دراسة المصطفى فرحات - ملامح من صورة السارد محمد فري من خلال المجموعة القصصية "ومضات"

عتبة:


ليس من المفروض دائما أن نصف الكتابات التي تقرأ كتابا ما بأنها قراءة نقدية، بحكم أن للنقد أدواته المنهجية، التي من شأنها أن تفكك وتحلل وتركب الإنتاج الإبداعي، وتقربنا من آليات اشتغاله، على مستوى الشكل والمضمون والرؤية..كما يقربنا من المبدع أيضا كاشفة عن خلفياته الثقافية ومرجعياته ومصادر إبداعه ومواقفه..وبحكم تعدد المناهج، تعددت القراءات. ولكن ـ عموما ـ يبقى هناك قاسم مشترك بين جميع القراءات، إنه مبدأ التأويل. قد ينجح الناقد في تأويل النصوص ـ مع العلم ـ أن للتأويل قواعده وضوابطه، فيمدها بطاقة جديدة للحياة، وقد يفشل في التأويل ويجني عليها، وهذا لا ينقص من قيمة النصوص في شيء لأن طاقتها وحيويتها تكمن فيها. بناء على هذا، فقد ارتأيت أن أرسم بعضا من ملامح الكاتب محمد فري كما كشفت عنها نصوص المجموعة القصصية: ومضات. أو على الأقل ما فهنته شخصيا منها.

1. الملمح الأول: صورة السارد الشاعر:


ما كان السار لينفلت من سحر الشاعر. هذا ما يفسر استهلال المجموعة القصصية بنص معنون ب "الشاعر". يبدو أن هناك منافسة قوية بين السارد والشاعر. قد يجدان طريقة للتفاهم والتواصل، فيتقاسمان حيز النص، وقد يهيمن أحدهما على الآخر، وقد ينسحب أحدهما. وخير نموذج على التجاور والتعايش بين السارد والشاعر النص المعنون ب "حروف". وهو نص مشحون بالنفس الشعري أكثر مما هو مشحون بالنفس السردي. يقول:
أغازل الكلمات
أراودها
أبحث عن حرف هنا
وحرف هناك
تستعصي علي متمنعة
أشيح بوجهي مطرقا
ألتفت على همسات سافرة
أحملق في الورق
أكتشف النص يتحداني..مكتوبا..
(ص. 08).

2. صورة الناقد المتوازن:


عندما يخوض السارد في مجال الإبداع، وهو مجال خبره مشاركة وممارسة فلا شك أن قراءته وشهاداته ستحظى بمشروعية ما. وهي في آخر الحكاية، رؤية الكاتب الخاصة. ففي قراءته للساحة الثقافية المغربية، وهو موضوعا يبدو أنه يشغل حيزا واسعا من اهتمامات السارد، ذلك ما لمسناه في مجموعته الأولى: "أرضة رقمية". فإذا كانت نصوص هذه المجموعة تنزع إلى النقد اللاذع، لواقع الثقافة والمثقفين، فإن نصوص المجموعة الثانية: "ومضات" يميل فيها النقد أن يكون متوازنا. فإلى جانب رصد الكاتب لما سلبي، فقد رصد أيضا ما هو إيجابي، إنه يدين من يستحق الإدانة، ويثمن من يستحق التثمين. فالمجال الثقافي لا يخلو من متطفلين الذين يسعون إلى فرض وجودهم رغم أنهم لا يتوفرون على أدنى الشروط التي تخول لهم الانتماء. فالادعاء، والزعيق لا يصنعان أديبا، ولا يبدعان أدبا. فالإبداع بلا موهبة، لا يعدو أن يكون طعاما بلا ملح. وفي هذا السياق نجد عناوين دالة مثل: "الشاعرة" فمن خلال ثنائية الشكل (شكل الشاعر الأنيق ومشيتها المتبخترة). وشكل القصيدة (الصخور التي تكاد تهدم البنيان). تبدو لنا المفارقة التي لا شك تثير الأسئلة، والحيرة. لقد تم عكس الآية. ففي الوقت الذي يفترض أن تتلون القصيدة بألوان الشاعرة، الرقة والنعومة..تنعكس الآية. إن السارد ها هنا لا يملك إلا أن يدين. وفي المقابل، يضعنا السارد أمام الشاعر الحقيقي الذي لا ينظر إلى العواصف والمياه الجارفة على أنها عناصر طبيعة تدمر وتخرب، بل يحول هذه العواصف إلى رقة ونعومة..إنه الشاعر الذي يستطيع أن يبني العالم من خلال إبداعه ليجعل العالم مكانا يستحق أن يعاش فيه.

