دراسة بهجة القراءة - محاضرة ألبرتو مانغويل في السعودية 2013

مانغويل.jpeg

حين ندعو القراءة بمجرد متعة فهو بلا شك وصف بخس في حقها، إذ أنها بالنسبة لي مصدر كل المُتَع، هي التي تُضفي اللون لكل التجارب، وتجعل الحياة تُطاق، وتمنح الأحداث القدرة على الاقناع.
في اللغة الإنجليزية، فأن كلمة يقرأ ” TO READ ” تشترك في ذات المعنى مع الفعل “يُبرر” “TO REASON” ، كما أنني حين يحدث شيء ما، فإن عقلي يعقد مقارنة مع شيء آخر سبق أن قرأته، ولا أزعم أن بإمكاني بعد هذه المقارنة البسيطة إيجاد مثال حقيقي فيما قرأته لكل حادث مرَّ بي، لكني أحمّل نفسي الخطأ على تقصيري في القراءة، أو أنني لربما قرأت ذلك ذات يوم ونسيته. ربما أن القارئ الحكيم يجد في كل صفحة من كل كتاب جواباً أو شرحاً لسؤال مّا، بالطبع ليس بالضرورة أن يعكس هذا السر شيئاً من أسرار الكون دوماً. أنا شخصياً، أقرأ في أشياء محدودة، وهي من نوعية الكتب التي تعطي تلميحات فقط مثل؛ أليس في بلاد العجائب، قصص بورخيس، رواية الدون كيشوت، وأشعار محمود درويش. لا أستطيع تخيل مشقة الحياة والعيش الهنئ من دون هذه الكتب.
لطالما وجدت هذه القائمة من القراءة مفيدة، لأنها تخبرنا من هم أصدقاؤنا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فأن القارئ الذي يعترف لي بأنه جنَّ حباً في “مونتين” سيكون صديقاً لي، وكذلك الذي لا يأخذ معه إلى صحراء نائية أو لفراش الموت سوى أدبيات “مونتين”، على النقيض من ذلك فإنني لن أذهب إلى المقهى بصحبة شخص يرى أن رواية ستيفنسن “د. جيكل والسيد هايد” مخيبة للآمال. بإمكاننا التعرف على شخص مّا بمجرد الاطلاع على قائمة كتَّابه ومفضلات كتبه فقط، وماذا يحب من مفضلات كتبه، إن كل مكتبة تمثل سيرة صاحبها الذاتية.
بالطبع، لا يمكن لأي شخص أن يقرأ كل شيء، حتى لو رغب في ذلك، على الرغم من أن الوقت متاح ومغرٍ بالمضي في قراءة كل شيء.. ولكن تظل الاختيارات الفردية لكل شخص تتميز بخصوصيتها وغرابتها. في المكتبة الكونية الكبرى، ثمة كتاب واحد على الأقل لكل شخص، لكن ليست كل الكتب صالحة للكل، أنا مثلاً أجد نفسي أفضل “فلوبير” على “ستاندال”، الأخوان جريم على أندرسن، وأفلاطون على أرسطو. في قرون مضت، كان بإمكان الباحث معرفة كل كتاب يصدر في يومه، ولكن الآن مثل هذه المعرفة هي خارج الحقيقة وخارج الزمن و خارج الواقع مع هذا الكم الهائل من الكتب المنشورة للاستهلاك. ثمة مكتبات على الأنترنت تقدم ملايين العناوين، وهناك المتاجر الكبرى التي تغطي مساحة مهولة من المجمع التجاري تعرض عناويناً لا تحصى من الكتب، وهي بلا شك مفيدة لقارئ واحد يبحث عن كتاب محدد سلفاً، ولكن القارئ الحر الذي يتمهل في طرح رأيه حول كتاب قبل وصوله للصفحة الأخيرة، هذه الأماكن لا تناسبه، فهي مجرد مخازن كبرى، لا تعبر عن روح القارئ المغامر في داخله. القراء الحقيقيون أقل طموحاً ممَّا يتاح، ويحتاجون مساحة أصغر للبحث عن الكلمات التي ستصنع الفارق في معرفتهم.
في منتصف الخمسينات، أصيب الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس بالعمى، إنتقل له المرض من والده، و عرضت عليه الحكومة الأرجنتينية بأن يكون الأمين العام للمكتبة الوطنية، حصل ذلك واقعاً و بمصادفة محضة لا نقبلها حتى من كاتب سرد ردئ أو حتى متوسط، لكنها حدثت و أصبح بورخيس ثالث أمين أعمى للمكتبة.. آنذاك، كتب بورخيس مرثية عظيمة لتأريخ المناسبة و أسماها؛ “قصيدة الهدايا”.. كان يطلب أن لا يعترض أحد على هذه الأعطية من الرب و الذي أعطاه في ذات اللحظة “الكتب و الظلام الأبدي”.. “تُعطى لي معاً”.. و هو الذي لطالما تخيل أن الجنة تحت ظلال المكتبة.
لو أن الجنة هي مكتبة، والذي يحدوني بصراحة أمل كبير في ذلك، فأنها ستكون لكل شخص حسب حماسته في القراءة. كل التفاصيل تهم في هذه المكتبة الكونية الكبرى، إنه دليل ملموس على كرم الرب، وكما قال بورخيس في وصف المكتبة، المكتبة هي الجنة الأبدية. وبما أنه لا يمكن لقارئين أن يقلبا صفحات نفس الكتب في لحظة واحدة في ذات المكتبة، فلا شك أن كل مكتبة تحمل في طياتها عدداً غير محدود من المكتبات، لتسمح لكل قارئ بحمل ما يناسبه من رفوفها، وترك ما لا يناسبه. يقول مارك توين، الخيار الجيد للبدء في مكتبة هو في وضع أعمال جين أوستن.
