عبدالله إبراهيم - أدب مغربي.. أدب انسانيًٌ حي

يطلقون في الغرب عبارة البيتية الثقافية Domesticité intellectuelle على هذه النزعة التي ترمي لإرغام الفكر على أن يبرز كل ما في تراث أمة من الأمم أن يصوره كما لو كان هو الصورة الوحيدة الكاملة للتعبير بصفة نهائية عن عبقريتها، والدافع الداخلي لهذه النزعة قد يكون مظهرا لمركب النقص الذي تشعر به مدينة ما إزاء المدنيات الأخرى وقد يكون مجرد تملق لشعب يسوده الكسل العقلي ويشعر إفراده بالعجز فيفرون إلى التاريخ يلتمسون منه أن يبررهم وأن يزكيهم أمام حاضرهم التافه وقد يكون مجرد تملق للحاكمين أو هبوط في المعنوية.

والمثال الحي للبيتية الثقافية نجده عند هيكل Hegel فيلسوف ألمانيا الأعظم وذلك إذا أخذنا الجوانب التي يمكن أن نسميها عملية في نظامه الفلسفي العتيد فبعد أن وضع هيكل أعظم نظام تجريدي منسجم عرفه العقل الإنساني ختم الفلسفة وختم الدين وختم التاريخ كله في العصر الذي كان يعيش فيه، لقد اعتبر عصره زبدة العصور واعتبر المجتمع الألماني في عصره كالغاية التي قادت إليها جدلية التاريخ وصيرورة . ولم يبق "لمفكرة" إلا أن تلتئم مظاهرها وتنسجم في كائن واحد قدير بعد أن أصبحت على وشك أن تنتصر على الأضداد وبعد أن عرفت نفسها من خلال الصيرورة والحركة والتناقض المبدع.

و قذ يتلبس بهذه البيتية الثقافية كتاب تافهون فألمانيا النازية كانت تموج بكتاب العنصرية والتفوق الوطني وفي فرنسا طائقة من كتاب اليمين لا يساوي رعونتهم المنطقية إلا تفاهة إنتاجهم الإنساني والقراء المغاربة يعرفون جلهم.

أما في المغرب على قلة الإنتاج الثقافي فنزعة البيتية الثقافية تظهر ما بين الحين والحين وهي إما وليدة مركب النقص الناجم عن وضعية مدينتنا اليوم إزاء مدنية الغرب وأما نتيجة هبوط في المعنوية خلفته فينا الظروف الجهنمية التي نعيش فيها، والواقع أن السببين معا تضافرا في خلق هذه النزعة في جيلنا وبالأخص في الجيل الذي قبلنا وهي نزعة يعيشها بعض المغاربة أكثر مما يجرءون على كتابتها أو يطعمون في التدليل على صوابها.

ويجب التفريق أولا بين اللون المحلي في الأدب وفي جميع صور التجربة الإنسانية في الفكر والإحساس وبين التسخير الأعمى لتبرير واقع التاريخ فدوستويفسكي كان مصور روسيا الأعظم ولكن أبطال دوستويفسكي كانوا مواطنين عالميين يحس فيهم كل واحد منها عالمه الخاص، وأبو العلاء المعري يصور المأساة الإنسانية من جهته تصويرا يتجاوز الحقيقة المحلية والزمنية ويضع الإنسان أمام صورته بما فيها من جمال أو بشاعة ولكنه يبتدئ منذ الحقيقة الزمانية والمكانية التي يعيش فيها فالأديب الحق يعتبر اللون المحلي كما يعتبر الرسام الألوان والقماش بالنسبة للوحته الزيتية والويل لرسام يتلهي بألوانه وقماشه عوض أن يخضعهما إخضاعا لإبراز عالمه الغيبي الداخلي إلى الناس !

ماهو مظهر البيتية الثقافية عندنا اليوم؟ لها مظهران أساسيان، مظهر في الأدب، ومظهر في الثقافة.

