموضوع من نظريات وبدون إبداء موقفنا منها.

نظرية ابن خلدون :
أهم ما جاء في ها الباب، في نظرنا هو ما رواه ابن خلدون عن البربر وعن نسبهم وتاريخهم بصفة عامة. ذلك أن معظم المؤرخين عربا كانوا أو أجانب استندوا إليه واعتمدوا عليه اعتمادا يكاد يكون كليا عند البعض، فأتوا بحجج وأدلة ونقلوا ما جاء في مقدمته وتاريخه تأييدا واستشهادا لروايتهم، فكان ما قالوا هو في غالب الأحيان ما قاله ابن خلدون قبلهم عن البربر عامة وعن زناة خاصة مع شيء من التفصيل والتعليق في بعض الأحيان.
يستخلص مما جاء في مقدمة ابن خلدون وتاريخه أن البربر كلهم يرجعون في نسبهم إلى فرعين رئيسيين تفرعت عنهما شعب وبطون كثيرة : فرع البرانس، وفرع مادغيش أو البتر. إلى الفرع الأول تنتسب قبائل صنهاجة وكتامة ومصمودة ولمتنة وغيرها من القبائل التي سكنت ما يسمى اليوم بالمغرب العربي وتقاسمت أطرافه في موطنها كما لعبت دورا أساسيا في تاريخه السياسي وحياته الاجتماعية. أما قبائل مادغيش والبتر فتتمثل على الخصوص في قبائل زناتة المتفرعة إلى مغراوة وبني يفرن وبني مرين وبني عبد الواد وغيرها. هذا هو لتقسيم الأول الذي أعطاه ابن خلدون للبربر أو بعبارة أخرى سكان إفريقيا الشمالية في عهده أي في القرن الرابع عشر (م) وهو تقسيم ازدواجي مقصود عند ابن خلدون مبني على طرفي نقيض كما جاء في تاريخه. ذلك أن جميع القبائل البتر أي قبائل زناتة تتعارض مع البرانس في المسكن وفي أسلوب العيش وفي كثير من العادات والسلوك. بل عرف الفرعان الكبيران بكثير من التنافر والتناحر، والعداوة المكينة مدى العصور وعبر المجتمعات التي وجدا فيها جنبا إلى جنب، عرفت القبائل الأولى في معظمها بنوع من حياة الاستقرار والتشبث بالمسكن وتعاطي الفلاحة والاهتمام ببناء الدور، بينما اشتهرت قبائل الفرع الثاني بحياتها البدوية والقائمة على التنقل والترحال الدوري من مكان إلى آخر، بحثا عن الرزق وسعيا وراء إيجاد كلأ للماشية أينما وجد الخصب وحيثما ظهرت المراعي والمياه، مهما كانت الظروف ولو «أدى الأمر إلى التسلط على الغير والسطو على ممتلكاته ومزروعاته». وبذلك قوي الصراع واشتدت العداوة والبغضاء بين الطرفين المتصارعين اللذين ظل كل منهما يكيد للآخر ويتربص به عساه يقضي عليه نهائيا ولو أدى الأمر إلى التحالف مع عدو مؤقت أو مع أجنبي كما حدث لقبائل زناتة عند ما تحالفت مع بني أمية في الأندلس.