المكتبة، قبل أن يقرر القارئ في اختياراته، تشبه الحساء المصنوع من الذرة التي نحصدها من كل مزرعة على وجه الكرة الأرضية. كل شيء في هذه الحساء؛ كل فكرة، وكل إستعارة ومجاز، و كل قصة.. و حتى هوية القارئ. الخيارات التي أتركها في مكتبتي، والكتب التي أنتقيها لها لا تشكل فقط رؤيتي للجنة كما يقول بورخيس بل وحتى هويتي الشخصية. بإختصار و بكل صراحة، لطالما شعرت أن تجاربي اليومية، و كذلك فهمي لهذه التجارب هي حصيلة قراءاتي.
حين كنت طفلاً، تعلمت الحب من خلال قرائتي لكتب “ألف ليلة وليلة”، و تعرفت على الموت من خلال الكتب البوليسية و كذلك عرفت من ستيفنسن، وأسرار الغابة من كيبلنغ، وشعف المغامرات الإستثنائية من جول فيرن. التجارب الحقيقية والملوسة أتت في مراحل لاحقة من حياتي، بيد أنها حين جائت، كان لدي كلماتٍ غير محدودة لوصفها، لطالما بدت القراءة مثل رسم الخرائط العلمية.
لدي ثقة مطلقة في قدرة القراءة على رسم خريطة عالمي الخاص، و أنا أعلم كذلك أنه في إحدى الصفحات في رف ما يحدق فيَّ تساؤل؛ “أنت تكافح منذ زمن لوضع الكلمات لشخص آخر لا يعرف كيفية وجودك”.. أنه القارئ الآخر. العلاقة بين القارئ والكتاب من شأنها أن تزيل حواجز المكان والزمان والسماح لفرانشيسكو دي كيفيدو الذي كتب في القرن السادس عشر “المحادثات مع الموتى”.. هذه المحادثات علمتني وأعادت تشكيل ذهني وتفكيري الخاص.
منذ أكثر من نصف قرن، وفي واحدة من العديد من مكتبات الكتب المستعملة في جادة دي لا فرونتيرا كالي في بوينس آيرس، حصلت على الترجمة الإسبانية من هذه الكلاسيكية الصوفية؛ “كتاب الطيور”. كنت تقريباً بعد ظهر كل يوم من خروجي من المدرسة أتوقف عن أحد هذه المكتبات، أفتش في الرفوف المتربة والمليئة بالغبار، ولحسن الحظ، كنت أجد كنزاً في كل مرة. في ذلك اليوم، كنت محظوظاً بشكل خاص واستثنائي، لأنني وجدت قصائد الفارسي الصوفي فريد الدين مسعود العطار، والتي بقيت معي طيلة حياتي. لا نعرف شيئاً تقريباً عن المؤلف سوى هذه التحفة، وأنه كان عطاراً، وسافر للعديد من الأماكن، وتوفي في 1230 م بعدما تجاوز التسعين عاماً من عمره.
أما كتاب الطيور، فهو يحكي قصة رحلة خيالية، إذ تعبت الطيور من الفوضى حولها وانطلقت سوياً في سرب بهيج للبحث عن الملك القوي الأسطوري سميرغ، هذا الملك الذي امتلك خصائص سحرية عن ريش الطيور و أن مكانه يوجد في وسط الإمبراطورية الصينية. من أجل الوصول إلى جبل سميرغ، عبرت الطيور سبعة أودية سحيقة، وكانت العديد منها تحمل أسماء مروعة ومخيفة ورهيبة في ذات الوقت، أسماء مثل الأرتباك، والتقهقر، والهاوية، والإرهاق، كانت كل أنواع العقبات تكمن في طريقهم، ومن يتخلى عن السعي في هذا الطريق فقد يهلك، و في النهاية استطاع ثلاثون طيراً فقط من ذلك السرب الكبير من الوصول إلى جبل سميرغ، و حين وصلوا للقمة حيث يعيش هذا الملك “سميرغ”، أكتشف الطيور أنه لا وجود لما يسمى بـ “سميرغ”، أو بالأحرى، كانوا هم سميرغ الذي عبر كل هذه المخاطر ليصل إلى هدفه. أحد الغايات من قراءة قصيدة العطار هي في أن كل شيء يهم ما دام أنه في سبيل تحقيق مسعانا، وأن هذا الكون المتعدد الثقافات هو الدافع الأكبر للأنسان لتحقيق هدف أعلى من الذين سبقوه، وكذا نحن جميعاً في مسعانا الدؤوب و اليومي لتحقيق الأهداف، وهكذا القارئ أيضاً حين ينافس ذاته في نهم القراءة.
كقارئ، فقد صنعت القراءة من ألبرتو مانغويل أكثر من مجرد رجل واحد، أنها الكتب التي قرأتها و أحببتها و أضافت لتجاربي.. أنها الأحرف الكامنة خلف أسماء مختلفة من الإصدارات التي لا نهاية لها مع نفسي. أنا بينوكيو، الرجل الجبان من مواجهة الجنح والمكائد لكنه شجاع بما يكفي لمحاولة إنقاذ المحاصرين داخل الحوت. أنا السندباد الذي يرى العالم وراء الأفق، ويجد أن الحياة لابد أن تكون مليئة بالمخاطر الهائلة والأثارة، لكنه في النهاية يريد جمهوراً وقراء ليخبرهم عن مغامراته. أنا لير الذي يعتقد أنه يستحق ليعتني بهم، وغونيرل الذي يدرك أن مائة من المشاغبين السكارى هي أكثر مما يحتمل أي منزل في واحد، وكذلك أنا كورديليا الذي يؤمن خطأ أن الأنسان يكفي أن يحب ويكون صامتاً، أنا الوظيفة التي لا تحتمل تجاهل السلطة وترغب في مسائلتها لأنها لا تملك صبر أيوب كما يقول المثل، أنا شهرزاد التي تعرف أن بإمكان القصص إنقاذ حياتك، وأنا سميرغ الذي هو كل الطيور التي صارت بعد هذا الجهد، سميرغ.
أحد ألمع الشخصيات التي تمثلني في حياتي هي شخصية؛ أليس.. لدي في المنزل بضعة رفوف في مكتبتي عن أليس وحول شخصيتها، ثمة إصدارات مختلفة وعبر لغات مختلفة، مقالات وقراءات من كل نوع، وكذلك العديد من السير الذاتية للويس كارول، وكذلك نسختي المفضلة من مارتن جاردنر وشروحاته التي يوجه القارئ فيها نحو شخصية أليس، عبر مجازه واستعاراته، والأحجيات التي يقدمها، وتأملاته الفلسفية العميقة، والطُرَف المضحكة.. لقد عاشت معي أليس طيلة حياتي ومن خلالها شاهدت العديد من البشر في بلاد العجائب مراراً وتكراراً.
كانت المرة الأولى التي قرأت فيها عن أليس في فترة مراهقتي، وأدركت حالاً أن لدي روح تشبه روح أليس. خسرت بالطبع عالم البالغين الذين يعيشون بجنون مع قوانينهم التي تكسر كل قانون، ورغباتهم الغير مقبولة بأن يطلبون من أليس؛ “إنحني بينما تفكرين في ماذا ستقولين، الانحناء شي يوفر الوقت”.. بيد أني كنت أطرح الأسئلة، مثل ما هو المرادف الفرنسي لكلمة “ماذا”؟. أما في بدايات العشرين، فتعرفت على أليس أخرى، أليس الفيلسوفة صاحبة الذهن المتقد للإبداع، العقل الذي تجرد من القيود والضعف في اللغة، بحيث بدأت في الكتابة. تعرفون بالطبع ذلك القول المأثور عن الكتابة؛ “تعرف على نقاط قوتك، هذا كل شيء”، وصرت أردد ذلك بصوت عالٍ ومغرور في داخلي. في وقت لاحق، أدركت أن قصة أليس تشرح بدقة عصرنا الحاضر وهو أن الرأسماليين والممولين مسئولين عن الأزمة الاقتصادية اليوم، وهاهم يكررون بشراهة صرخة حترل الجنونية؛”لا مكان يسمح”، دعوني أشبه الأمر مثلما تكون جالساً لاحتساء الشاي، ويكون لديك متسع فوق طاولة الشاي، ومع ذلك تقول ثمة مكان لتقديم مربى الفراولة بالأمس وغدا، أما اليوم فلا مكان فوق الطاولة، لا مكان يسمح”. السياسيون في كل مكان يرددون مقولة للدوك حين يقول؛ “لدينا الكثير من الحق في التفكير، بالطبع مثلما لدى الخنازير من حق للطيران”.. تخيلوا معي أن كريستين لاغارد رئيس صندوق النقد الدولي قال للفرنسيين في خضم أزمة البطالة؛ “إلى العمل أكثر والتفكير أقل”.. ياله من تفكير أبوي أحمق، أنه يود خلق المزيد من المستهلكين الحمقى، ويطلب من السلاحف أن تنضم إلى حلبة الرقص التي يرقص فيها الجميع كما يرى هو!!…
أخيراً، ولأننا في كثير من الأحيان كسولين حتى لمجرد التفكير، فإننا نوافق ما تقوله الملكة ونمضي في حكمنا بعد ذلك مع جملتها الأولى. لا شك أن شخصيات أليس هم مخلوقات من حلمها، لكنهم يشعرون مثلنا، وقريبين منا لدرجة أننا نقطن ذات المكان حين يتعلق الأمر بالكسل.
يقال إن حكماء الفراعنة ورجال الدين كانوا من أوائل باعة الكتب في العالم، إذ كانت الكتب تقدم في نسخ المعابد من كتاب المتوفى لأسرته، والتي كانت توضع مع الجسم في القبر لتوجيه الروح من خلال مملكة الظلام. إن هذه الوظيفة المقدسة من الوفاء لا تزال حتى هذا اليوم من قبل أي قارئ يرغب في أن يشارك كتبه مع الآخرين، أنه يشارك الناس بكتبٍ تدل على روحه عبر أزمان الحياة، ويوصي الأصدقاء بالكتب.. بالكتب نتقاسم حلو الحياة وبهجتها، ومن ثم تصبح لأولئك الذين يحسنون معرفة استخدامها بمثابة الوصفة السحرية لمباهج الحياة، تكون هذه الكتب دليلاً نفهم فيه هذه الرحلة الدنيوية، وإن رغبنا، ستكون دليلاً لرحلتنا القادمة بعد هذه الحياة. القارئ يعرف أن الكتاب الصحيح في اليد الصحيحة يعمل مثل الوصفة السحرية التي تساعدنا على تجاوز كل الصعاب.
يقال أحيانا أن الكائن القارئ مخلوق بدأ في الانقراض، وأنا لا أصدق ذلك، أنني مقتنع تماماً بأن البشر يمكن تعريفها بأنها كائنات تقرأ فقط.. وطالما نحن قادرون على العيش في هذه الحياة وهذا الكوكب، فنحن سوف نقرأ، ونكتب لنقرأ. نحن نولد ومعنا دافع لفك ألغاز هذا العالم، ننظر لكل شيء حولنا كما لو كانت قصة نحن من نخط مكوناتها، من مثل هذا الدافع تنبع الاستعارة القديمة في أن العالم مثل الكتاب، كتاب نقرأه وهو الكتاب الذي تخطه أيدينا. من هذه الاستعارة المجازية يأتي معنى أن القراءة فعل سحري، يسمح لنا بالتغلب على الحواجز، نشاط غير قابل للكسر على مر الزمان والمكان. منذ ما يقارب الأربعة آلاف سنة، في جبال زاغروس من بلاد ما بين النهرين، كتب قارئ لصديقه الذي أرسل له رسالة من بعيد قائلاً؛ “لقد جلب لي بلاتال رسالتك وفيها أخبارك الخاصة، وكم أسعدني ذلك، لقد شعرت بأننا كنا قد ألتقينا مع الرسالة، وتبادلنا الأحضان بعد قراءة الرسالة”.. رسائل، قصائد، قصص تتحدث لنا عن شخصيات سحرية وأماكن لم نراها، تخرجها من الظل إلى مخيلتنا كي نراها، من خلال قانون إعجازي، ألا وهو القراءة.

إن عادة القراءة، أن تحمل كتاباً بين يديك حين تكون مسترخياً فوق كرسي في منزلك، أو أن تكون راكباً حافلة أو طائرة أو قطار، في الحمام، أو مستلقياً على بطنك فوق العشب في حديقة، أو ربما مستلقياً على ظهرك في سريرك الخاص، تقلب الصفحات للوراء أو الأمام، تبحث في الكتاب عن جملة مفضلة، أو وصف لشيء ما، بشكل سريع أو بطئ كما تراه مناسباً.. إن هذا الشئ يسمح للآخرين بالعيش في قراءتنا، ويسمح لنا بالعيش في حديث الآخرين.. هذا الخلود والبهجة لا تتحقق سوى بفعل واحد وهو القراءة، كما هو الحال مع أي شيء آخر على هذه الأرض، لا يتحقق سوى بفعل.
لكن هذا النعيم لا يتحقق سوى بتحقيق بعض الشروط البسيطة، والمهام الأساسية لكل قارئ، وأظن أني أستطيع سرد ستة شروط منها كالتالي؛
1- لطالما وجدت تاريخ الآداب عبر الإنسانية في قمة الروعة، أنه يؤرخ زمن التطور وزمن الانحطاط، اختلاف المدارس الأدبية ونمو شكل ما وانقراض آخر، الاتجاهات الجديدة، والحركات الناشئة، أنه بلا شك تعبير أبدي عن حركة هذا الوجود ونموه. وعبر هذه الرحلة، سيظل القارئ هو من يحدد أي الكتب ستعيش وأيها سوف ينسى، ما الكتاب الذي نقرأه للمتعة وما الكتب التي نطَّلع عليها من أجل المعرفة والتعليم، القرَّاء هم من يضعون التسمية التي تخصهم بالكتب حسب ميولهم وأهوائهم، القارئ هو المنقذ الوحيد للكتاب واختيار مساره الخاص، لا أحد بخلاف القارئ يمكنه تقرير مصير الكتاب. القارئ هو من يحدد هذه المكتبة الكونية للكتب وليس الكاتب، القارئ هو الحكم من هذه الناحية بخلاف رغبة الكتاب. ربما تعرفون كتاب “رحلات جاليفر” وأنه كتاب للأطفال، وليس هجاء للسياسة الشرسة كما كان المؤلف يرغب في ذلك. القراء هم من جعلوا شكسبير يتحول من خشبة المسرح إلى صفحات الكتب، على الرغم من أنه لم يكن يعتقد بفائدة طباعة هاملت أو ماكبث. كما أن القراء هم من قرروا بلا رحمة أن ينسوا آلاف الكلاسيكيات التي نصبت نفسها بنفسها كأمهات الكتب وحولوها إلى قتال العث في المخازن، يجب أن نعلم وندرك أن الأدب صامت بلا قرَّاء.
نُشر كاتب الخيال العلمي الفذ راي برادبري رواية “فهرنهايت 451” للمرة الأولى في عام 1954. آنذاك، كانت وظيفة رجل الإطفاء ليست في إخماد النار، بل في إشعال النار في الكتب حتى تحترق. بيد أن بعض الناس وهم عدد قليل بالمناسبة، كانوا يعتقدون أن الكتب ضرورية، وأن مهمة إنقاذ الكتب وحفظها على قدر عالٍ من الأهمية. ظهر مونتاج وهو أحد الأبطال الذي كان لهم هذا الإيمان وانضم إلى بقية الكتب في الخفاء، وحفظها.. قيل له؛ “هل ترغب في يوم من الأيام أن تقرأ جمهورية أفلاطون؟”.. وأجاب؛ “بالطبع”.. هل ترغب في قراءة ماركوس أوريليوس، بالطبع.. وهكذا تجمع مونتاج، وداروين وشوبنهاور و كونفوشيوس، و المهاتما غاندي.. ذلك أنه في يوم من الأيام، يمكن كتابة الكتب مرة أخرى، و سوف يستدعي الناس الأسماء واحداً تلو الآخر، ليقرأ ما يعرفونه، ويعيدون بعث هذه الكتب التي حفظوها.. هذا ما فعله مونتاج، فعل على قدر عال من الأهمية، لم يشعر بالتثبيط أو الاشمئزاز، لأنه يعلم أهمية هذا العمل الذي يستحق به بالفعل.