أما المظهر الثقافي فيضيق المكان هنا عن خوض غماره. وأكتفي أن أسجل هنا أن الحقيقة هي تراثنا الأكبر، وأن الإسلام الصحيح المطهر من الأراجيف، هو قوة تحريرية للإنسان يتلقنها في دقيقتين أو ثلاث . وما سوى ذلك فالكلمة فيه للعقل. وقد ندد القرآن بأولئك الذين "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام "

وبذلك وضع الإسلام أساسا متينا للإخاء الإنساني، وللحوار بين الناس، ولم يفرض علينا أية صورة لثقافة معينة. فالتجربة العقلية هي قائدنا الأكبر في الحياة. والأسرار نفسها لا مكان لها في الإسلام. فالذين يفرضون اليوم علينا صور الحياة الخاصة التي عاشت عليهم الأجيال الإسلامية في الشرق والغرب، ويفرضون علينا نوع تفكيرهم كجزء من الإسلام نفسه إنما يتحكمون بدون حجة. ويريدون أن يجروا الدم من جديد في عروق مات أصحابها, ولو عاش رجل كابن عربي لأدهش المسلمين اليوم بحرية فكره وعمقه الإنساني.

أما مظهر البيتية عندنا في الأدب، فتظهر في هذا النزاع، بين دعاة الأدب العربي القديم ودعاة إنتاج أدب مغربي على الطراز الغربي والخلاف جوهري فهؤلاء وأولئك يرون فيما يبدو لي دراسة الأدبين معا ولكنهم يختلفون في أيهما يجب أن يتحدى هذا الأدب البسيط الضاحك المملوء بالألوان الذي يمثله شعر الحضارة الإسلامية أو هذا الأدب المعقد الذي يمثله شعر الغرب اليوم؟

لو طلب ناقد في فرنسا مثلا أن يرجع الأدباء اليوم إلى عصر ( الكلاسيك) وأن يحذو حذوهم لينتجوا أدبا فرنسيا صحيحا لضحك الناس لهذه الدعوة فالناس يقرءون كتابهم المدرسيين كما يقرءون تاريخ الأدب والبلاغة والصرف ثم ينتجون في إطارات لا علاقة لها بالعصر التقليدي لينتجوا قيما فكرية جديدة يستوحونها في عصرهم ويؤدونها في حرية تامة فمن التحكم أن نفرض على كاتب مغربي إلا يقول الشعر إلا في إطار سبعة عشر ميزانا وأن نلزمه بأسلوب البحتري أو علقمه أو النابغة الذبياني وأن تزن كلامه بذوق هذا العصر أو ذاك وأن نطلب منه السهولة فيما يريد أن يصوره لنا أو يبعث فينا فقط مجرد الإحساس به ببعث حركة تأثرية غامضة في نفوسنا عند قراءته.

إن الأهم في الأدب هو العمق لا الصورة وكلمة الأدب يختلف مدلولها عندنا عما هي عليه عند الغرب كما تختلف أيضا الغاية منه عندنا.

ولعل شيِئا من العمق وسعة النظر، يظهر أن الخلاف في نفسه عابث فلن ننتج أدبا مغربيا حيا؛ إلا إذا أنتجنا أدبا إنسانيا حيا، ولن ننتج هذا الأدب الإنساني الحي، إلا إذا تيقنا أن الحقيقة واحدة في الشرق والغرب وأن الإنسان هو الإنسان، وإلا إذا أعدنا النظر في هذه الحجب التي تشوش عقلنا وإحسانا، وتجعلنا لا نستطيع أن ننفذ في الصور المؤقتة إلا أن نصل إلى الحقيقة الكامنة وراءها. إن نفسنا قصير ينقطع دائما في الطريق؛ ولذلك فالإنتاج العربي اليوم، في ميدان الفكر والأدب؛ لم يستطيع أن يفتح له مجالا في الآداب العالمية، ذلك لأننا لم نعرف بعد، بصفة نظامية قوية، عصر الأنوار ( الآوفكليرونغ) الذي عرفته ألمانيا، ولا عصور الأحياء، لنستطيع بعد ذلك أن نفرض مدينتنا وجهة نظرنا على الناس بعد أن نخترق الحجب التي تشل حركة الفكر فينا، وتجعله سطحيا، لا قيمة له في الغالب إذا ترجم للغة الغير,

ولنأخذ مثلا من الشعر العربي نحلله، لنعرف إلى أي حد يمكن لإنتاج أدبي أن يكون محليا؛ من غير أن يكون سطحيا تافها. ولكن هذا المثال هو سينية البحتري في رثاء الفرس. فهذه القطعة ككل أثر فني يعبر عن حركة الروح، بأي شكل من أشكال التعبير، لها أربع وجودات:

أ‌) وجود مادي هو الكلمات المتركبة منها بما يتضمن ذلك من مقاييس نحوية وصرف وعروض، هذا الوجود هو ألصق الأشياء بعبقرية اللغة، وأصداِئها المحلية، ودراسة الأدب العربي ضرورية للشاعر، ولكن لا علاقة للغة بالأسلوب ولا بموسيقى الألفاظ فتلك من شخصية الشاعر.

ب‌) ب) ووجود حدثي Phénoménale وهو هذا الاتصال الذي يبعث في إحساسنا انفعالات خاصة، هو نقطة الالتقاء بين حساسيتنا وبين ما يقول الشاعر. فالبحتري يحدث شيئا في نشاطنا الحاسي Sensoriel كلما قرأناه وهذا الوجود الحدثي لسينيته يضمحل من القصيدة كلما كانت مطوية داخل كتاب وينبعث كتيار معين، فيصل بينها وبين حساسية القارئ كلما كان يقرأها. وقابلية الاستسلام عند القراء تختلف بحسب الميول والظروف المحيطة، والثقافة والتركيب الشخصي وهنا تلعب نسبية الأذواق دورا حاسما يجعل من المستحيل على ناقد محترم أن يجعلها مقياس نقده.

ج) وليس لسينية البحتري وجود مادي ووجود حداثي فقط بل هي تمثل عالما صغيرا خلقه الشاعر وأبدعه من فنه، وبذلك فلها وجود شيئوي chosale وهذا الوجود في السينية يتكون من أمة تسمى الفرس عاشت في مدينة زاهرة ثم أخنى عليها الدهر فتلاشت ثم لا يقدم لنا البحتري هذا العالم المرئي حرفا حرفا، بل هو يذكر لنا أشياء لا يمكن أن نتصورها بدون أشياء أخرى لم يذكرها، والفلسفة القديمة كانت تسمى عالم المقالة Univers du discours هذه الأشياء الكثيرة التي يستحضرها خيالنا كلما أردنا أن نفهم جملة بسيطة قيلت، فإذا قال لنا البحتري إن جماعة من الفرس كانوا يتناولون شرابهم في مدينة تصورنا دورا كثيرة وشوارع وتصورنا الآلاف من السكان، وتصورنا الزمان نهارا أو ليلا... إلى آخر ما توحيد في نفوسنا كلمة ( المدينة) وتظهر قوة أثر أدبي ما، في وجوده الشيِئوي وفي خصوبته التذكيرية، وانسجام عالمه وسموه، وليس للأديب المغربي ما يأخذه هنا لا عن القدماء ولا عن المحدثين، فهو موكول لقواه العقلية ولاندفاع إحساسه وكل نزعة هنا إلى البيِتية الأدبية تخنق الإنتاج وتجعله مزورا سطحيا تافها.

د) وفي عمق هذا الوجود الشئوي لسينية البحتري، نجد لها وجودا علويا Transcendantale وهو وجودها الرابع، الذي يبعث في نفوسنا إحساسا دينيا رقيقا ممزوجا بعاطفة الجمال، تخامره عاطفة الحيرة والتجاوز والإشعاع، والاندفاع أمام حقيقة ليست حاضرة في نفوسنا إلا بغيابها عن إحساسنا. فهذا العالم الذي صوره لنا البحتري مزدهرا بالحياة فياضا متحركا، ثم صوره لنا هالكا منعدما، كيف وجد إذن؟ ولماذا انعدم؟ وما البحتري نفسه؟ وما نحن قراء البحتري؟

هذه الوجودات الأربع يجدها الإنسان في قصيدة من الشعر، أو في لوحة زيتية، أو في سيمفونيا، فيعينه هذا التحليل على كشف قيمتها الفنية، وعلى مقدار عمقها الإنساني في نفسه. وكل نزعة بيتية مفروضة تقتل الإلهام الداخلي، ولا تساعد إلا على أدب لفظي مصطنع لا حياة فيه. حسبنا أن نعرف معنى الألفاظ وأن نحترم الإعراب والصرف، ثم أ
ن نكون صادقين في التعبير عن آرائنا وإحساسنا.
إن غاية الأدب بالإجمال هو التعبير عن عبقرية الجنس ولكل عصر أدبه الخاص، وقيمه المؤقته، وطوبى لأمة لا ترتدي فيها الأفكار بذلة الشرطي، ولا تتشكل فيها النزعات بشكل الجلاد.

* رسالة المغرب العدد 16، 6 يونيو 1949.


عبدالله ابراهيم
 
أعلى