دعوة الحق - خطبة طارق بن زياد من جديد

-1-
من منا لا يعتز بهذه الخطبة؟ ومن منا لا يعدها أعرق تراث مغربي يقترن بفجر الإسلام بالمغرب والأندلس؟ إن ناحيتها البلاغية لم تكن تسحرنا، ونحن أطفال في المدرسة، وإنما الذي كان يثير فينا مشاعر الاعتزاز والزهو هو تلك الروح المغربية الإسلامية التي تتحدى الأخطار، وتهزأ بالأهوال، وتقتحم الصعاب، وتهوى البطولات والخوارق البشرية. ولكن بعض الباحثين ـ سامحهم الله ـ حاولوا نسف تلك المشاعر وزعزعة تلك الصورة الرائعة التي كونتها مخيلاتنا من خلال تلك الخطبة، وحاولوا تنغيص تلك النشوة الروحية التي كانت تسبح في أجوائها احساساتنا ونحن نرددها على مسامع معلمنا بالمدرسة الابتدائية وكان كل واحد منا طارق محصورا بين البحر والعدو وهو واتق بالنصر المبين.
وكانت بلاغتها التي رويت عليها في نفح الطيب شؤما عليها إذ كانت من أهم الثغرات التي تسرب منها النقد ليهدم كيانها من القواعد!! ولكن بقليل من البحث حاولت أن أتلافى تلك الثغرات وأوصدها في وجه الشكوك التي تثار حول نسبة الخطبة لصاحبها طارق والحفاظ على تراثنا الذي نعتز به بشكل أو بآخر حسب ما سننتهي إليه في هذا المقال.
ممن احتار في أمر هذه الخطبة الأمير شكيب أرسلان رحمه الله عليه فقال:
« تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس ابن ساعدة أو سحبان وائل لم يأت بأفصح ولا بأبلغ منها، ولقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي.. هذا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهولة... » وحقيقة هذا اللغز لدى أمير البيان أن طارقا بربري، والخطبة تعد من انموذجات الخطب العربية، ولم يستطع التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين وقد حاول، لكنه لم يسترح لمحاولاته... وأخيرا زال تردده عند ما جزم الأستاذ الكبير عبد الله كنون بأن هذه الخطبة من جملة انطباع البربر بالطابع العربي البحت.(1)
وكذلك يرتاب في نسبة هذه الخطبة لطارق كل من الأستاذ المؤرخ عبد الله عنان وأستاذنا الدكتور أحمد هيكل أستاذ الأدب الأندلسي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. فأما الأول فيرتكز في ارتيابه على الأدلة التالية:(2)
1. ـ كون الخطبة لم ترد في المصادر التاريخية الإسلامية القديمة، ولم يشر إليها إلا ابن خلدون ولا ابن الأثير وإنما نقلها المقري وحده عن مؤرخ لم يذكر اسمه.
2. ـ روعة أسلوبها وعباراتها مع أن طارقا لم يكن عريقا في العروبة والإسلام، وينتهي من ذلك إلى الحكم بأنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان، وإن كان لا ينفي أن يكون طارق خطب ولكن في غير هذه اللغة.
ويبني الدكتور هيكل شكه في هذه النسبة على ما يلي:
1. ـ أن طارقا بربري، حديث عهد بالإسلام والعربية؛ لأنه لم يرتبط بموسى بن نصير إلا عند ما ولي هذا الأخير قيادة المغرب سنة 89 هـ. وبين هذا التاريخ وتاريخ الفتح (92 هـ) فترة وجيزة، يستبعد معها أن يجد طارق العربية بحيث تسمح له بإلقاء الخطب ونظم الشعر.
2. ـ أن المصادر الأولى عربية وأندلسية، قد سكتت عن هذه الخطبة ولم تشر إليها، ولا تنص عليها سوى المصادر المتأخرة كثيرا عن الفتح مثل نفح الطيب.
3. ـ أسلوب الخطبة بما فيه من الصنعة والزخرف لا ينتسب إلى عصر طارق الأدبي وإنما إلى عصر متأخر جدا عن القرن الأول، ولذلك يرى أن هذه الخطبة هي أقرب إلى خصائص أواخر العصر العباسي وربما إلى ما بعد ذلك.