إذن المهمة الأولى للقارئ هي إنقاذ ذاكرة الأدب من الإنقراض.
2- أما المهمة الثانية فهي الشعور الحقيقي بهذه الذاكرة.
الكتَّاب الذين تحملهم رفوف مكتباتنا وبما خطوه من كتب وأدبيات يبدون للوهلة الأولى تشكيلة متنوعة وغريبة، أنهم يجلبون لنا الغريب من الذكريات، ويضفون عليها الألوان، بالطبع هم يقولونه بأساليبهم الخاصة وطرقهم وخيالاتهم المختلفة، لكن اللغة التي يقولون بها أدبياتهم تؤثر بالطبع من قارئ لآخر، فما يتم تصويره في لغة يختلف عمَّا يتم في لغة أخرى.
في واقع الحال أن اللغة الواحدة ليست متعادلة أيضاً، إذ أن التقاليد السياسية وحسابات القوة والضعف لها يد في بناء النصوص، أنها تمثل أهمية كبرى بقدر الموسيقى الشاعرية والمنطق في القصَّ. بالتالي، لا أجد جدوى من محاولة الحد من الخيال، أو منع الكاتب من استكشاف مناطق جديدة، لأنه لا شيء في العالم ينتمي لشخص واحد أو مجموعة واحدة. الحقيقة في النص تكمن في قراءة النص، ولا تكمن أو تختبئ خلف نوايا الكاتب، إذ لا يمكن أن نصف أشعار “بابلو نيرودا” أنها ضد الإنسانية، بل أن ما كتبه كان في صف الإنسانية حين حارب الديكتاتورية، كذلك روايات المبدعة لويس فرديناند سيلين، لا يمكن أن نصف رواياتها بأنها فاشية، بل هي ضد الفاشية قلباً وقالباً.
في عام 1960، كتب يوجين يونيسكو مسرحية حاول أن يستكشف (وفقاً لتعليقه) تجربته مع النازية وأسمها؛ وحيد القرن. حيث وصف مجتمع يتحول ببطء إلى حيوان وحيد القرن. ظل رجل واحد فقط في المسرحية وهو بيرينجر يرفض التغيير، وانطلقت كلماته الأخيرة في المسرحية حين صاح في جحافل البشر الذي يتحولون إلى وحيد القرن قائلاً؛ “أنا لن أستسلم”. في عام 1962 وقبل قليل من استقلال الجزائر، وفي خضم حرب الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، أقيمت مسرحية “وحيد القرن” في الجزائر، وحين وصلت النهاية وانطلقت كلمات بيرينجر بوضوح في المسرح قائلاً؛ “أنا لن أستسلم”.. انطلقت الهتافات من كلا الجانبين بعلو صاخب، إذ أن الجزائريين وجدوا في كلمات بيرينجر تحثهم للحفاظ على القتال، والفرنسيين تحثهم على عدم الاستسلام. كلا الجانبين هتفا لهذه المقولة، أنه الشعور بالذاكرة من أدبيات يونيسكو، كل جانب قرأ هذه القطعة الأدبية حسب مشاعره، وأنا أعتقد أن كل قراءة كانت مشروعة.
3- من الممكن بطبيعة الحال أن يمضي هذا الأدب بكل نصوصه نحو العبثية، ومهمة القارئ الثالثة هي في عدم السماح لذلك بأن يحدث.
كل الكتَّاب بلا استثناء لديهم ميزة واحدة يشتركون فيها؛ القدرة على خلق صورً بصرية من المناظر الطبيعية والتي على القارئ أن يميزها ويتعرف عليها، وهذه القدرة بالكلمات فقط. هذه المناظر تختلف من كاتب لآخر، إذ أنها كما قلت مسبقاً صيغت بواسطة أشكال ولغات مختلفة وأنماط تفكير مغايرة، لكنها كلها مناظر طبيعية وعلى القرَّاء تخيلها وإعادة اختراعها واستكشافها من جديد على مسؤوليتهم الخاصة. إعادة الاختراع والاستكشاف هي مهمة القارئ الثالثة.
لقرون مضت وما زالت، فقد قرَّر القارئ الذي يتموضع في السلطة الرقابية للكتب، أن بعض النصوص فقط هي من يجوز قراءتها واستكشافها، وأنها من تستحق المطالعة والاستكشاف والتدبر. هذا القارئ الرقابي قام بوضع كلاسيكيات ودستور لما يجوز وما لا يجوز مطالعته بالطبع من أجل أهداف محددة، تخيلوا أن القليل من القراء يفرضون ما يجب وما لا يجب، ولكن القراء الآخرين والأكثرية ما زال لهم قوائمهم الخاصة لحسن الحظ والتي تنبع أيضاً مغايرة لأهداف قارئ السلطة. كل هذا لا يفيد في رأيي الشخصي لمتعة القراءة. تشينوا أتشيبي صنف مع جوزيف كونراد كخصوم عبر رواية قلب الظلام، بوصف النص يدعو للعنصرية، وثمة من يقول عن رواية أتشيبي أنها لا تفسح الباب للغرباء من خارج القارة الأفريقية لقرائتها، والحقيقة أن القراءة أوسع من كل ذلك، بل أن البعض قال أن هؤلاء هم مصدر الرعب كما يرى كورتز؛ “وصف للهمجية” (وهذا في واقع الحال وصف الامبريالية الاوربية)، لكن الرعب والخوف هو من العالم كله وليس من أفريقيا، البشرية وضعت أوربا وأفريقيا على حد سواء. من هذا المنطلق، تبدو لي –كقارئ- رواية قلب الظلام كنص مضاد للعنصرية وأنه الرمق الأخير لها، ولا يوجد أمل في أي نظام سياسي لإعادة بعثها، أنها نهاية العنصرية، وسواء آمن الروائي كونراد بذلك أو لا، فهذا لا يهم، هذه قراءتي الخاصة كقارئ، أنه عمل فني عظيم، والفن العظيم يتفوق على مبدعه الذي خطَّه. “هناك أمل، ولكن ليس بالنسبة لنا” هذا الاقتباس لفرانز كافكا، وهو يمثل بإختصار قراءة رائعة قلب الظلام، ومن هنا، يجب على القارئ دوماً أن يكتشف النصوص ليخرج بقراءة مبهرة، النصوص تتفوق على مبدعيها كثيراً، هكذا هي النصوص العظيمة، وعلى القارئ ألا يتخلى عن حريته في استكشاف النصوص، وإعادة قرائتها وتخيلها وبعثها من جديد بروح جديدة، بل على القارئ أن يطالب بالمزيد من حرية الاستكشاف والقراءة والاطلاع على النصوص. حين يكون لدينا كل الخيارات من القراءة والاطلاع، حينئذ فقط لن يكون بإمكاننا المطالبة بالمزيد.
4- المهمة الرابعة للقارئ تعتمد على مدى رغبته في أضفاء قيمة على النص.
لربما نجد بعض القرَّاء منسجمين مع المناظر المدهشة والخصبة عند غابرييل غارسيا ماركيز أو لدى مارغريت يروسنار، والبعض الآخر لربما يشعرون بالألفة مع مطبخ أو غرف النوم والجلوس عند أليس مونرو أو نجيب محفوظ، ثمة آخرين يلائمهم عالم الحيوان كما في روديارد كيبلنغ أو حكايات إيسوب، وهناك من ينجرف مع الأدب الكلاسيكي المحافظ لدى صادق هدايت أو تشارلز ديكنز، أما القراء المحظوظين فهم من يستوطنون كل هذه العوالم، ويتآلفون معها، ويرون أن كل هؤلاء الكتاب العظماء بحد أكبر أو أقل، يسحرون الألباب.
هناك قصة جميلة للكاتب العظيم خورخي لويس بورخيس عنوانها؛ “وردة باراسيلوس”. باراسيلوس هذا كان أحد معلمي ومشعوذي القرن السادس عشر، دعى الله أن يرسل له تلميذاً، وجاء التلميذ وكان حريصاً على التعلم من أستاذه الذي لا يشق له غبار، كان على استعداد لدفع كل ما يلزم من العملات الذهبية. كان أشد ما يود التلميذ معرفته من أستاذه هو أن يتعلم خدعة باراسيلوس في كيف يتلف ويعيد أحياء وردة؟.. أعترض باراسيلوس، وقال للتلميذ أن لا شيء يمكن أن يتلف في الحقيقة، فقط مظهر الشئ هو ما يتغير، وأن كلمة واحدة فقط هي ما تعيد الشئ لمظهره وحياته، كما نبَّهَ باراسيلوس تلميذه أن بعض المعلمين الآخرين كانوا يكذبون ذلك، “لكن التلميذ كان حريصاً على المعرفة، ولهذا أخذ وردة ورماها في النار، وتحولت الوردة إلى رماد. شعر التلميذ بالخجل، لكن المعلم قبض على العملات الذهبية، لو تركها فإنه بمثابة من يترك ماله في الطريق”.. لننظر معاً كيف أنهى بورخيس قصته؛
“صعد باراسيلوس إلى سفح الدرج برفقة التلميذ، وأخبره أنه سيعلمه على الرحب والسعة كيف يعيد الحياة للوردة، كانوا يدركون أنه بعد هذه الخطوة لربما لن يروا بعضهم مرة أخرى، نفخ باراسيلوس ليطفأ المصباح ويجلس على كرسي مهترئ، قال له أنه جمع في كف يده حفنة صغيرة من الرماد، وبصوت منخفض قال كلمة واحدة، وظهرت الوردة”.
المهمة الرابعة للقارئ هو أن يكون هو الجمهور لهذا الساحر.
5- المهمة الخامسة للقارئ هي الفهم، أن تأخذ النص لأعلى مستوى فهم لتجربتك الشخصية، ومحاولة رفع النص لمستوى مهاراتك العامة في الحياة. هذه الكلمات التي أبدعها الكتّاب ليرقصوا أمام أعيننا ولتتمايل في صفحات الكتب تخلق عند القارئ أصواتاً تستيقظ في ظلمة العقل، هذه الكلمات في جوهرها سحر للعقل. من هذا الفراغ الذي وضع فيه الكاتب حروفه وخلاصة عقله، يمنح القارئ الرغبة بالاكتشاف، والاستكشاف، والتحليل، والاستنتاج، والفهم والاستدلال، والحل والعقد، وتقريباً ملء الفراغ، كل ما يشاهده من فرغ، وربما الوصول لفهم هذا العالم.