والذي يهمنا هنا في نظرية ابن خلدون أن قبائل بني مرين قبائل بربرية ترجع في نسبها إلى قبائل زناتة المشهورة، وأنها بانتمائها إلى هذه القبائل تشكل عنصرا من العناصر التي ناصبت العداء الدائم لقبائل مصمودة وصنهاجة وغيرها من فروع البرانس، ويؤكد ابن خلدون بربرية هذين العنصرين من سكان المغرب في عهده بتقسيم آخر جعل فيه البربر ثلاثة أقسام رئيسية : صنهاجة، زناتة، مصمودة، أي القبائل التي لعبت في المغرب دورا رئيسيا في حياته السياسية والاجتماعية إلا أننا نراه، وهذا مهم بالنسبة لموضوعنا، يخص قبائل زناتة بعناية كبيرة ويدرسها في تاريخه دراسة طويلة مركزة، الشيء الذي لم تحظ به القبائل الأخرى التي تندرج تحت لواء البرانس، لماذا إذن هذه الأهمية وهذه العناية الخاصة؟.. هل كان ذلك لغاية مادية أو سياسية يرمي إليها من تاريخه الطويل؟ كما أكده كوتي في تاريخه (ماضي إفريقية) (1) نظرا لكون الدولة القائمة في عذره هي دولة بني مرين وهي من زناتة؟ نحن نعلم أن ابن خلدون كان كثير المطامع والشهوات، ميالا إلى العز والجاه داهية في خلق الأسباب لتقرب من ذوي النفوذ عارفا بخبايا الأحداث وبدقائق الأمور متحينا الفرص، متقلبا في سلوكه لنيل مراده وتحقيق أهدافه الكبرى والبعيدة، كل ذلك نعلمه منه.
تلك هي بإجمال نظرية ابن خلدون في أصل البربر بصفة عامة وقبائل زناتة بصفة خاصة، وهي نظرية تتصف بكثير من الشمول والدقة والإيضاح ووفرة المعلومات رغم ما يبدو فيها من تناقض وتطرف في القول، ولقد كانت الصراحة التي أبداها ابن خلدون في هذا الموضوع سببا لكثير من الانتقادات التي وجهت إليه والحملات التي قامت ضده لا سيما من طرف بعض المحدثين الذين نعتوه بأوصاف جارحة، واتهموه بتهمة التفرقة بين العرب والبربر تلك التفرقة التي اعتمد عليها في نهاية القرن المنصرم وفي بداية هذا القرن، كثير ممن مهدوا الطريق للاستعمار وأيدوا خطته في التفريق بين عناصر السكان للقضاء على القومية وردود الفعل الوطنية، فابن خلدون في نظر هؤلاء هو الذي أوحى بهذه الفكرة للمستعمرين وهو الذي زودهم بسلاح حاد استعملوه للقضاء على وحدة الشعوب المستعمرة؟.
إلا أن ابن خلدون، رغم هذا التقسيم لعنصر من سكان المغرب الذي أطلق عليه اسم بربر أورد في مقدمته استناد إلى ابن حزم أن إفريقش، وهو حميري من التبابعة، انتقل إلى أرض المغرب بقبائل عربية كثيرة، استوطنته واستقرت منذ عصور سحيقة، ثم زاد وأكد في تاريخه أن قبائل صنهاجة وكتامة من القبائل العربية التي صبحت إفريقش هذا من اليمن إلى المغرب. وبذلك يلتبس الأمر على الباحث في هذا الميدان، في نظرية ابن خلدون في أصل البربر، هل هم عرب نزحوا من الشرق إلى الغرب فمكثوا إلى أن جاء الفتح الإسلامي العربي أم هم عنصر قائم بذاته، له خصائصه ومميزاته يتميز بها عن العنصر العربي الفاتح؟ فابن خلدون رغم محاولاته الجزئية ومعلوماته الواسعة عن البربر وتاريخهم وأمامكن استقرارهم في أطراف المغرب لم يذهب في هذا الجانب الذي ظل إلى اليوم مستعصيا على كثير من العلماء، ولم يقرر بصفة علمية أن البربر يشكلون عنصرا من حيث العرق أو هم عناصر يختلفون عن العرب من الناحية اللغوية فقط. بل ظل يتحدث عن البربر كعنصر قوي في البلاد، له عاداته وتقاليده، ويختلف عن العنصر العربي في كثير من السمات والصفات.