4. ـ ورود هذه العبارة: « وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عربانا » مما يزيد من حظ الشك ويقوي الارتياب، لأن الجنود لم يكونوا عربا، بل كانوا برابرة. وبناء على تلك الأدلة يخلص الدكتور هيكل إلى حكم يرجع فيه أن تكون الخطبة قد وضعت على لسان طارق من طرف بعض الرواة المتأخرين كثيرا عن الفتح والمتأثرين كثيرا بأسلوب أواخر العصر العباسي وربما بالعصر المملوكي.
ويرى بعد ذلك أن طارقا قد يكون خطب في جنود، وقد يكون تغنى انتصاراته مفاخرا مباهيا، ولكن المعقول أن يكون فعل ذلك بلغته البربرية التي كان يجيدها والتي كان يفهمها جنوده(3).
وقد تصدى الأستاذ الجليل عبد الله كنون مفندا بعض هذه الأدلة الجدلية ونلخص رده فيما يلي:
1. ـ أن طارقا البربري نشأ في حضن العروبة والإسلام فأبوه هو الذي أسلم بديل اسمه « زيــــاد » ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وانتقل إلى المشرق حيث نشأ ولده في كنف موسى بن نصير.
2. ـ لا غرابة في نبوغ طارق البربري في العربية فقد نبغ فيها أمثاله عن غير العرب كعكرمة البربري وسلمان الفارسي.
3. ـ ليس في الخطبة من الصنعة البيانية ما يمنع نسبتها لطارق لأن بلاغتها في معانيها، والمعاني ليست وفقا على عربي ولا عجمي.
نعم قد تكون الخطبة تعرضت لبعض التصرف بالزيادة أو النقصان من الرواة، غير أن هذا لا يسوغ نفي أصل الخطبة، وليس بحجة للتشكك في نصها الكامل.
ويطمئن الأمير شكيب أرسلان لنسبة الخطبة لطارق اعتمادا على إثباتها في النبوغ المغربي وثبوتها لدى مؤلفه الحجة.
إلى هنا نكون قد عرضنا مختلف وجهات النظر حول خطبة طارق بن زياد ملاحظين تقاربها أحيانا وتباينها أحيانا أخرى، والدكتور هيكل وحده ينكر أن يكون طارق قد خطب بالفصحى، أما الأستاذ عنان فلا يستبعد ذلك ولكن بأسلوب غير هذا الأسلوب.
وأسارع إلى القول بأني لا أشاطر الدكتور هيكل في حكمه الذي بناه على حيثيات لا يعتمد البعض منها إلا على افتراضات، والبعض الآخر يعتمد على أساس النص الوارد في نفح الطيب. فكون طارق، مثلا، حديث عهد بالإسلام، لم يتصل بموسى بن نصير إلا عند توليه هذا قيادة المغرب سنة 89 هـ أمر لا يمكن تسليمه، لأن طارقا ابن لمسلم وهو زياد، وحفيد لمسلم وهو عبد الله، حسبما ذكره ابن عذاري في نسبه؛ فله على الأقل، أبوان في الإسلام، وهكذا لم يعد هذا القائد البربري حديث عهد بالإسلام، ولم تعد الفترة التي قضاها في الإسلام لا تتعدى ثلاث سنوات. ولعل الدكتور هيكل يشايعنا هذا في تعليقه رقم )3( ولو على طريق الفرضي، ثم من أين لنا معرفة ما إذا كان طارق قد نشأ في المغرب دون المشرق؟ أو تحديد ذلك التاريخ بالذات لاتصاله بموسى بن نصير؟ وما لنا لا نفترض، وهو أقرب إلى المعقول، أن أباه أو جده هو الذي كان بالمشرق؟ فنشأ الابن والحفيد في بيئة عربية صرف، أتاحت له حذق لغتها والنبوغ فيها والفوز بثقة بلاط دمشق ليتولى مكانة مرموقة في الدولة الأموية مما أهله لقيادة جيش الفتح. ثم أن أحدا من الموحدين القدماء لم يقل بأن طارقا خطب بالبربرية أو نفى الخطبة بالعربية!
أما كونها لم ترد إلا في المصادر المتأخرة كثيرا كنفح الطيب فليس الأمر كذلك، إذ وردت في مصادر أقدم بكثير عن عصر المقري، فقد أوردها ابن خلكان، وهو من القرن السابع، وردت في تحفة الأنفس لابن هديل، وهو من القرن الثامن، وقد نقلها عنان في كتابه المشار إليه سابقا، وأهم من هذا أن صاحب الإمامة والسياسة قد أثبتها وهو من رجال القرن الثالث للهجرة، كما سنبين ذلك من بعد، كما وردت قطعة منها في كل من « ريحانة الألباب » للمواعيني (توفي 570/1168) وكتاب « استفتاح الأندلس » لعبد الملك ابن حبيب.
ويجدر بنا أن نورد هذه النصوص ليتسنى لنا مقابلتها والتعليق عليها وعلى ما يتصل بها.

أ ـ نص ابن خلكان:(4) « فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لزريق الملك أنه وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع وهو على سرير بين دابتين عليه قبة مكللة بالدار والياقوت والزبرجد، فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة ثم قال:
« أيها الناس! أين المفر؟ والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما ستحصلونه من أيدي أعدائكم. وإن امتدت بكم الأيام ـ على افتقاركم ـ ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وأن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم، أن سمحتم بأنفسكم للموت، وأني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتم على خطبة أرخص مباع فيها النفوس أبدأ فيها بنفسي، واعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على أعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة ويكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي انجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
وأعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وأن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون ».

ب ـ نص الأمامة والسياسة:(5)
« فلما بلغ طارقا دنوه )أي لذريق( منهم قام في أصحابه فحمد الله ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة وبسط في آمالهم ثم قال:
« أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس ثم والله إلا الصدق والصبر، فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة. أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال. إلا و أني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه(6) أو أقتل دونه.فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة )كذا( والذلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومعيذكم، تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث إذا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي » فحمل وحملوا... »

ج ـ نص تحفة الأنفس نقلته عن كتاب الأستاذ عنان:(7)« أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تتخلصونه من أيدي عدوكم، وأن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به لممكن أن سمحتم لأنفسكم بالموت، وأني لم أحذركم أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس (كذا)، أبدأ بنفسي، وأعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة (كذا) لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الداريــــن ».
« أيها الناس ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، أن حملت فاحملوا، وأن وقفت فقفوا ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامل إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه (كذا) حتى أخالطه وأمثل (كذا) دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، ارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة (كذا) والذلة وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومفيدكم (كذا) تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي ».

(1) أنظر النبوغ المغربي ج 1/22، 23 الطبعة الجديدة.
(2) دولة الإسلام في الأندلس ج 1/47.
(3) أنظر كتابه: الأدب الأندلسي ص 80 ـ 83.
(4) وفيات الأعيان 2/177 ـ 178 طبعة بولاق. في ترجمة موسى بن نصير.
(5) الأمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة 2/75 الطبعة الثانية )ط الحلبي( سنة 1377 ـ 1957 مصر.
(6) في الأصل « وأقتل » وهو تصحيف.
(7) أنظر دولة الإسلام في الأندلس 1/46، 47، والأستاذ عنان لم يشر إلى المصدر عند إيراده نص الخطبة، بل بعد ما عقب عليها بقوله: « ويشير صاحب كتاب تحفة الأنفس إلى خطبة طارق... ثم يورد نص الخطبة ». واسف أن المصدر ليس بين يدي ولم أحصل عليه بعد ! ولذا اعتمد على الأستاذ المؤرخ عنان في هذا النص.

* دعوة الحق - العدد 107


الادب المغربي.jpg
 
دعوة الحق
خطبة طارق بن زياد من جديد

-2-

د) نص ريحانة الألباب(1):
«ولما أجاز طارق البحر ودمرهم(2) ( كذا) وقال:
إنكم بين عدوين بين أهل الكفر وبين البحر فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، وأحرق سفن الجواز..
«فلما أشرف طارق على جمعهم قال لأصحابه: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، وأني مصمم بنفسي نحو طاغيتهم حتى يحكم الله بيني وبينه، وقد فرض الله الواحد منكم للعشرة فاحملوا كما أمركم الله ينصركم فلا غالب لكم».
وبعد هذا يقول:
قال عبد الملك بن حبيب(3):« دخل الأندلس من التابعين زهاء عشرين رجلا ».

هـ)نص عبد الملك بن حبيب(3):
« فلما بلغ تدمير نزول طارق بمن معه من المسلمين كتب إلى لذريق- وهو يومئذ ملك الأندلس-« انه وقع بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء نزلوا أم من الأرض خرجوا».
فلما بلغ ذلك لذريق أقبل راجعا إلى طارق في سبعين ألف عنان، ومعه العجل تحتمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مجللة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد ومعه دواب تحمل الحبال لا يشك في أسرهم.
فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة ثم قال:
«أيها الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم؟ فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، إلا وأني صادم طاغيتهم بنفسي لا أقصر حتى أخالطه أو أقتل دونه».
ولسنا في حاجة إلى إيراد نص نفح الطيب فهو مشهور متداول، ثم أنه نفس النص الوارد في الوفيات الا في ألفاظ يسيرة.
وبعد هذا نود أن نعلق ببعض الملاحظات على النصوص السالفة:
1- اتفق جميع من تناول فتح الأندلس من المؤلفين المذكورين سابقا بأن طارقا خطب جنوده وأورد كل منهم الخطبة جميعها أو جزءا منها ولم يقل أي واحد منهم بأنه خطب جيشه بغير العربية، ولو كان طارق خطب بالبربرية لما غفل عن ذلك أولئك المؤرخون الذين يوجد من بينهم من كان قريبا من عهود الفتح.
2- إن التشابه في مقدمة الخطبة يبين النصوص الواردة في كل من تاريخ عبد الملك ابن حبيب، والإمامة
والسياسة(4) والوفيات يدل على أن المصدر واحد.
3- تتفق جميع النصوص السالفة في السطرين الأولين من الخطبة باستثناء الريحانة، حيث ورد فيها بعض اختلاف ومن الجدير بالملاحظة أن الجزء الوارد من الخطبة في تاريخ إن حبيب يوجد في جميع تلك النصوص الواردة في المصادر الأخرى بتغيير بسيط في بعضها.
4- أن الخطبة التي أوردها الأستاذ عنان نقلا عن مخطوطة تحفة الأنفس تجمع بين النصين الواردين في كل من الوفيات والنفح من جهة والإمامة والسياسة من جهة أخرى فالخطبة، إذا ، كما هي في النفح كانت موجودة في مصادر قبل عصر ابن خلكان وأن للمواعيني مصدرا مختلفا عن مصدر الاثنين، ونستبعد أن يكون هذا المصدر غير أندلسي وإن صح هذا فإن نص الخطبة كما هو وارد في هذا المخطوط كان مثبتا في مصادر أندلسية أفاد منها ابن هذيل كما أفاد منها سابقا كل من ابن خلكان وصاحب الإمامة والسياسة، وان ظل هناك احتمال وهو أن يكون ابن هذيل نقل الخطبة المشهورة من مراجع أندلسية والجزء الثاني من الإمامة والسياسة وأثبتهما كنص واحد!!
5- إن سؤالا ملحا يتبادر إلى الذهن عما يتصل بكتاب الإمامة والسياسة وهو من مؤلف هذا الكتاب الذي نسب إلى أبي قتيبة؟ وإن محاولة الجواب عن هذا السؤال تعرفنا فقط بالمؤلف وإنما ستقودنا إلى عنصر جديد يدعم نسبة الخطبة لطارق لما بين المؤلف وفتح الأندلس من صلة وثيقة.إن الشك في نسبة هذا الكتاب لابن قتيبة قديم وقد ساهمت الأندلس في إثارة هذا الشك يقول القاضي أبو بكر بن العربي( 5) « فأما الجاهل فهو ابن قتيبة فلم يبق ولم يذر للصحابة رسما في كتاب الإمامة والسياسة أن صح عنه جميع ما فيه».
أما الدراسات الحديثة فقد انتهت إلى أن هذا الكتاب ليس لابن قتيبة إلا المستشرق أماري فانه يقبل أن يكون هو المؤلف ولكن هذه الفكرة هدمها مستشرقون آخرون:
فمر جليوت بعد أن بنفي هذه النسبة لأسباب عدة، يرى أن الكتاب من نتاج القرن الثالث ولعل مؤلفه قصاص اسباني(6).
فأما كاينكوس فينتهي إلى أن الكتاب ينبغي أن يكون مكتوبا في أوائل القرن التاسع للميلاد بعد أعوام قليلة من موت هارون الرشيد.
ويعتقد دوزي بأن الكتاب لا يمكن أن يكون قد ألف قبل الحادي عشر للميلاد وقد بني رأيه هذا على وجود نص في الكتاب يذكر مدينة مراكش، وهذه المدينة أنشئت في عهد المرابطين سنة 454 هـ(1062) وقد فند بريس هذا الدليل وأبان عن ضعفه الشديد بأدلة منها أن هذا التنصيص لا يوجد إلا في نسخة الرباط دون النسخ الأخرى.
ويصل«دي خوية» في دراسته لهذه القضية إلى أن الكتاب قد يكون ألف في أواسط القرن التاسع أي حوالي العقد الرابع من القرن الثالث للهجرة وأن مؤلفه كان معاصرا لابن قتيبة وقد نسبه إلى هذا المؤلف ذي الشهرة الواسعة ليتاح للكتاب الذيوع والانتشار. وقد يلجأ بعض المؤلفين لهذه الوسيلة لسبب أو لآخر.
ثم ينتهي هنري برس من دراسته عن هذا الموضوع إلى أن المؤلف ينبغي أن يكون قد عاش أواخر القرن التاسع للميلاد(7).