كتب الشاعر الأمريكي ريتشارد ويلبر قصيدة عن شعراء الأترورية. اللغة الأترورية كما يعلم البعض هي لغة لم يتم فك شفرتها تماماً حتى الآن. لذلك، في حوزتنا دوماً أمثلة عن الأدب والنصوص التي لم نستطع قرائتها وفهمها تماماً كما ينبغي. هذا هو ما يحصل للأدب حين نعجز عن فهمه وفك شفراته؛
“إلى شعراء الأترورية
أحلموا بوضوح، إذ ما يزال أخوتكم يتقاتلون على الحليب
الذي شربوه من صدور أمهاتكم
في تلك المتراجحة النقية، ينضم العالم للعقل
ينضم ولا يترك أثراً بعد ذلك
مثل مسار جديد عبر حقل الثلج
لم يحسب حساب أن الثلوج قد تذوب وتمضي”
أنه الفهم أيها القارئ..
6- مهمة إضافية أيها القارئ، آخر مهمة أتحدث عنها وهي الأهم، أنها المتعة.
اللذة، النعيم الذي نجده حين ننسى أنفسنا في وسط صفحة، ونواصل القراءة بلا أحساس بالوقت. القراءة شأنها شأن أي شيء آخر، ما لم نجد فيه بهجة، فأنه جهد لا يستحق التعب. من هنا تكمن مهمة القارئ، بأن يثق في كتابه حين يجد المتعة، وليمضي معها حيث تكون، المتعة واللذة في القراءة أمر غامض، لربما تبدأ من نقطة ونجد أنفسنا فجأة في مسار مختلف آخر تماماً. الكثير يكتب سيراً ذاتية ومجيدة وعظيمة، لكن ليس كلها بالضرورة تخلق متعة للقارئ الجيد.
من الصعب بل ويستحيل أن أشرح لكم كيف أن كتاباً معيناً يمنحنا المتعة، بقدر ما هو صعب أن يشرح أحدكم لماذا يحب شخصاً ما؟.. بإمكانكم الخروج بجملة أسباب، وكذلك العديد من الأمثلة، لكن شيئاً واحداً هو ما يهم حقاً، أن متعة كل كتاب فريدة من نوعها مثل الأحجار المنحوتة التي نراها، كل حجر فريد من نوعه.
قال ميشيل دي مونتين والذي تحدثت عنه في بداية هذه الكلمة، كان قد كتب عن صداقته الوثيقة مع صديقه إيتيان دي لابوتي؛ “حين يسألوني لِمَ أحب هذا الرجل، فأنني لا أجد كلمات مناسبة سوى أن أقول لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا”. ربما أن هذه الأسباب كافية، إن مكتبتي تمنحني المتعة، لأنها مكتبتي ولأنني أنا.. رغم أنها ليست كبيرة كما يتخيل البعض، لكنها قطعة من القلب، وأعتقد أن من بينها ربما ثلاثين، أو لنقل خمسين كتاباً أشعر من دونها بأنني خاوٍ جسدياً و روحياً. هناك دوماً بعض الروائح وبعض الأصوات، وبعض المناظر الطبيعية والأشكال والوجوه التي تحددنا وتعيد تشكيلنا وتوائم نفسياتنا، أنها أشياء ترتفع عن كل ما سواها في ذاكرتنا، شبحية المعالم ولكن من المستحيل تجاهلها، أنها الأشياء الحميمية والتي من دونها لربما نتلاشى للعدم. سوف تستمر الكتب التي أحببتها دوماً ولربما تكون على رف قارئ آخر، بل قرَّاء آخرين، أنا متأكد من ذلك. لكنها لن تكون ذات الكتب التي قرأتها يوماً بعد ظهر صيف قائض وفي غرفة بعيدة وفي ظل ظروف دعتني لتذكر صفحة معينة تجلب كل الذكريات معها، لكل قارئ قرائته الخاصة به.
أنه لمن العجب أن أجد أن هذه الكتب المبهجة والتي شكلت مغايرتي للآخرين جالبة للطمأنينة مثل مخلوقات مؤمنة، أجدها في أوقات الاضطراب واليأس والمعاناة الجسدية والذهنية و عدم الاستقرار النفسي، وهؤلاء الجشعين الذين يطاردون الخلق، والحمقى المزعجين حول العالم، والبيروقراطيين والرقباء وكل الحمقى، لطالما وجدت هذه الكتب تقف في جانبي تحت سماء كئيبة ثقيلة، وأظن أن كل شخص على هذه الأرض من حقه الحصول على صحبة تحمل عنه بعض ارزاء الوقت وتعينه على الحياة. هذه الكلمات هي معجزة، إذ أن هذه الصحبة المصنوعة من الكلمات قادرة على توجيهنا وتقوية عقلنا وذهننا وابداننا، وتعزيتنا من الكلمات ما يذهب الحزن. البعض يعتقد أن ثمة أشياء مفيدة أكثر من القراءة مثل العمل على تحسين الاقتصاد، وكسب الحروب، واكتشاف كواكب جديدة، واستغلال موارد الأرض الطبيعية حتى الموت، واستدامة السلطات والممالك السياسية .. لكن كل هذه الحجج دامغة، ربما تقنعنا للحظات، ولكن على المدى الطويل وفي نهاية المطاف، في أعماقنا سنفهم أن القراءة شيء آخر ومختلف عن كل ما سواها.