3. صورة المبدع الرومانسي:


لا تخلو نصوص المجموعة من وقفات يتناول فيها السارد العلاقة بين الجنسين برؤية رومانسية، ويبدو أن نظرته إلى هذه العلاقة تمضي في خطوط متوازية ومتقاطعة، إنها تستشعر العلاقة الحقيقية القائمة على الحب الصرف، والعلاقة القائمة على الحب المزيف. فنص "خصام" يتنفس الحب الصادق الحب الذي يفعل فعله في قلوب المتحابين بصمت ولكنه حاضر بقوة، ويعبر عن نفسه في ساعة الأزمة. إنه يظهر ليعلن عن حضوره الأبدي والدائم. أما في نص "عينان" فالحب يبدو بلا وجه، إنه الحب المنافق والمخادع الذي يروم تلبية رغبة آنية. هذا ما تشي به عبن العاشق الذي يعبر عن حبه للحاضرة، ويتبع بعينه العابرة. أما نص "مقابلة" فهو يتناول ظاهرة التحرش الجنسي الناتج عن الكبت وغياب الإشباع المتولد على النقائص التي لا يستطيع البعض تجاوزها فيستغل منصبه وسلطته ليتحرش بضحاياه.

4. صورة الأديب الساخر:


السخرية نوعان: مجانية توظف للتسلية، وهادفة تسعى إلى إيقاظ ملكة النقد مخ خلال خلق المفارقة ومغايرة المألوف. كثيرة هي النصوص التي تثير فينا الابتسامة والضحك الذي يشبه البكاء. كما هو الشأن في نص "متاهة"، حين يصور السارد حقارة الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية عندما يوجه طالب وثيقة من مكتب إلى آخر لينتهي به المطاف إلى الشارع. ونص "برنامج" حيث نلتقي بحاملي الشهادات الجامعية الذين قضوا سنوات من اجل تحقيق أحلامهم، وكانوا دوما من المتفوقين، ويحصلون على هدايا وجوائز احتفاء بنجاحهم، ولكن عندما تخرجوا، وطالبوا بحقهم في العمل، حصلوا على جوائز من نوع آخر قدمها لهم المسؤولون لأنهم تجرؤوا على الاحتجاج ضد التهميش والإقصاء.

5. صورة المصلح الاجتماعي:


كل إبداع هو بمعنى ما محاولة لإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بين الذوات التي تشكل في علاقاتها المعقدة جوهر المجتمع. ولا يمكن إصلاح المجتمع إذا لم نتمكن من فهم طبيعة العلاقات القائمة بين مكوناته. بناء على هذا الفهم سنقرأ في العديد من النصوص قيما وسلوكات سواء الفردية منها والجماعية في بعدها السلبي. ومن بين الوقائع التي تناولها السارد قضية غلاء الأسعار، في نص "تسوق". وعادة التدخين، نص "المحاضرة". وغيرها من القضايا ذات الطابع الاجتماعي..

6. صورة المبدع الملتزم:


إضافة إلى المواضع ذات الطابع الاجتماعي والنفسي والعاطفي نالت المواضع ذات البعد السياسي جانبا من اهتمامات السارد. فقد تطرق في هذا الإطار إلى قضية المعطلين واحتجاجاتهم من أجل نيل الحق في العمل، والاحتفالات الباذخة التي تخلوا من أي معنى، وظاهرة الثوار الذي يحملون شعارات التغيير وقلب النظام والعدالة الاجتماعية في حين أن همهم الأول والأخير هو أن يحصلوا ويحصنوا مصالحهم الشخصية.

7. صورة المصلح الديني:


عندما يتعلق الأمر بموضوع ذو بعد ديني فالسارد لا يتناوله مباشرة، إنه يلامسه فحسب من خلال التركيز على صورة الشخصية التي يسمها دون أن يسمّيها، إنه ينتقد سلوكاتها الإدعائية، وهيئتها التي لا تخلو من أكسسوارات تصلح للعرض فقط. ففي نص "الجهبذ" نلتقي مع صاحب العمامة الذي يدعي العلم والمعرفة والتفقه، وعندما يتحدث، فلا يقول إلا هراء، كلاما تلتقطه الآذان، ولكن تمجه الأذهان. إنه كلام فارغ وبليد..

8. صورة المبدع المتأمل:


في النصوص التي أدرجنها كنماذج في محاولة للكشف عن بعض من ملامح السارد نلمس فيها وفي غيرها بعدا آخر لشخصته، إنه البعد التأملي. ففي نص " طموح" نجد تيمة الصراع بين الإرادة والعجز. فبين الإشرئباب إلى الأعالي، والارتباط بالأسفل تتحدد قيمة النص. وفي نص "اكتشاف" تحضر تيمة الصراع بين الذات والذات والتي تتحدد في مواجهة الإنسان لذاته، ليكتشف أنه ليس فعلا شخصا واحدا بل هو نموذج لأبناء جنسه. في نص "عينان" نلمس الصراع بين الرغبة والخوف: الخوف من الحاضر، والرغبة في العابر..
هذه الموضوعات تعكس لنا فعلا كم هو الإنسان غامض ومعقد ومتعدد في تكوينه النفسي والفكري والاجتماعي والعاطفي والوجودي..وهذا ما يحدد ويعين إنسانيته. واستطاع السارد في الكثير من النصوص أن يعبر عن هذا العمق الإنساني الحافل بالتناقضات.

خاتمة:


وتبقى هذه القراءة للمجموعة القصصية "ومضات" لمحمد فري مجرد محاولة لا تخلو من مزالق..
ابزو: فبراير 2014.
..........................................................................................................
* ورقة ألقيت بمعهد ميشال جوبير بمدينة مكناس 22/02/2014.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى