دراسة محمد شهبون ـ رواية "نوميديا" لطارق بكاري كثير من الجنس...قليل من الادب؟!

فرش البداية:

حينما انتهى إلى علمي بلوغُ رواية مغربية إلى اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بالبوكر، من بين لائحة كبيرة ( على الأقل في العرف القرائي العربي: 159 رواية )، أحسستُ بغبطة واعتزاز كبيرين، وعزمت أن أضعها في برنامج قراءتي المستعجل رغم كثرة الانشغالات وضيق الفسح الزمانية.
وتأكدت هذه الرغبة لما علمتُ أن هذه الرواية هي الإبداع البكر للأديب الشاب طارق بكاري - أستاذ اللغة العربية بالحوز- وارتفعت حرارة اللهفة لولوج عوالم هذا المتن الحكائي..فانتهزتُ فرصة زيارتي للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء(فبراير 2016) متنقلا بين الأروقة والرفوف باحثا عن طلعة الرواية المنشودة.
وجدتها في رواق المركز الثقافي العربي واقتنيتها على عجل- وبعد تخفيض كاذب - ب150 درهما.. لأجدها بعد خطوات معدودة في رواق دار الآداب ( الدار الناشرة).
وانسياقا وراء طبعي المغربي المفتون بمقارنة الأسعار تفاديا " للزركة" سألت عن ثمنها، فجاءني الجواب اللبناني الرقيق: 130 درهما..اهّــااااه!
هرَّبتُ وجهي من أمام البائعة اللبنانية مخفيا ملامحَ " مشموتٍ" ، أزدرد غصة " قالب" سيدفعني حتما إلى إعادة النظر في نحيب دور النشر والتوزيع وبكائياتها المألوفة على كساد سوق الكتاب، و تضحياتها "الجسام" في سبيل تشجيع الفعل القرائي..." بالقوالب"!
اصطنعت الاهتمام بعناوين أخرى..ووجدت شيئا من السلوى في تحسسي للرواية الساكنة بين يدي!
على متن قطار البيضاء / الرباط بدأتُ في فتل حبل الوصل مع صفحات هذا العمل الأدبي...ولست أدري كيف هاجمني طيفُ سهيل إدريس بحيه اللاتيني منذ الصفحات الاولى..

"لعنتُ الشيطان"، ومضيت أتنقل سريع الخطو بين شعاب الرواية...
فكان ما كان من خلاصات أعرضها - بغير تفصيل - كما عنت لي..على أن أفرد مساحة أكبر لموضوع هذه المقالة المصرح به في العنوان أعلاه:

"نوميديا": مياسم مميزة:


1- تشتغل آلة السرد أساسا في هذا المتن الحكائي باستنطاق"الذاكرة".: ذاكرة مراد ومسودات رواية جوليا ومذكرة خولة...

2- تسائل الرواية قضية الهوية لدى فئة من المثقفين الذين يعيشون تيه الانتماء وتشظي الذات.

3- اعتماد الكاتب على علم النفس في بناء الحكاية: آلية التطهير نموذجا.

4- للمكان المنسي والهامشي في الخرائط الرسمية حضور قوي واعتبار كبير في الرواية:( قرية اغرم)

5- للسرد في الرواية مستويات متنوعة وأصوات مختلفة وتقاطعات كثيرة.

6- تناقش الرواية تيمات: النضال اليساري في طبعتيه القديمة والجديدة، و الاستعمار الغربي بوجهيه العنيف والناعم، والتطرف الإرهابي بامتداده إلى القرى الوادعة أيضا...

7- تحتفي الرواية بالموروث الثقافي المغربي خاصة في غصنه الأمازيغي.

8- ينعش الكاتب اللغة الروائية في عمله بشاعرية ملحوظة..


إلى هذا الحد من الخلاصات ...نحن أمام صنعة روائية مميزة رغم حداثة عهد صاحبها بالفعل الحكائي وطراوة عوده..
لكن...
و لأني لا أزعم أني قرأت جميع الروايات المرشحة للبوكر في لائحتيها الطويلة والقصيرة منذ بدايتها سنة 2008 ، لم أُلق بالا لما كنتُ قرأته ذات يوم حول هيمنة توجه فكري معين على الجائزة، واختياراتها الداعمة أساسا لصنف محدد من الأعمال السردية التي تؤمن بوظيفة واحدة للأدب أساسُها التعري الكامل...وتأصيل هذه الوظيفة بضرورة التعبير عن الواقع وكشف زيفه المخاتل، والكفر بكل القيود التي يمكن أن تحد من حرية المبدع وكسر الطابوهات وووو..

