عبد السلام بن ميس - المنطق في الفكر المغربي الوسيط

مقدمة
أورد في البداية التنبيه إلى كلمة " مغرب " الواردة في العنوان أريد بها الإشارة إلى شمال إفريقيا والأندلس معا ، أي ما كان ممثلا في الإمبراطورية الموحدية في العصر الوسيط . هذا من الناحية الجغرافية . أما من الناحية التاريخية فإن المقصود بالفكر المغربي في العنوان هو النشاط الثقافي الذي أفرزته الحضارة المغربية منذ بداية اتصالها بالأندلس العربية الإسلامية . وحددنا هذه البداية بالنسبة للمنطق في القرن العاشر الميلادي . وبذلك نكون قد أهملنا الفكر المغربي القديم حيث اتصل المغاربة مباشرة باليونان والرومان ، لعدم تمكننا من الإطلاع على مصادر تحيل على هذه الفترة ، خاصة في ميدان المنطق .

لماذا وقع اختيارنا على هذا الموضوع ؟

إن السبب الرئيسي لهذا الاختيار هو كون موضوع " المنطق في الفكر المغربي " غير معروف بما فيه الكفاية ، لا فقط عند عماة المثقفين ، بل أيضا عند أغلبية الذين أرخوا للمنطق العربي الإسلامي بشكل عام . لكم كانت دهشتنا كبيرة عند رجوعنا إلى كتب تاريخ المنطق العربي الإسلامي حيث وجدنا مؤلفيها لا يعيرون للمنطق المغربي أي اهتمام . ففي كتابه "تطور عند العرب " ( 1 ) يعرض نيكولا ريشر قائمة بأسماء الناطقة العرب منذ الفارابي ( ؟ - 950 م ) حتى الأخضري ( ؟ - 1575 م ) أي منذ القرن 9 م حتى القرن 16 م ، دون أن يذكر من بينهم ولو منطقيا واحدا من المغرب الأقصى. تحتوي قائمته هذه على 166 منطقيا عربيا إسلاميا من بينهم 14 مفكرا أندلسيا كتبوا في المنطق ومفكرا واحدا من المغرب الأدنى وهو ابن خلدون وأربعة مفكرين من المغرب الأوسط، أي الجزائر الحالية وهم : محمد بن أحمد التلمساني ( ؟ - 1379 م ) ومحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني ( ؟ - 1438 م) وأبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي ( ؟ - 1488 ) وأبو زيد عبد الرحمان بن محمد الأخضري ( ؟ - 1575 م). وفي كتابه " منطق العرب" ( 2 ) لا يحيل عادل فاخوري على أي منطقي مغربي، ويعتبر الجزائريين السنوسي والأخضري مجرد شراح ولا أصالة لهم. إن هذه المواقف من تاريخ الفكر المغربي بشكل عام ومن الإنتاج المغربي في المنطق بشكل خاص هي التي دفعتنا إلى محاولة التحقق من هذه الأحكام والرجوع إلى المصادر التاريخية للفكر المغربي لمحاولة فحص هذه المواقف وتقويمها إن اقتضى الحال.

تطور المنطق العربي الإسلامي بشكل عام

من المعروف أن المنطق في الفكر العربي الإسلامي بشكل عام مر بمجموعة من المراحل نجملها فيما يلي :

1- فترة الترجمة ودامت طيلة القرن 9 م .