وقد حدد الدكتور محمود في دراسته القيمة لهذا الموضوع مكان وزمان تأليف هذا الكتاب فقال بأنه ألف في مصر وفي القرن التاسع الميلادي. ويعتقد الدكتور مكي بأن الكتاب قد اشترك في تأليفه أكثر من واحد. وفيما يخص الجزء الخاص بالأندلس يرجح الدكتور مكي بأن يكون مؤلفه مصريا قد عاش أوائل القرن التاسع الميلادي أي قد وجد أن هذه القطعة التي تتعلق بفتح الأندلس وبموسى بن نصير تتفق مع ذكره المؤرخون عن كتاب معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير وبأدلة قوية وحجج معقولة ودراسة مثبتة. يصل الدكتور مكي إلى أن المؤلف هومعارك هذا الذي يعيش في مصر أوائل القرن الثالث أو أواسطه، واعتمادا على ذلك نصل إلى أن طارقا قد خطب جنوده بالعربية وأن جزءا من تلك الخطبة كان متداولا في المصادر القريبة من الفتح بل وتتناقله الأسرة الفاتحة، وهناك ملاحظة قيمة وهي أن هذا المؤلف قد أشاد بدور جده موسى بن نصير. ومن المعلوم أن علاقة هذا لم تكن على ما يرام مع طارق الفاتح الأول الذي تعرض لغضب رئيسه. ولو أن طارقا خطب بالبربرية أو لم يخطب بالمرة لما ضيع حفيد ابن نصير الفرصة للتنصيص على ذلك، في حين نجد العكس، إذ ينص على أنه خطب ويورد نص هذه الخطبة وأن كان مختلفا عما وجدناه في القرن السابع.
6- يقول بروكلمان بأن بعض أقسام كتاب الإمامة والسياسة مأخوذ عن كتاب في التاريخ ينسب لعبد الملك ابن حبيب(8).
ويرى دوزي أن ما ورد في كتاب ابن حبيب من أساطير حول افتتاح الأندلس أخذه المؤلف عن شيوخه من المصريين كما يؤكد ابن حبيب نفسه ذلك في أكثر من موضع في كتابه (9) ولعل ذلك بدافع إعجاب الأندلسيين الوافدين على المشرق بأساتذتهم المشارقة وانه قد يكون من المستبعد أن يأخذ ابن حبيب وهو أندلسي عالم قريب في زمان ومكان الفتح إن يأخذه فيما أخذه عن أساتذته المصريين ، خطبة طارق، وقد يكون من المعقول أن يأخذ معارك عن ابن حبيب بعض ما يتصل بالأندلس ومن ضمن ذلك خطبة طارق كما أشار إلى ذلك بصفة عامة بروكلمان وأن كانت هذه النقطة ستظل مثار جدال ما لم نظهر عناصر جديدة تقوي جانبا على آخر ومهما يكن من شيء فان لدينا مصدرين، متعاصرين هامين لخطبة طارق وكلاهما قريب من الفتح والفاتحين.
7- هناك ملاحظة أخيرة وهي أننا أمام نصوص ثلاثة مختلفة:
أ‌- نص الإمامة والسياسة
ب‌- نص ابن خلكان ونفح الطيب وهو المعروف المتداول.
ج- أما نص ابن هذيل فيجمع بين النصين السالفين فهو يعتبر نصا ثالثا مختلفا عن كل واحد من(أ-ب) باعتباره تركيبا جديدا، والسؤال الذي يرد هنا: ما هي خطبة طارق منها؟ هل هي النص( أ) أو (ب) أو (ج) أما النص( أ) فان نسبته إلى طارق من الناحية الفنية لا تثير ي ارتياب فأسلوبه خال من تلك العناصر التي احتج بها أستاذنا الدكتور هيكل لينفي الخطبة عن طارق كالصنعة والتكلف والترغيب في الغنيمة والسبي وغير ذلك، وأن هذا النص يبدو فيه تأثر طارق بالقران الكريم والروح الدينية المشبوبة.
أما النص( أ) فهو الذي أشار المشاكل من الناحية الفنية لكن ليس من السهولة أن ننفي هذا الجزء بتمامه عن طارق خصوصا وقد رأينا أنه مثبت في مصادر القرن السابع التي استقته من مصادر أقدم ثم أن المقري كان يملك أصولا مهمة عن تاريخ الأندلس وآدابها وان كنا نلمس من الناحية الفنية أثارا أجنبية وملامح غريبة في هذا النص، ولكن وجود هذه الملامح وتلك الآثار لا يجثت هذا النص من أساسه ويلغيه من أصله.وقد يكون النصان قد قيلا في موقفين مختلفين: قيل أحدهما أثر نزول الجيش الفاتح في التراب الأندلسي.
وقيل الأخر أثناء المعركة. فكان أحدهما مهيئا قبل إلقائه.
وآخر قيل ارتجالا وعفويا. ويدلنا على هذا. أن بعض المراجع تنص على أنه خطب في جنوده أثر حرقه للسفن. ومرة أخرى عندما أشرف على جمع النصارى (10) وأن ابن هذيل يمهد لخطبة طارق بقوله: لما التقى العرب والقوط واقتتلوا ثلاثة أيام أشد قتال فرأى طارق ما الناس فيه من الشدة فقام يعظهم ويحضهم على الصبر ويرغبهم في الشهادة وبسط في آمالهم ثم يورد نص الخطبة(11) وهذا يدل أن طارقا خطب مرتين على الأقل ولا نستبعد أن يكون قد خطب جنوده عدة مرات لتعدد المعارك والمناسبات..
وبعد،
فان ثمة تساؤلات أخرى أوردها على نفسي، ولكن البحث العلمي لا يسمح لي بمعالجتها الآن فإلى فرصة أخرى إن شاء الله.