لكني دفعتُ هذا الظن السيء حينما قرأتُ رائعة سعود السنعوسي "ساق البامبو" الفائزة بالبوكر عام 2013..حيث وجدتها تعالج قضية الهوية والانتماء في مجتمع خليجي يقدس الصفاء العرقي..ولم أجد فيها شيئا مما يُكال للجائزة.

وبقي في نفسي شيء عن دار الآداب الناشرة للرواية..لكن الزمن قد يصحح الظنون..


لنبتعد إذن عن السجال المحموم حول وظيفة الأدب وما ينبغي له وما لا ينبغي..ولنقترب من الرواية بتجرد وموضوعية بغير التفات الى الفحيح المخيف الذي يصدره بعضُ كهان الأدب ودهاقنته الذين يصادرون حق غيرهم في قراءة الأدب ويمارسون وصاية بشعة على الأذواق والأطباق!

الجنس: التيمة الكبرى لرواية نوميديا:


دونما تجنٍ، أو تهويلٍ، أو مسايرة لأحكام النقد الأخلاقي –رغم أهميتها- فإن قارئ "نوميديا" سيلاحظ أن الرهان الأكبر للرواية هوالاشتغال على تيمة الجنس..

ولكي لا يبقى هذا الحكم مجرد زعم مرسلٍ لا يقف على ساق من تحليل أو دليل...أبسُط الملاحظات الآتية:

1- بلغة الأرقام:

تكررت الألفاظ الآتية في الرواية:

·الجسد: تكرر هذا اللفظ 268 مرة...دون احتساب تكرار: الأفخاذ، والأرداف، والنهود، والحلمات، والصدور، والسيقان، والظهور...فغزارة حضورها أكثر من أن تحصى.

·الجنس: تكررت هذه الكلمة 74 مرة، ولم أحص شيئا مرادفاتها ومقارباتها كالشهوة واللذة والرعشة....

·العري: ورد هذا اللفظ بصيغ اشتقاقية مختلفة مجموع تكرارها: 67 مرة

·السرير: 62 مرة

لغة الإحصاء هذه لا تخطئ في الإنباء الرقمي عن السطوة الكبيرة التي تمارسها تيمة الجنس على المستوى المعجمي أولا.. وقد كان بالإمكان إضافة كلمات أخرى دالة على معجم هذه التيمة، لكن المُحصى المذكور أعلاه كاف للدلالة المقصودة..


2- البطولة الجنسية في رواية نوميديا:

جاءت "جوليا" الروائية الفرنسية إلى المغرب لتقف على حقيقة التمثلات الغربية عن الرجل الإفريقي...وهي تمثلات تشكلت منها صورة بشعة تتلون ملامحها بألوان الأكل والظلم والجنس(ص420) هذا هو الرجل الشرقي/الإفريقي في مخيال الغرب..ورغم أن الرواية تراهن على دفع هذا التمثل الاستعماري المزيف..فإن النتيجة الحقيقية التي آلت إليها ممارسات "مراد" بطل الرواية هي تكريس هذه الصورة في أقبح تجلياتها...بل إن البطولة الوحيدة التي أحرزها المثقف المغربي المتنور "مراد" هي البطولة الجنسية فقط: تقول له "جوليا"حينما شكا إليها مرضه:

- لا تزال شابا..وما مرضك سوى غيمة عابرة..ألا تنظر إلى نفسك في غمرة الجنس كيف تبدو شرسا ضاريا؟

- ....حينما تمارس الجنس تستحيل إلى قوة مزلزلة لذيذة، إلى طوفان جامح.(ص204)

وفي (ص210) تتوسل إليه "حياة" – امرأة تمارس الدعارة عرفها في صغره- أن يزورها مرارا:

- أرجوك ..زرني مرة أخرى، عد ولن تدفع فلسا،لست أدري لماذا انت دون غيرك.أحس أنني بحاجة إليك..

وفي (ص117) تستجديه "نضال"لحظات شهوة تسد رمقها الجنسي..

"مراد" المفكر الحداثي المتنور والمناضل اليساري السابق لا يملك في رواية "نوميديا" إلا فحولته الجنسية التي جعلته معشوق النساء إلى حد الإدمان (ص 167ص397)..