2- فترة الشروح الأولى ودامت كل القرن 10 م. وفي هذه الفترة نشأت مدرسة بغداد المعروفة التي تمركز فيها المنطق العربي بصفة عامة خلال القرن 10 م. رغم هذا التمركز للمنطق في بغداد، فإن الأندلس أيضا، في نفس القرن، عرفت مناطقة أكفاء مثل الحمار ( ؟-1010 م) وابن بدر الأندلسي ( ؟ - 1020 م ) وابن البغونش الطليطلي ( ؟ - 1052 م ).أما المغرب في القرن 10 م فلم يكن يولي أي اهتمام للدراسات الفلسفية والمنطقية حسب نيكولا ريشر نفسه ( 3 ).
3- فترة ابن سينا . وهي التي دامت كل القرن 11 م. وفيها ظهر بن حزم الأندلسي (؟ - 1064) والدارمي الأندلسي ( ؟ - 1070 م). وبقدر ما كان ابن سينا مسيطرا علىالفكر المشرقي بقدر ما كان ابن حزم مستقلا عن ابن سينا وحتى عن الغزالي الذي ظهر في نفس الفترة. ومنذ القرن 11 م تم إدخال المنطق في التعليم الديني تحت تأثيرالغزالي بالمشرق وابن حزم بالمغرب والأندلس.
4- الفترة الأندلسية. وهي المتمثلة في القرن 12 م. وفيها ظهر ابن رشد ( ؟ - 198 م) وأبوالصلت ( ؟ - 1134 م) وابن حسداي ( ؟ - 1140 م) وابن باجة ( ؟ - 1138 م ) وابن زهر ( ؟ - 1162 م) وابن ميمون ( ؟ - 1204 م) وابن بندود ( ؟ - 1200 م) وسمي القرن 12 م الفترة الأندلسية لكون الأندلس ساهمت بنصف مناطقة العرب لهذا القرن. وكان أغلبهم من المتسوى الرفيع.
5- الفترة الذهبية في تاريخ المنطق العربي الإسلامي. وهي التي تمثلت في القرن 13 م. فقد كان عدد المناطقة وعدد المؤلفات في المنطق لهذه الفترة أكثر منها في أية فترة أخرى. وفيها انفصل المنطق عن الطبب واربتط بعلم الكلام وبالموضوعات العلمية خاصة الرياضيات والفلك. وفي هذه الفترة فتر نشاط مدرسة بغداد ونشط المنطق بفارس. أما الأندلس فلم تساهم إلا بمنطقيين هما : ابن طملوس ( ؟ - 1223 م) وابن سبعين ( ؟ - 1270 م). ويمكن تفسير هذا التراجع بالعداء الشعبي والديني للمنطق بالأندلس في هذه الفترة. أما في المشرق العربي فقد وصل المنطق العربي الإسلامي قمة تطوره مع ظهورا لخونجي( ؟ - 1249 م ) والأرموي ( ؟ - 1283 م) والأبهري ( ؟ - 1265 م )والقزويني الكاتبي( ؟ - 1292 ) وابن تيمية ( ؟ - 1328 م).
6- فترة بداية الجمود التي تنطلق ابتداءا من القرن 14 م. وفيها توقف التعامل المباشر مع النصوص الأرسطية خاصة بالمشرق. وأصبح العلماء والدارسون يلتمسون المنطق من المختصرات والشروح المحلية، وهي ظاهرة سبق لابن خلدون أن اشتكى منها في مقدمته. وانطلاقا من هذه الفترة، لم يبق أي إبداع في المنطق العربي الإسلامي حسب ريشر وفاخوري وغيرهما من مؤرخي المنطق العربي. وأصبح المهتمون بهذا الأخير مجرد معلمين يشرحون النصوص ويضعون عليها حواشي. وفي هذه الفترة وبعدها سيطرت على دارسي ومدرسي المنطق أمهات الكتب التالية :

( أ) "مطلع الأنوار" للأرموري ( 1198 - 1283 م).
( ب ) الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية للقزويني الكاتبي ( ؟ - 1277 م). وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة أهمها : "تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية" للتحتاني ( ؟ - 1365 م) و " شرح الشمسية في المنطق" لمسعود بن عمر التفتازاني ( ؟ - 1390 م). ويعتبر عادل فاخوري كتاب " الرسالة الشمسية" من أهم للمنطق عند العرب. وفيه معظم الموضوعات المتسحدثة في هذا الميدان إلى جانب تلك التي عرضت في كتاب " مطالع الأنوار" للأرموري وهي : إحصاء شامل للقضايا المقيدة بالجهة والزمان وبناء صارم لنظرية المجموعات وبحث مستوف للقضايا الشرطية مع محاولة نظمها في نسق استنباطي وإشارات أولى إلى منطق العلاقات.
( ج ) كتاب إيساغوجي في المنطق للأبهري ( ؟ - 1964 م). وعلى هذا الكتاب أيضا شروح كثيرة نذكر منها : " شرح على إيساغوجي" لأحمد بن عبد الرحمان الأبدي البجائي ( ق 13 م)؛ "سروجي المشرق على إيساغوجي المنطق" لإبراهيم بن محمد بن عبد القادر التادلي الرباطي ( ؟ - 1893 م)؛ " شرح على الكليات المعروفة بإيساغوجي" لزكرياء الأنصاري؛ " شرح على إيساغوجي في المنطق" لمحمد بن يوسف السنوسي ( 1428 م - 1490 م)؛ "شرح إيساغوجي" لعلي بن محمد القلصادي الأندلسي؛ " فوائد في الرسالة الأثيرية" لمحمد بن حمزة الفناري.
( د ) مختصر في علم المنطق للسنوسي ( 1428 م - 1490 م ). وعليه شروح مختلفة أهمها : "شرح المختصر في علم المنطق" للسنوسي نفسه؛ "نفائس الدرر في حواشي المختصر" لابن مسعود اليوسي؛ "حاشية على شرح مختصر السنوسي في المنطق" للحسن اليوسي ( ؟ - 1102 هـ) ؛ " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية" لأحمد بن عبد العزيز السجلماسي الهلالي ( ؟ - 1761 م).
هذه باختصار هي أهم المراحل التي مر بها المنطق في العالم العربي الإسلامي بشكل عام.

تطور المنطق في الفكر المغربي الوسيط

أما فيما يخص الكتابات المغربية في المنطق فإن مؤرخي هذه المادة لا يولونها الاهتمام الذي تستحقه في نظرنا. لقد بدأ مغاربة العصر الوسيط يكتبون في المنطق مباشرة بعد فترة انحطاط المنطق العربي الإسلامي المشرقي والأندلسي . وحسب المصادر التي اطلعنا عليها وجدنا أن الفكر المغربي الوسيط أفرز أكثر من ستين منطقيا لا تزال أغلب مؤلفاتهم عبارة عن مخطوطات في خزانات مغربية مختلفة. وعن هؤلاء المناطقة المغاربة سوف نتحدث الآن.
حسب المعلومات التي مدتنا بها مصادر تاريخ الفكر المغربي، لم يظهر أي مؤلف في المنطق بالمغرب على عهد المرابطين ( 1070 م - 1147 م). ففي هذا العصر اهتم الناس بالعلوم الدينية واللغوية فقط. وحسب الأستاذ بن شريفة ( 4 )، يمكن اعتبار أبي علي الماكري ( ؟ - 1270 م)، صاحب كتاب " أسهل الطرق إلى فهم المنطق " أول مغربي ألف في المنطق ( 5 ) . والماكري هذا تلميذ لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي ( ؟ - 1228 م) صاحب كتاب " لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول " ( 6 ) . ولقد عاصر ميلاد هذا الفيلسوف المغربي ظهور الدولة الموحدية ( 1147 م - 1269 م). في هذه الفترة ظهرت مؤلفات مغربية أندلسية في المنطق على شكل مداخل، من بينها :
كتاب " أسهل الطرق إلى فهم المنطق" للماكري؛
كتاب "الضروري في المنطق" لابن لاشد ( ؟ - 1198 م) ؛
"شرح منظومة ابن سينا في المنطق" لابن بندود ( ؟ - 1200 م)؛
" مقال في صناعة المنطق" لابن ميمون ( ؟ - 1204 م)؛
كتاب " المدخل لصناعة المنطق " لابن طملوس ( ؟ - 1223 م ).
كما ظهرت بالمغرب شخصيات أخرى اشتهرت بإتقانها للعلوم العقلية. ومن بين هؤلاء أبو عمر بن الكتاني الفاسي ( ؟ - 1202 ) و أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن حجاج بن الياسمين الفاسي ( ؟ - 1270 م) وأبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي( ق 13 م) وأبو محمد بن يحيى الأغماتي ( ق 13 م) وأبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالي ( ق 13 م ) الذي يقول عنه الأستاذ المنوني بأنه كان أعلم الناس بالمنطق على عهد الموحدين.
وهكذا يمكن ملاحظة أن القرن 13 م الذي يعتبره مؤرخو المنطق العربي الإسلامي بداية لفتور الاشتغال بالمنطق في العالم الإسلامي بصفة عامة، هو في المغرب، على العكس من ذلك، قرن ازدهار ونشاط ثقافي مكثف فيما يخص العلوم العقلية بشكل عام والمنطق بشكل خاص. وقد يقول بأن هذا الإنتاج الثقافي في ميدان العلوم العقلية راجع إلى التشجيع الذي قدمته السلطة الموحدية لرجال الفكر بصفة عامة. هذا صحيح، ولكن ينبغي أن لا ننسى، من جهة أخرى، أن فقهاء هذه الفترة عرقلوا ما أمكنهم النشاط الفكري في ميدان المنطق على الخصوص وذلك بتحريم الاشتغال به. وهذا ما فعله ابن جبير وأبو زيد الفازازي وابن قسوم الإشبيلي وجابر بن محمد المالقي وأبو عبد الرحمان الركراكي ( 7 ) . بل حتى الصوفية، وعلى رأسهم ابن سبعين، صارعوا المنطق في صورته الأرسطية. ولكن، رغم كل تلك العراقيل، نشط التأليف في المنطق ودافع عنه مفكرون كثيرون.
أما القرن 14، الذي يعتبره مؤرخو المنطق العربي الإسلامي فترة جمود، فيمثل بالنسبة للمغرب فترة ازدهار في ميدان العلوم العقلية. ففي هذه الفترة ظهر كتاب " الكليات في المنطق" لابن البناء المراكشي ( ؟ - 1322 م) و "شرح لمختصر الخونجي" لابن مرزوق التلمساني ( ؟ - 1379 ) و " ملخص في المنطق" لابن خلدون ( ؟ - 1406 م) لم يحفظه الزمن، لكنه خصص فصلا للمنطق في مقدمته. كما برع في هذا الميدان دون التأليف فيه كل من محمد بن محمد بن علي بن البقال ( ؟ - 1325 م) وأبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي ( ؟ - 1349 ) وأبو زيد عبد الرحمان بن أبي الربيع اللجائي ( ؟ - 1372 م).
أما في القرن 15 م، فقد تقوت سلطة الفقهاء أكثر وتقلصت الفلسفة بالمغرب، وزامن كل ذلك بداية اختفاء المؤلفات الأندلسية، وبالتالي عرف التأليف في ميدان المنطق بالمغرب خمولا واضحا بحيث لم يظهر في قرن بكامله، وهو القرن 15 م، إلا كتابان هما : " شرح إيساغوجي" لعلي بن محمد بن يوسف السنوسي ( 1428 م - 1488 م) وباختفاء المؤلفات الأندلسية أصبح التدوين في ميدان المنطق متمغربا أكثر لكنه أيضا أصبح مدرسيا أكثر. فانتشرت المنظومات الرجزية المعدة للطلبة وكثرت الشروح وشروح الشروح. ومن النصوص التي كانت لها شهرة كبيرة على عهد السعديين ( أي القرنين 16 و 17 ) أرجوزة " الذرر المنطقية" لعبد العزيز بن عبد الواحد المراكشي ( ؟ - 1572 ) وأرجوزة " السلم المرونق" للأخضري ( ؟ - 1585 م) و " منظومة رجزية في المنطق" لأبي زيد عبد الرحمان البوعقيلي الجزولي ( ؟ - 1598 م) و " شرح سلم الأخضري" لحسن بن يوسف الفاسي الزياني ( ؟ - 1614 م ) و " الطالع المشرق في أفق المنطق" لمحمد العربي الفاسي ( ؟ - 1642 م) وأبو العباس أحمد بن علي المنجور الفاسي ( ؟ - 1587 م) وأحمد التقليتي المراكشي ( ؟ - 1590 م) وأبو القاسم بن سودة الفاسي ( ؟ - 1595 م) وعلي الياصلوتي ( ؟ - 1630 م) وييبورك السملالي ( ؟ - 1648 م ) وياسين العليمي ( ؟ - 1651 م) وغيرهم. ومن خواص العلوم التجريبية والرياضيات والمنطق. ولقد عرف عهد السعديين مزيدا من الإقبال على علوم القرآن والدراسات اللغوية والأدبية. أما كتب العلوم العقلية فقليلة جدا. ففي المنطق مثلا لم يتعد عدد النصوص التي ألفت في هذا العلم خسمة وهي المذكورة آنفا. وفي هذه الفترة أيضا عمت ظاهرة الاختصار وقل الإبداع. وبعد وفاة المنصور الذهبي أصاب الحركة الفكرية، بشكل عام، فتور كبير. ولما جاء المولى محمد بن عبد الله حرم الاشتغال بعلم الكلام والمنطق والفلسفة. ومن تم اتجه اهتمام الشغوفين بالعلوم العقلية إلى الاشتغال بالرياضيات والهندسة. ومن بين المبرزين في هذه العلوم نذكر ابن سليمان الروداني ( ؟ - 1684 م) وأبو زيد الفاسي ( ؟ - 1685 م) وأحمد بن مبارك اللمطي وعبد الوهاب أدراق وعبد الله بن عزوز المراكشي. أما في يخص مادة المنطق، فرغم الحصار الذي ضربه عليها الفقهاء والسلطة السياسية فقد ظهرت فيها مؤلفات لا يستهان بقيمتها العلمية. نذكر من بينها كتاب : "القول الفصل في تمييز الخاص عن الفصل" لأبي علي حسن بن مسعود اليوسي ( ؟ - 1691 م) الذي يصفه الهلالي بكونه "أعجوبة الزمان وعلامة الأوان"، ثم " حاشية على مختصر السنوسي" لنفس اليوسي و " تقييد في النسبة الحكمية بين الطرفين الموضوع والمحمول" له أيضا، و " الجواهر المنطقية" لعبد السلام بن الطيب القادري الفاسي ( ؟ - 1689 م) و " شرح سلم الأخضري"لمحمد بن مدين السوسي ( ؟ - 1709 م) وشرح آخر لسلم الأخضري لأبي بكر الفرجي السلاوي ( ؟ - 1726 م).
وفي هذا العصر أيضا، أيام السلطان محمد بن عبد الرحمان، أسست المطبعة الحجرية بفاس وكان اختيار كتاب لطبعه بالمطبعة الحجرية هو في حد ذاته مقياسا لأهمية الكتاب. وبها طبع لأول مرة مؤلف مغربي في المنطق وهو كتاب : " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية" لأحمد بن عبد العزيز الهلالي ( ؟ - 1761 م). بن عبد الله الفاسي ( ؟ - 1773 م) و " حاشية على مختصر السنوسي في المنطق" لأبي عبد الله محمد بن الحسن بناني ( ؟ - 1773 م) و " شرح السلم المرونق" لنفس بناني و "تقييد في الفرق بين الدلالة العادية والوضعية" له أيضا و " شرح منظومة الجرادي البوعقيلي" لمحمد بن عبد الله بن يعقوب، و "شرح إيساغوجي" لعالم من إيلالن و " تقييد في الفرق بين النسبة والحكم" للطيب بن عبد المجيد بن كيران ( ؟ - 1812 ) و " حاشية على شرح بناني للسلم" لعلي بن إدريس قصارة الحميري ( ؟ - 1843 م) و " سروجي المشرق على إيساغوجي المنطق" لإبراهيم بن محمد التادلي الرباطي ( ؟ - 1893 م) و " شرح على السلم" لأحمد بن الطالب بن سودة ( ؟ - 1919 ) و "ختم سلم الأخضري في المنطق" للمكي البطاوري الرباطي ( ؟ - 1936 م) وهو كتاب طبع أيضا بالمطبعة الحجرية بفاس. وبالإضافة إلى هذه الشروح المحلية كان المغاربة يتعلمون ويعلمون المنطق حتى الخمسينات من القرن العشرين اعتمادا على المصادر الأساسية التالية :
- كتاب " إيساغوجي في المنطق " لأثير الدين الأبهري ( ؟ - 1265 م)؛
- كتاب " السلم المرونق" للأخضري ( ؟ - 1575 م) وهو كتاب طبع غير ما مرة بالمطبعة الحجرية بفاس نظرا لقيمته العلمية.
- كتاب " الجمل " للخونجي ( ؟ - 1294 م).
- "مختصر في المنطق" للسنوسي ( 1428 م - 1490 ) الذي كان أهم كتب التدريس بالقرويين منذ القرن 15 م.
- " الرسالة الشمسية" للقزوين الكاتبي ( ؟ - 1256 م) .
- " شرح السلم المرونق" للقويسني. وهو أشهر الكتب المتداولة بمدارس سوس العتيقة ( 8 ) .
ما هي القيمة العلمية لما كتبه المغاربة في المنطق ؟


هذه عجالة تاريخية حول تطور التأليف في المنطق بالمغرب . ولقد لاحظنا أن ما دون في المنطق بالمغرب، من حيث الكم، كثير فعلا، رغم المعارضة الشديدة التي كان يبديها، من حين لآخر، بعض الفقهاء وبعض رجال السلطة ضد المنطق باعتباره مدخلا للفلسفة والفلسفة شر. ولكن مؤرخي المنطق العربي الإسلامي لم يأخذوا بعين الاعتبار الإنتاج الفكري المغربي في ميدان المنطق لاعتقادهم أن هذا الإنتاج لا يتعدى مستوى الشروح والحواشي. وبالتالي فلا إبداع فيه ولا أصالة. وهذا، في اعتقادنا، حكم يقتضي المراجعة. إذ يكفي أن نأخذ كتابا من بين الكتب المذكورة أعلاه، وليكن على سبيل المثال كتاب الهلالي الآنف الذكر يطلقه بعض مؤرخي المنطق العربي الإسلامي، عربا كانوا أو أجانب، على الفكر المغربي العلمي. يقول المرحوم عبد الله كنون في كتابه : " النبوغ المغربي" ( 9 ) عن الهلالي، مؤلف " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية" ( 10 ) ما يلي : "أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي هو أحد الأئمة في المنطق والحساب والهندسة، وفاق جميع أقرانه في تحقيق هذه العلوم . هو صاحب " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية " ، وهو شرح ل " ـلمنظومة القادرية في المنطق " لأبي الفضل عبد السلام القادري . وشرحها هذا قل أن يكون له نظير . استقى من بحره من أتى بعده " . ولما رجعنا إلى هذا الكتاب وجدنا فعلا مؤلفا يستحق أن يقارن بما يعتبره عادل فاخوري قمة العطاء العربي الإسلامي في المنطق المتمثل في كتابي " مطالع الأنوار " للأرموي (؟ -1283 م ) و " الرسالة الشمسية " للقزويني الكاتبي ( ؟-1256 م ) . فكتاب الهلالي هذا ليس مجرد تقييد أو حاشية . ولكنه مؤلف تحتوي طبعته الحجرية ، وهي في 272 ص ، على إحصاء شامل لكل القضايا. وفي مبحث القضايا بالذات استفاض الكاتب على الخصوص في القضايا الشرطية . وله أيضا في مبحث الدلالة كلام طويل وملاحظات أساسية لا تخلو من أصالة . بل نجده أحيانا يمر من علم المنطق إلى فلسفة المنطق فيحلل ويناقش مفهوم الكذب ومفهوم التناقض ومفهوم الخبر في الجمل الخبرية ، ويربط كل ذلك بمبحث الدلالة . ونجده أيضا يمارس نوعا من علم النفس المعرفي فيميز بين الكلام النفسي والكلام اللساني والتصديق النفسي والتصديق اللساني . أما مبحث الموجهات فيعتبر في اعتقادنا من أغنى المباحث وأكثرها أصالة عند الهلالي . وأثناء حديثه عن القضايا الحملية و أصنافها تعرض الكاتب إلى أحوال المحمول في علاقته بالسور وهو أمر قل من يتحدث عنه في المناطقة العرب ( 11) .
وهكذا نلاحظ أن المغاربة الذين اشتغلوا بالمنطق منذ القرن 13 م ليسوا مجرد معلمين للمنطق أو شارحين فقط للمشارقة الذين سبقوهم . فإذا كان المنطق بالمشرق قد دخل مرحلة الانحطاط منذ القرن الرابع عشر الميلادي ، فإن المنطق بالمغرب قد في نفس القرن مرحلة الازدهار . وهذا هو الأمر الذي دعانا إلى إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي ككل والمغربي خاصة .
إن للمنطق في الفكر المغربي أصالة تتعارض ومبدأ تعميم الأحكام التي تقال عادة على الفكر العربي الإسلامي بصفة عامة . وهذه الأصالة لا تقال فقط على المنطق كعلم مستقل ، بل أيضا على المنطق كتقنية طبقها المغاربة في ميادين أصول الفقه وأصول الدين والكلام واللغة . ولقد كتب المغاربة في هذه الميادين . ما لا يسمح المقام بإدراجه . يكفي أن نعرف أن الفكر المغربي احتضن مدارس في هذه الميادين تختلف إلى حد كبير عن مدارس المشرق العربي في نفس الميادين .
تختلف إلى حد كبير عن مدارس المشرق العربي في نفس الميادين . فمدرسة ابن حزم في الأصول ليست هي مدرسة الغزالي . وطريقة تطبيق الهلالي لنظرية الدلالة على الكلام الإلهي القديم أقرب إلى الواقعية الرشدية منها إلى العقلية المشرقية . وتصور علاقة المنطق باللغة عند ابن حزم يختلف عن تصور هذه العلاقة عند الفارابي مثلا .
وإلى جانب هذه المدارس الأصولية الكلامية ، ظهرت أيضا مدرسة فلسفية مغربية أخرى استفادت من الفكر اليوناني بطريقة أصيلة لتطوير الدراسات البلاغية . تشكلت هذه المدرسة خلال القرنين 13 م و 14 م . ثم انتشرت بمراكز ثقافية مغربية مثل سبتة وفاس وسجلماسة ومراكش . وهي مدرسة لها مميزات تجعلها تختلف عن المدارس المشرقية في ميدان الدراسات اللغوية . ومن بين روادها يمكن الاكتفاء بذكر ابن البناء المراكشي في كتابه : "الروض المريع في صناعة البديع " ، وحازم القرطاجني ( ؟ - 1286 م ) في كتابه : " مناهج البلغاء وسراج الأدباء " ، والسجلماسي في كتابه " المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع" ، وابن عميرة في كتابه :" التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات " ، وغيرهم. لقد استطاعت هذه المدرسة أن تتجاوز الإرث اليوناني والأندلسي معا وتجعل من المنطق تقنية في خدمة اللغة ( 12 )
ومما يزيد في تمييز الفكر المغربي الوسيط وجود اتجاه معرفي بالمغرب يتبنى منطقا جديدا غير مؤسس على التمييز الكلاسيكي بين قيمتي الصدق والكذب كما هو معتاد في منطق أرسطو ، أو على مبدأ التناقض الذي هو أساس النطق الصوري الثنائي القيم . ويمثل هذا الاتجاه على الخصوص الفيلسوف المغربي محيي الدين ابن سبعين ( ؟ - 1270 م ) . فهو مفكر يبني منطقه على نفي الزمان ونفي العلة ونفي المتناقضات . ويذكر موقفه هذا بنظرية هيجل في التصور وبالاتجاه الحدسي في المنطق المعاصر وبموقف الفيلسوف بول فايرابند من مفهوم العقل وبموقف بعض الفيزيائيين المعاصرين من مفهوم الوعي . لقد حمل ابن سبعين على الفلاسفة لقولهم بعالم العقل وعالم النفس وعالم الطبيعة ولقولهم أيضا بالأول والعلة والواجب بذاته . فهذه التمييزات بالنسبة لها كلها أوهام . أما الفقهاء فلا مرتبة لهم بالنسبة لابن سبعين. وأما خصمه الألذ فهو ابن سينا . ويرى أن هذا الأخير " مموه ومسفسط ، كثير الطنطنة ، قليل الفائدة ، وما له من التأليف لا يصلح لشيء " . أما عن الغزالي فيقول ابن سبعين : " إنه لسان دون بيان ، وصوت دون كلام ، وتخليط بجميع الأضداد ، وحيرة تقطع الأكباد ، مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير . وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت " . ويواخد ابن سبعين على الفارابي كونه يتناقض ويضطرب . فهو يقول آراء مختلفة بحسب الكتب المختلفة . وينتقد أيضا ابن سبعين الفيلسوف ابن رشد لشدة تقليده لأرسطو إلى درجة أن ابن رشد لو سمع أرسطو يقول إن القائم قاعد في زمان واحد لقال هو أيضا بذلك واعتقده .لا يرغب ابن سبعين في اعتبار نفسه متأثرا بأي فيلسوف آخر مشرقيا أكان مغربيا . وهو فعلا شخصية غربية تستحق فلسفته كل العناية لما فيها من أصالة . يقول عنه بعض المستشرقين إنه قام بأول محاول لنقد، فساني لتاريخ الفلسفة الإسلامية .
هذه باختصار بعض مميزات المنطق في الفكر المغربي الوسيط ، نتمنى أن ينصفه مؤرخو الفكر العربي الإسلامي عامة و أن يعوا أن الفكر المغربي فكر قائم بذاته وليس مجرد امتداد للفكر المشرقي .

علاقة المنطق بالفكر الديني بالمغرب الوسيط

من المعروف أن مادة المنطق ، في شكلها الأرسطي على الأقل ، مادة دخيلة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي . أضف إلى ذلك أن المنطق ، باعتباره علما وضعيا ، يشوش على العقائد الإيمانية التي غالبا ما تتأسس على معطيات غير برهانية . جعل هذان العاملان الفقهاء وعامة الناس وبعض الفلاسفة ينفرون وينفرون من المنطق ويصدرون فيه فتاوي تصل أحيانا إلى حد تحريمه ، سواء بالمشرق أو بالمغرب . ففتاوي ابن الصلاح وابن تيمية ضد الاشتغال بالمنطق ومعروفة . ومعروفة كذلك بالغرب الإسلامي مواقف ابن جبير وابن قسوم المعادية للفلسفة والمنطق . وكم من مفكر لقي حتفه نظرا لتعاطيه للفلسفة وللمنطق : فلقد أعدم المكولي وحوكم ابن خمسين واضطر الآبلي إلى الفرار وحصلت نكبة ابن رشد لأسباب أهمها تعاطي هؤلاء المفكرين للفلسفة وترجيح المعقول على المنقول .
لقد كانت علاقة المنطق بالدين علاقة صعبة منذ ترجمة كتب أرسطو في القرن 9 م . في هذه الكتب عرض أرسطو المنطق كمقدمة للفلسفة . وبما أن الفلسفة شر حسب الرأي السلفي ، فإن المنطق أيضا لا يمكن أن يكون إلا شرار . وبهذه السذاجة تم إبعاد المنطق من حظيرة الفكر الإسلامي لمدة غير قليلة . لكن رغم كل ذلك ، استطاع المنطق أن يشق طريقه عبر كل العراقيل الفقهائية بفضل علماء أجلاء أدركوا كنه العلم واستغلوه بذكاء في بناء مناهجهم المعرفية . وبذلك عمموا معيارية المنطق لتشمل كل المعارف البشرية بما فيها المعارف الدينية . فلم يعد المنطق مقصورا على الفلسفة وحدها ، بل يمكن اعتباره مدخلا لكل العلوم البشرية . وهكذا نجد أبا علي الماجري ، وهو أول مغربي مسلم كتب في المنطق الصوري ، ويعتبر هذا الأخير هبة من الله . ونجد ابن حزم الأندلسي يشترط معرفة المنطق في كل من يرغب في ممارسة الاجتهاد . ونجد أيضا ابن طملوس يؤلف كتابا بكامله فيه يحث على تداول المنطق والاستعانة به لفهم النص الديني سواء من حيث كونه بناء لغويا أو فكريا . ويقول الشيخ السنوسي في شرحه لكتاب "مختصر في المنطق " : " من يحرم المنطق ر معرفة له بتحقيقه " .
وهكذا نخلص إلى القول بأن دور المغاربة في تطوير المنطق العربي الإسلامي دور حاسم سواء على مستوى المضمون أو على مستوى تداول العلم كتقنية . لقد ساهموا مساهمة لا يستهان بها في رد الاعتبار إلى علم المنطق وإلى كل العلوم العقلية الأخرى وذلك بإلحاحهم على إعمال العقل والاهتمام بعلومه واعتبار المنطق مادة مكملة لعلوم الدين وليست مادة معارضة لها . لهذا لابد من إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي الإسلامي والأخذ بعين الاعتبار ما دونه المغاربة في هذا العلم منذ القرن 14 م .

( 1 ) نيكولا ريشر ، تطزر المنطق العربي ، ترجمة محمد مهران ، دار المعارف ، 1985 ، صدر الأصل الإنجليزي سنة 1964 تحت عنوان : The Development of Arabic Logic , Univ . of Pittsburgh Press .
( 2 ) عادل فاخوري ، منطق العرب ( من وجهة نظر المنطق الحديث) ، بيروت، دار الطلية للطباعة والنشر، 1980.
( 3 ) نيكولا ريشر، المرجع السابق، ص.163.
( 4 ) محمد بن شريفة ، أول تأليف في المنطق، المناظرة ، عدد 2، 1989، ص.27-56.
( 5 ) تم تحقيق كتاب الماجري من طرف الأستاذ بن شريفة، أنظر الخامس ( 4 ) أعلاه.
( 6 ) أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي ، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، تحقيق فوقية حسين محمود، القاهرة، دار الأنصار، 1977. ننبه هنا إلى أن التحقيق الذي قامت به فوقية حسين سيء جدا.
( 7 ) أنظر : محمد بن شريفة، المرجع السابق، هامش ( 4 ) أعلاه.
( 8 ) أنظر : المختار السوسي ، سوس العالمة، مطبعة فضالة، المحمدية ، 1960.
( 9 ) عبد الله كنون ، النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثالثة، 1975.
( 10 ) أحمد بن عبد العزيز الهلالي، الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقيةلأ، طبع بالمطبعة الحجرية بفاس سنة 1313 هـ، في 272 صفحة.
( 11) نجده مثلا عند الخونجي في كتابه : الجمل في المنطق .
( 12 ) انظر تفاصيل هذه المسائل في كتاب : محمد مفتاح ، التلقي والتأويل ، مقارنة نسقية ، المركز الثقافي العربي الطبعة الألوى ، 1994


الدكتور عبد السلام بن ميس





الادب المغربي.jpg

 
أعلى