عروبة بني مرين
ترجع عروبة بني مرين إلى النظرية القائلة بعروبة البربر عموما، وهي نظرية كثير من المؤرخين العرب ولا سيما المحدثين منهم وغير العرب الذين كتبوا في هذا لموضوع، أما الأسس التي تنبني عليها هذه النظرية فهي :
1) اللغة.
2) لفظة بربر لا تعني وجود عرف أو سلالة.
3) دخول الكنعانيين إلى المغرب قبل الفتح الإسلامي ودخول العرب من اليمن إلى إفريقيا على يد إفريقش.
4) سهولة إسلام البربر وتعريبهم بصفة سريعة.
5) تأثيرهم بالحضارة الفينيقية تأثرا عميقا وعدم تأثرهم بالحضارة الرومانية المسيحية.
تعتبر اللغة من المقومات الرئيسية لقومية ما، فكثيرا ما اعتمد عليها المؤرخون كمقياس يعرف به مدى تشبث شعب بقوميته ومدى انسلاخه عن هذه القومية واندماجه في قومية أخرى تغلبت عليه بالقوة أو بالتأثير الحضاري العالي التي تتوفر عليه هذه الحضارة الغالية؟ وهذه حقيقة اجتماعية أثبتها التاريخ حيث رأينا شعوبا كانت تتوفر على لغة قديمة فقدتها أو كادت بفعل التأثير الأجنبي المقصود أو غير المقصود، أما البربر فكانوا يتحدثون بلهجة بل بلهجات مختلفة تميزت عن لغة العرب، إلا أن هذه اللهجات كلها رغم اختلافها ورغم خصائصها حوت كثيرا من الألفاظ العربية كما اشتملت على كثير من أدوات النحو والمخارج الحروفية التي نجدها في اللغة العربية، وهكذا نجد أسماء كثيرة في ميادين مختلفة في حياة الأسرة أو في مرافق أخرى تكتسي طابعا حيويا، نجدها مستعملة عند العرب وعند البربر بنفس المعنى.
ويجدر بنا أن نشير هنا في هذه المناسبة إلى البحث القيم الذي نشر في مجلة اللسان العربي للأستاذ المختار السوسي رحمه الله حول تأثير العربية في الشلحية (2)، فالأستاذ المختار، كما يدل عليه نسبه، هم من أهل سوس، قبائل بربرية تسكن منطقة من المناطق المغربية النائية، أديب مغربي مشهور وفقيه لغوي كرس حياته على دراسة وتدريس اللغة العربية كما اهتم خصوصا بتاريخ إقليم سوس وعلمائه وأدبائه ومشاهير رجاله، ولقد أبرز في هذا البحث وجوه الشبه بين اللغة العربية والشلحية وسرد أسماء كثيرة وعبارات متعددة تحدث عن أصلها وتطورها وما لحقها من تحريف ثم أرجعها إلى مصدرها الأصلي وهو اللغة العربية،ومما يزيد البحث قيمة أن الأستاذ المذكور خرج بنتيجة أخرى وهي أن الشلحية في سوس وغيرها من فبائل البربر تستعمل كلمات قديمة سبقت الفتح الإسلامي، الشيء الذي يثبت في نظره مصدرا واحدا لها هو اللغة العربية، كما يثبت وجوه العرب قبل الفتح الإسلامي بقرون.
ويستدل كذلك على عروبة البربر أن لفظة «بربر» التي أطلقت على هذا العنصر من السكان المغاربة لا يقصد بها العرق وإنما أطلقت كوصف تطور مفهومه مع الأحداث، ذك أن «بربر» في الأصل كلمة يونانية، حسب كثير من المصادر تعني كل من كان يتكلم يغير لغة اليونان ثم أصبحت تعني عند الرومان جميع الشعوب التي كانت دون حضارتهم، بل كانوا يعنون بها الشعوب البدائية التي لا حظ لها «من الحضارة» أما العرب فقد استعملوا كلمة «بربر» بمعنى اختلاط الأصوات واضطراب الألفاظ أو غموض مفهومها فالكلمة معناها إذن تحريف واختلاف في الكلام والتباس فيه بل عدم مطابقته لكلام العرب.
وينسب بعض المؤرخون إفريقش قوله لما سمع العرب يتكلمون بإفريقيا وما أكثر بربريتهم ثم قوله في شعر «بربرت كنعان لما سقتها ـ من بلاد الصنك الخطير» وهكذا أن المسألة في «بربر» مسألة لغوية لا صلة لها بالعرق أو بالجنس ذلك أن البربر هم عناصر من السكان يتحدثون بلهجة خاصة تختلف في قليل أو كثير عن لغة العرب. فالبربر إذن، حسب ما أوردناه، يمكن أن يكون عربيا تبربر أو إن صح التعبير «متبربر» تعرب لكن عربيته أصيبت بتحريفات وتغييرات سطحية أو جذرية، بحكم البيئة أو عوامل اجتماعية معينة.
ثم إن هناك ظاهرة أخرى يستشهد بها أنصار عروبة البربر، وهي دخول العرب من اليمن إلى المغرب على يد إفريقش، ثم دخول الكنعانيين بعدهم يوم فتحوا المغرب قبل الإسلام، بل قبل الميل؛ وقد كان الفينيقيين في المغبر أثر كبير في سكانه، كما أكده كثير من المؤرخين العرب وغير العرب بينما لم يترك الرومان في هذا للبلد أثر يذكر.
والسر في ذلك راجع إلى أن الفينيقيين، كما أثبتت الحفريات، كانوا يتحدثون بلغة عربية ي جوهرها، بل قريبة من اللغة العامية المنتشرة في إفريقيا الشمالية.
فإذا كان سكان المغرب لم يأخذوا شيئا عن الحضارة الرومانية، رغم سيطرتها وتفوقها، فهم قد أخذوا عن حضارة الفينيقيين الشيء الكثير وانسجموا معهم في كثير من الظواهر، لا سيما اللغة، وما هذا الانسجام وهذا التفاعل بين العنصرين في نظر الكثير، غلا دليل على تقارب المنبعين ووحدة الأرومنين.
وإذا صحت هذه النظرية، فبنو مرين كسائر القبائل الأخرى عرب رغم تحدثهم بلهجة خاصة ورغم وجودهم بمناطق المغرب قبل الفتح الإسلامي؛ بل هناك من المؤرخين من خصهم بهذه الصفة دون غيرهم،وأكد عروبتهم من ببين البربر، وابن خلدون نفسه، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، لاحظ في عصره أن قبائل زناتة بصفة عامة تشترك مع العرب في كثير من الصفات والأخلاق وأساليب العيش، لا سيما أهل البدو منهم على أن ابن الأحمر (3) صاحب روضة النسرين هو من معاصري الدولة المرينية ومؤرخيها أكد في روضته أن زناتة كلها عربية الأصل، من مضر «يجتمع نسبهم بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاته، وهم من أبي بر ابن قيس ابن غلان ابن مضر ابن نزار ابن معد ابن عدنان، وبر بن قيس بن غلان جد زناتة عربي ليس بربريا، سكن مع أخواله من البربر، وكانوا يسكنون بأرض فلسطين وما ولاها من بلاد الشام ومصر، ويجاورون العرب في المساكن والمراعي؛ وتزوج بر بن قيس فولدت له زوجته مادغيش وعلوان، فأما علوان فمات وهو صغير السن، وأما مادغيش فكان يلقب بالأبتر وهو أبو البتر بزناتة».
هذا قول إسماعيل بن الأحمر في عروبة زناتة أي عروبة بني مرين، وهو قول كما نرى يعتمد على مجرد رواية ولا يستند إلى حجج مقبولة، فمن الممكن أن يكون ابن الأحمر، قال هذا من قبل المدح لرؤساء الدولة الحاكمة لما عرف عنه من تحبب وتودد ورمى خصومهم بني عبد الواد بأقبح الصفات وأبشع النعوت وهو معروف بذلك التحيز السافر ويعترف به صراحة في كتابه (روضة النسرين) حيث خصص القسم الثاني منه لنشر مثالب ونقائص بني عبد الواد. ونفس الموقف يلاحظ عند عبد العزيز الملزوزي من أرجوزته (نظم السلوك) حيث وقف من بني مرين نفس الموقف الذي وقفه نحوهم ابن الأحمر، لقد نسبهم هو الآخر إلى العروبة وتأسف على التحريف الذي أصيب به كلامهم من ذلك قوله :
فجاورت زناتة البرابــــــــــــرا ما يدل الدهر سوى أقوالهم
بل فعلهم أربى على فعل العرب = فانظر كلام العرب قد تبدلا
كذاك كانت قبلهم مريـــــــــــــن = اتخذوا سواهم خليــــــــلا
فصيروا كلامهم كما تـــــــرى = ولم يبدل منتهى أحوالهــم
في الحال والأشعار ثم في الأدب = وحالهم من حاله تحـــولا
كلامهم كالدر إذ تبيـــــــــــــــن = فبدلوا كلامهم تبديـــــــلا

وليس من البعيد كذلك أن يكون الملزوزي متأثرا في كلامه هذا كإسماعيل بن الأحمر بقوة ونفوذ رؤسائه بني مرين إذا كان أحد السفراء الملازمين لهم، والانتساب إلى العروبة أصبح بعد الفتح الإسلامي مفخرة للمستغربين، وعزة اللذين أقبلوا على الإسلام نظرا لكون اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الحديث، ولكون العرب هم الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية ونر العرب هم الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام أينما حلوا؛ فلا غرابة بعد، أن يصبح الانتساب إليهم والاندماج فيهم وحمل رايتهم موضوعا من مواضيع الفخر ومعنى من معاني المدح والثناء. والتاريخ يحدثنا في هذا لموضوع عن كثير من الشخصيات المغربية التي بعد اندماجها في دائرة العروبة والإسلام، أبحت تتنكر لأصلها وتبحث لها عن أصل عربي صحيح، ولا غرابة أن يكون ما قاله إسماعيل ابن الأحمر وعبد العزيز الملززوزي من هذا القبيل.
ذلك ما قيل عن البربر عامة وعن بني مرين خاصة، وسواء صحت تلك النظريات أن لم تصح، فالواقع المغربي، أي المجال الذي كان مسرحا لانفعالات بني مرين وعواطفهم وأفكارهم وأعمالهم، هذا الواقع الذي شاركوا في صنعه،وبذلوا فيه قصارى جهودهم، جعلنا نميل في غير تأكيد إلى عروبتهم أو على الأقل نصرح بالصبغة العربية الشديدة التي اكتسبوها في البيئة المغربية وفي الزمن الذي سيطروا فيه عليها.
وإذا كان ما قاله ابن خلدون عنهم في اشتراكهم مع العرب في كثير من الصفات كالتنقل وركوب الإبل والعيش تحت الخيمة، إذا كان ذلك لا يكفي لتأكيد عروبتهم، فإن لنا في سلوكهم مظاهر أخرى لا تخلو من إيجابية في هذا لمضمار، فلقد أجمع كثير من المؤرخين الذي كتبوا ووصفوا حياتهم، أن بني مرين أكثر القبائل وأسرعها اندماجا في العرب وأقواها استعدادا للتكيف والانسجام معهم في حياتهم اليومية وفي مواقفهم الاجتماعية المختلفة أكد هذه الحقيقة كثير من المؤرخين الذين اهتموا بهذه الناحية، ذلك ما جعل كوتي (4) يتساءل في استغراب عما بقي من قبائل زناتة ويبحث عنها في مختلف مواطنها التي عرفت فيها من قبل، فلا يكد يجد لها أثرا، يقول : اندثرت بع ما كانت قوية وانمحت أعقابها وكأنها لم توجد بهذه المناطق الصحراوية والتراب من إفريقيا ومن قلب المغرب الأوسط الذي كان مقرا لها، والسبب في ذلك، كما يقول كوتي : «إنها ذابت وفنيت في قبائل عربية مختلفة»، وقد لاحظنا بالفعل، ونحن نتبع تطور القبائل البدوية في المغرب (بني هلال وبني سليم) إن بني مرين كانوا أكثر من غيرهم انسجاما مع هؤلاء البدو. لقد تحالفوا معهم وقربوهم إليهم وكلفوهم بمناصب خطيرة في الجيش وفي ميادين مختلفة. ولقد سبق لزناتة أن تحالفت مع قبائل أخرى عربية رغم كونها أجنبية على البلاد. وما تلك القبائل إلا بنو أمية الذين وجدوا في هذه القبائل خير حليف وخير مناصر في سياستهم ضد الفاطميين المتولين على المغرب، ثم هناك ظاهرة أخرى بالنسبة لموضوعنا وهي أن بني مرين اتخذوا اللغة العربية لغة رسمية للبلاد في مختلف الميادين خلافا لما كان عليه الأمر في زمن عبد المؤمن حيث، كما يذكر التاريخ كانت تسد الدولة ازدواجية في اللغة : لهجة بربرية ولغة عربية، وذلك ما لاحظه الأستاذ عبد الله كنون (5) عندما قال : «فالواقع أن بني مرين كانوا يعملون للنهضة والتجديد في دائرة العروبة، لا يخرجون عنها أصلا، فخدموا العربية خدمة صادقة، كفى أننا لم نعد نسمع بعد توليتهم الحكم بشيء من التمييز الذي كان للبربر في دولة بني مومن بل كان هذا آخر العهد بحيلة التفرقة والعنصرية»، والواقع أن الاستعراب انتشر في البلاد (زمن بني مرين) انتشارا لم يسبق له مثيل حسب رأينا في التاريخ، ذلك أن قبائل معروفة ببربريتها وبعدها عن المناطق التي يسكن فيها العرب بكثرة، استعربت نهائيا حتى أصبح يشك في أصلها وفي نسبها؛ ونتيجة لذلك أيضا انتشر الشعر العامي في البلاد وكثر متعاطوه ومتذوقوه لشدة تأثيرهم باللغة العربية وتعودهم على كثير من كلماتها وعباراتها المتداولة.
أفليس هذا بكاف للدلالة على ما ذهبنا إليه، وعلى الموقف الذي وقفناه من بني مرين، وإذا كنا في نظر البعض، قد أطلنا الكلام فيه الناحية فما لك إلا أننا نرى كما أسلفنا أن التعريف بالفرد في المجتمع لا سيما بفرد يلعب دورا رئيسيا في تغيير البيئة وتطورها أمر ضروري من الناحية الاجتماعية لمعرفة نوع النتائج التي تركها أو من الممكن أن يتركها. فبنو مرين بصبغتهم العربية وبصفاتهم البدوية وبأخلاقهم وعاداتهم وحالاتهم النفسية أثروا بكل ذلك في المجتمع المغربي. أفلا يتأثر الأدب بهذه العوامل كلها؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ماضي إفريقيا ص 49.
(2) بحث للأستاذ السوسي بمجلة اللسان العربي تحت عنوان «تأثير العربية في اللغة الشلحية» سنة 1965 عدد 2 صفحة 32.
(3) ستأتي ترجمته في الفصل المقبل الخاص بمشاهير أدباء هذا العصر المريني.
(4) ماضي إفريقيا ج 2ص 98.
(5) عبد الله كنون «النبوغ المغربي في الأدب العربي» (بيروت : مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية 1961) ج 1 ص 183.


* ع/100


الادب المغربي.jpg
 
أعلى