"مراد" - اسم مفعول يدل على كون حامله مرغوبا مطلوبا- يمارسُ غزواته الجنسية في صحوه ومنامه، في واقعه وخياله، في عافيته ومرضه...في بدايته ونهايته...فهو يعتبر الجنس "إرادة الحياة الفعلية...يمارسه في صمت وخشوع.."(ص264).." مراداستثناء جنسيبكل ما تحمله العبارة من معنى.." (ص265)

واستجابة لرغبات الجنس، يصير كل شيء مشروعا..(الدعارة ص 209- الخيانات الزوجية ص:265 - 268- ) إلى أن تتحول الممارسة الجنسية "المرادية" إلى:

- فعل قهري ضد المرأة:(ص 399)(ص187)(و غزو لجغرافيتها ص 229)(قصف لجدرانها ص 268)

- فعل انتقامي من القدر:(ص307)(ص302)(ص307)

- إدمان لا استفاقة منه: (ص251)

حتى الإلماعات القليلة التي يُظهر فيها مراد قدراته الأدبية تتماهى فيها التناصات المستدعاة مع التيمة المهيمنة:

فبيت مجنون ليلى:

تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا وَأَيّام لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا

يُحوره ليصيرَ:

تذكرت خولة والسنين الخواليا أيام لا نخشى عنالجنسناهيا (ص115)

أما أزمات العالم العربي بالنسبة لهذا المثقف المتنور فهي مختصرة أساسا في أزمة الجنس.. ولا مناص من مواجهتها بالعبث (ص117)(ص169) (ص333)

وإذا كانت الرواية تستدعي أحداث 16 ماي الإرهابية بشكل محتشم..فإن "مراد" المثقف الذي تُلقى على عاتقه مسؤوليات التنوير ونشر الوعي ومواجهة التطرف بالحجة والبيان يوجز رسالته نحو هذا التيار بقوله عنهم: "أسفه لحاهموأعريهمبقلمي" (ص199)..

ولا تتوانى الرواية في الإعلان الصريح عن الحبل السُري الذي يشد "مراد" إلى الحياة بأكملها..إنه حبل الجنس فقط (ص202)

تختصر رواية نوميديا الفعل الحداثي التنويري للمثقف المغربي في الفتوحات الجسدية والغزوات الجنسية (ص421)..بعيدا عن الفعل الفكري والسلوكي الذي ينهض بمجتمع التخلف والاحباط واليأس..بل تقدمه مبشرا بالعبث حلا لكل المشكلات..(ص333)

وفي كلمة "حياة" المرأة - التي خبرت الرجال- ل"مراد" حينما "زارها" صغيرا خلاصةٌ دالة للرسالة "التنويرية" التي سيتفرغ لها هذا المثقف:

- هذا أكثر شيء تتقنه، ستتذكر قولي طويلا. (ص33)

وقد صدقت فصول الرواية نبوءة هذه المرأة.


3- المرأة في نوميديا: جسد يطلب جنسا:

يُشرك الفعل السردي في الرواية مجموعة من الشخصيات النسائية ذات الانتماءات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والجغرافية المختلفة..لكن الجامع المشترك بينها هو عُـواء الجسد الساعي إلى إرضاء الغوايات الجنسية..


·"جوليا": الكاتبة الفرنسية القادمة من فرنسا للبحث عن متن روائي تكتبه..من بداية ظهورها على خشبة أحداث "نوميديا" يظهر الجنس مهيمنا في حياتها:

- فموضوع بحثها السوسيولوجي: هو عن الجنس في الشرق..(ص14)

- تنهزم أمام الاستثنائية الجنسية التي يملكهامراد(ص6)..ولا تجد حرجا في خيانة زوجها مع مراد مادام الدفع الجنسي أكبر وأمتع معه..ص265..وفي كل صيف –بعد رحيله- تستبد بها حالة العطش إلى جسد مراد (ص281)

· "خولة": الطالبة الجامعية التي أعماها حبها لأستاذهامراد..ركبت مراكب المغامرة والاستسلام التام لسطوته الجنسية..(ص122)..لينتهي بها الأمر منتحرة تودي بنفسها وبجنينها (ابن مراد)..مراداللقيط يعيد تكرار مأساته.