قبل الختام، لعل من قرأ يعرف أن دانتي حين مشى طريقه الطويل والشاق ومر خلال حفرة من الجحيم التي تظهر فظائع العقاب الإلهي، وبعد أن تحدث مع أرواح تتعذب للأبد، يخرج دانتي، بواسطة المرشد فيرجيل، من المكان الرهيب الذي حوصر فيه لوسيفر للأبد، ليرى ضوء الفجر على الشاطئ حول جبل العذاب. ثمة سفينة يقودها ملاك مليئة بالأرواح التي ترغب التطهر من خطاياها على طول الأفق المؤلم، حيث تصل بعد ذلك للذروة، عند جنة عدن. هناك وعد الخلاص، حيث يجب على النفوس القيام بواجباتها وتسلق الجبل لهذا الخلاص.
كان دانتي يشاهد السفينة تفرغ حمولتها من التائبين، الراغبين في التخلص من الخطايا والأدران، كان يعرف بين القادمين الجدد صديق قديم، أنه الموسيقي كاسيلا، والذي كان ذات يوم قد كتب له العديد من الأغاني، حاول دانتي أن يحتضن صديقه كاسيلا ثلاث مرات، وفي كل مرة كان يفشل، يحاول معانقته وتبادل السلام ويفشل، ثلاث مرات من الفشل لأن كاسيلا كان مجرد انعكاس وظل ولهذا لم تستطع يدا دانتي من التشبث بهذا الظل، ومن أجل ذكرى أيامهم الحلوة وذكرياتهم العبقة في فلورنسا البعيدة الماضية، سأل دانتي رفيقه كاسيلا أن يغني له، و وافق كاسيلا، و رفع صوته باللحن الجميل مغنياً أنشودة دانتي التي كتبها ذات يوم ملئ بالشباب و الحياة و الجمال. كان غناء كاسيلا من القوة والروعة والجمال بحيث أن تلك الأرواح التي كانت تصعد الجبل توقفت عن سعيها في الصعود لأعلى الجبل، توقفت للاستماع للأغنية، حتى فيرجل ذاته وقف مع الجموع التي تستمع للأغنية، صار جزءا من الجمهور الواقف إعجاباً. في وسط تلك الأغنية، غضب كاتو الوصي على العذاب، تقدم للأمام و سأل الجميع بغضب واضح؛ ماذا تظنون أنكم تفعلون؟.. ها هم، أنهم جميعاً هنا، يقفون في أهم لحظة في حياة المسيحي، لحظة الخلاص الأبدي، وبدلاً من أن يسرعون خطاهم نحو قمة الجبل بورتاغوريال، يقفون في وسط طريق الخلاص ويستمعون لأغنية من صنيع البشر. أنتقد كاتو التجمع وشرع يفرق الجموع، يخيفهم ويتفرقون مثل سرب خائف من الطيور، وأنتبه فيرجيل أن المنظر عار، لربما أنه أهمل واجباته كدليل لهذه الارواح الراغبة في الخلاص الأبدي.
ما الذي حدث آنذاك؟.. لا شيء سوى انقطاع قصير، مثل تلك الانحرافات الدنيوية، أنه الاعتداء على الروح حتى في المرحلة الأخيرة من رحلتها الأبدية، انحرافات يجب أن تتوقف، ويجب الحذر منها إذا ما أرادت الارواح الوصول للقمة المرجوة، بيد أن هذه الوصلة الغنائية القصيرة والتي لفتت انتباه الجميع هي دليل على قوة تأثير الفن على الانسان، لابد أن المرء لا يستطيع مقاومة الموسيقى والشعر. وفقاً للعقيدة الكاثوليكية الصارمة و التي تحدث عنها دانتي في كتابه الخالد، العقيدة تقول يجب علينا أن نتوقف عن هذه الاغراءات و المضي في طريقنا للخلاص، لكن دانتي له رأي آخر، دانتي الأنسان، دانتي الذي خط أدباً عظيماً، إذ يقول أنه حتى في أكثر لحظاتنا الرهيبة من الحياة، حتى حين نجابه اللحظة الحاسمة من حياتنا، حتى حين ينتظرنا الخلاص الأبدي من خطايانا و نمضي نحو الخلود، حتى ذلك الحين، الفن أكثر أهمية، فيه يكمن الشفاء و الفداء و الخير الأسمى و المحبة الأعظم، أنه النعيم الدائم، الفن والأدب، وعد للجميع بمستقبل أسمى و أوقات أكثر خضرة.
الآن هنا، وقرب الشاطئ الرملي، ثمة قصائد تُغنى ويجب أن تغنى، قصائد مثل القصائد التي عرفناها وقرأناها منذ زمن بعيد، لربما في طفولتنا أو في مراهقتنا، أو فيما بعد ذلك في وقت لا حق حيث أضحت الحياة تدريجياً أكثر مكراً، والحزن صار من الصعب احتماله، وفيما نحن نتذكر البهجة التي جائت بها الكلمات، والراحة التي غشتنا معها، و الفهم والوعي الذي منحتنا إياه.
لنقف وقفة واحدة ونرهف السمع لصوتنا الداخلي، لأن هذه الأشياء تعني الكثير ….







ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهجة القراءة: محاضرة للكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل في السعودية 2013
د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

محاضرة (غير منشورة) ألقاها الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل

ألبرتو مانغويل – لمن لا يعرفه – هو كاتبٌ ذائع الصيت، و هو واضع الثلاثية الشهيرة “تاريخ القراءة”، “يوميات القراءة”، “و المكتبة في الليل” (يقال أنه كان واحداً من كانوا يقرأون للكاتب الأرجنتيني الشهير بورخيس عندما فقد هذا الأخير بصره و احتاج الى من يقرأ له بصوتٍ عال).
 
أعلى