-------------------------------------------
*) بقية البحث الذي نشر في العدد السابق، ولعل الطابع سها فأسقط كلمة«يتبع».
1) ريحانة الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب للمواعيني مخطوطة الخزانة الملكية رقم 2647.
2) قد تكون العبارة لمحاربة الكفار دمرهم الله، أو دمر السفن!!
3) صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد المجلد 5/1- 2 ص 222، وقد نشر هذه القطعة من تاريخ ابن حبيب الأستاذ المحقق الدكتور محمود مكي.
4) ورد في الإمامة والسياسة نفس المقدمة التي وردت في كل من المصدرين المذكورين أعلاه، مع اختلاف طفيف جدا.
5) العواصم والقواصم ص 284 وأنظر التعليق رقم 2 للأستاذ العظيم محب الدين الخطيب ناشر الكتاب ومحققه.
6) أنظر مرغليوث: دراسات المؤرخين العرب ترجمة د. حسين نصار ص 134- 136
7) انظر مجلة الدراسات الإسلامية التي يصدرها المعهد المصري بمدريد 5/210 وما بعدها حيث عالج المحقق الدكتور محمود مكي هذا الموضوع في بحث قيم باللغة الاسبانية.
8) تاريخ الأدب 2/229- 230
9) تاريخ الفكر الأندلسي 195- 196 وانظر مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد في العدد المشار إليه سابقا ص 230( القسم الاسباني).
10) انظر ريحانة الألباب وريعان الشباب للمواعيني مخطوطة الخزانة الملكية رقم 2647.
11) انظر دولة الإسلام في الأندلس عنا 1/47.



* دعوة الحق - ع/ 110
 
أعلى