· "نضال": الرفيقة المناضلة الجامعية التي راكمت أحقادها ضد النظام..تحولت إلى ذئبة جائعة يُذلها نهمها الجنسي لتستجدي لحظات المتعة..(ص 117) ويدفعها إلى مغامرات السفر والخيانة الزوجية من أجل إسكات عواء الرغبة الجسدية مع مراد..وهي في سلوكها ذلك تحاول حشد المسوغات التي تستسيغ بها مرارة الخطيئة..فيتحول الزواج في تعريفها إلى اغتصاب تشرعه ورقة (ص166 ) ..وحميمية علاقتها بمراد ليس إلا خيانة مشروعة (ص268) تقابل الخيانة الحقيقية التي تراها مجسدة في علاقتها بزوجها العاجز (ص268)..وفي تقييمها لشخصية مراد تعتبره: "آخر الفحول" ص168، وهو يعتبرها "جسدا لاجئا.."172 يقبل الإهانة لتلبية الرغبة..(ص310)

· "نوميديا": الطيف الأمازيغي الجميل الذي يعيش بين منزلة الحضور والغياب.. وتتنازعه يد الحقيقة والخيال.. لا يُفلت من اللوثة الجنسية لمراد..(ص260 و 268 و 292)

· "ليلى": تلميذة الثانوية التي كان نضجها الجسدي مثار انجذاب مبكر لمراد (ص144)

· "حياة": بائعة الهوى المكلومة بأحزان الدهر..تتعلق بفحولةمرادوهو المراهق المبتدئ المتردد في الإقدام على المغامرة المبكرة وتستدرجه إلى مضمارها.. وتطلب عودته المجانية إلى أحضانها..(ص210)

· "بنت الحسين": الرجل الذي تبنى أوداد/مراد صغيرا في المدينة: البنت الوسطى للحسين تظهر أيضا بصورة المراودة لمراد الباحثة عن ري لظمإ جنسي مبكر رفقة مراهق موهوب. (ص143)

· "نساء القرية": المنسيات في "إغرم" يحضرن في ذاكرة مراد من خلال ثقب الرغبة الجنسية حين كان يتلذذ بمراقبته لهن طفلا متلصصا على أجسادهن خلال لحظات استحمامهن في "أغبالو نتامجا" (ص218)(ص292)

· "المرأة الحمقاء": يصفها مراد بالمنظار نفسه..(ص240)


هكذا تُختصر المرأة في "نوميديا" في جسد جائع نهم يطلب الجنس بلا توقف..ولا يرى في الرجل سوى قدرته على إسكات صراخ الشهوة المتوحش.


4- التأثيث الجنسي للرواية:



تبدو تيمة الجنس ملقية بظلالها الثقيلة على كل تفاصيل الرواية دونما استثناء:


- أحلام / كوابيس/ أمنيات جنسية:

حينما ييستدعي"مراد" بعض أحلامه أو كوابيسه في المتن السردي..فإن أهم ما تفيض به هو الجنس: (ص130)(ص190)(ص292) "ليتني أقتلك جنسا.."(213)

-المكان:

يصف مراد في حديثه عن الطفولة المعذبة المدينة التي عاش فيها بقوله: "في ليل المدينةالعاهرة.." (ص145)

و"اغرم" القرية السحرية الجميلة التي عاش فيها مراد طفلا وعاد اليه كهلا يراها هي الأخرى بمنظار لا يخلو من جنس:

"تستحيل القرية إلى ناهد عارية" (ص28)

"لكنها ذابلة عارية أمام المطر "(ص124)

" تبدو إغرم والعتمة تكسوها ككاسية عارية.."(ص146)

"إغرم متكبرة كإناث الوعول ...."(ص231)

"وإغرم كجوليا سادية في السر عاشقة في العلن.."(ص351)

"..كانت القرية متجردة تستسلم لسريرها الليلي الحالك.." (ص381)

وبالنظر إلى بقية الأثاث السردي يمكن تجمبع العناصر الآتية:

- آيت مرغاد في وصف أحوالهم لابد من استحضار المعطى الجنسي في حياتهم.(ص224)

- والجبل أشبه ما يكون بعروس..(ص411)

- شجرة صفصاف عالية تتعرى من اوراقها (ص406)

- الليل خارج الفندق شرس كشفاه ظمأى(ص 107)

- تتعرى الكلمات وتفر(ص 160)

- الفرح يعري الأحزان..(ص258)

- المذكرة تستلقي..(ص248 و293)

- الغرفة تغرق في عبق جنسي(ص 160)

- والحقيقة سلسلة صدف تتعرى الواحدة تلو الأخرى(ص 170)

- حل أزرار اللباس هو افتضاض(ص 212)

- ورجال التدخل السريع أبناء زنا..لقطاء (ص267)

- والماء هذا المجنون العاري وحد ثوبها الأبيض وجسدها..(ص276 )

- تؤسس لذاكرة جديدة وجنسية إلى أبعد الحدود(ص 302 )

- المفتاح والقفل: تجسد العلاقة بينهما فعلا جنسيا(ص 303)

- ثور القبيلة : فحل وحيد تستفيد القرية بأجمعها من خدماته(ص 321)


5- اللغة الجنسية:

حينما ينأى بنا السرد أحيانا قليلةعن حمأة الجنس..ويستبشر القارئ بانطلاقة جميلة سرعان ما تمارس هذه التيمة سطوتها على اللغة ذاتها..فلا يسلم الأداء اللغوي في المقاطع السردية الأخرى من توظيف لغة طافحة بالجنس مبنى ومعنى:

وهكذا تكرر ألفاظ من قبيل: افتض-افترع- تتناسل – يعري –يتحرش --- (ص14-75-344-354-35-71-80391-421-...)

وهي ألفاظ مستعملة في غير سياقاتها الجنسية المذكورة في هذا البحث..


6- التوظيف المجاني للمقاطع الجنسية (إسهال الجنس):

بقبول طبيعي أو على مضض جرت عادة القراء والنقاد على استساغة بعض المقاطع/المشاهد الجنسية التي تقتضيها الصنعة السردية و تفرضها حاجة السارد لتجلية موقف أوسلوك او للاقتراب من شخصية ما...فيكون هذا التوظيف – فنيا على الأقل – مبررا..

وقبل أن أحسم أمري في تدوين هذه الملاحظة، أغمضتُ عيني واطلقت العنان لذاكرتي أستعيد بعضا مما قرأته من أعمال كبار الروائيين العالميين...محاولا إيجاد ملامح من الشبه او التقارب بينها وبين "نوميديا" في توظيف المقطع الجنسي..لكني لم أجد..

تداعت إلى ذاكرتي اعمالٌ مختلفة للايطالي أمبرتو إيكو وللكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والبرازيلي باولو كويلوو للشيلية ايزابيل الليندي و للإنجليزييْن سومرست موم وجاين اوستن و للتركييْن اورهان باموق وعزيز نيسينوللروسييْن دوستويفسكي وتولستوي وللفرنسيين فيكتور هيجو وفولتير وفلوبيروغيوم ميسو و لليوناني نيكوس كازانتازاكيس...تذكرت أني في كل مرة استمتع بعطاءات هذه القامات الادبية السامقة.. لا أجد في كتاباتها مثل هذا التوظيف المجاني والإقحام البارد للمشاهد الجنسية كما هو حاصل في رواية "نوميديا" التي تجاوزت حدود الضرورة الفنية، وفاضت صفحاتها بطوفان المقاطع الجنسية البورنوغرافية المقحمة تعسفا..

هذا المعطى يتجلى عبر ملامح كثيرة أقتصر على اثنين منها:

-أولهما: كثرة المقاطع الجنسية حد الإسهال..وتكرارها بين الصفحات القليلة المتقاربة..بطريقة تشي بنوع من القصدية المتعمدة التي تحتفي بالجنس بصيغته المدنسة وتعتبره أقوى الإنجازات البشرية...

-ثانيهما: الاستغراق المبتذل في وصف العملية الجنسية وتفاصيلها الدقيقة..بما يجعلها غاية لذاتها لا تخدم اية غاية فنية واضحة..

ولن أحيل هنا إلى أي صفحة من صفحات الرواية..ففتُحها عشوائيا يفي بغرض الاستدلال على المقولتين السابقتين.

على سبيل الختم:

لقد أتاحت لنا هذه القراءة لرواية "نوميديا" الوقوف على رهانها الأكبر .. رهان الجنس.

ولئن كان من شيء أحمده لرواية طارق بكاري فهو تحطيمها لصورة فئة من المثقفين المتنورين الذين لا يملكون سوى "أقلامهم"، يصنعون بها أمجادا زائفة على خرائط اللذة الرخيصة، وينحتون بها لأنفسهم تماثيل من وهم مُخاتل ينصبونها على أجساد بريئة مخدوعة برنين الأسماء والألقاب.

وفي انتظار عمل ثان يعيد للمثقف دوره الحيوي في التفكير والتنوير، بعيدا عن غزوات الجنس، ودونكيشوتية العبث..أرجو التوفيق للكاتب الموهوب طارق بكاري.
 
أعلى