تهاني فجر ـ شاعرات مُذكَّرات

كنتُ صغيرةً حين أملتْ علينا معلّمة التربية الإسلامية قصّة مريم والمسيح، سألتها: "لم يجعل الله العذراء رسولة"؟ نهرتني ووبّختني بقسوة لم أنسَها حتى اللحظة. كبرت وكبر سؤالي معي وتشعّب من: لماذا لا تكون؟ إلى: لماذا لا يوجد في تاريخ النبوّة رسولة واحدة؟ ولماذا لا نستطيع اعتبار المجدلية نبيّةً طالما أنها عانت المشقّة نفسها التي عانى منها الرسل كلٌّ من أبناء قومه؟ ثم إذا كانت هي حقاً بمنزلة الرسل فلمَ لمْ يرها الرسول العربي في معراجه إلى السموات ورؤيته الأنبياء جميعاً؟
هذه الذكورية المعمّمة في الدين سنواجهها في كل شيء، وسنجدها في التأريخ خصوصاً، لا بل وفي تأريخ الشعر أيضاً، ولنا في ما قام به ابن عبد ربّه الأندلسي في "العقد الفريد" مثال ساطع، حيث ذكر فيه أسماء اثنتين وثلاثين شاعرة، من بينهن عائشة القرطبية والجارية العجفاء وحسّانة اليتمية وغيرهن ممن برزن على حد قوله في عصره، متعمِّداً عدم ذكر بيت شعري واحد لأي منهن!
«يا حبيبي
اقفزْ إلى سريري
ولا تخشَ شيئاً
وإذا انكسر
فإن "البشع الصغير"
هنا لإصلاحه"
(شاعرة أفغانية مُغفلة الاسم).
لم يكتفِ الشعراء بإقصاء صوت المرأة عبر تغييبها، بل تقمّصوا دورها أيضاً في قصائدهم الإيروتيكية، وعبّر البعض عن حاجاتها الجسدية بشكل فجّ جعلها خاضعة دائماً لآليات الرغبة، عبر استنطاق جسدها ورصده في أدق تفاصيله الحسّية، الأمر الذي جعل البعض يخترع أنثى من خياله ويُطلقها في عالم الشعر على أنها شاعرة إيروتيكية كما فعل الشاعر الفرنسي بيار لويس حين اخترع شخصية الشاعرة اليونانية بيليتتيس، وكما فعل الشاعر الفرنسي سيلفان كورتو حين اخترع شخصية الشاعرة الإنكليزية كلارا إليوت... إلخ.
المخزون الإيروتيكي الذي أسّسه الشعراء العرب بدءاً بامرئ القيس والنابغة الذبياني وأبي نؤاس وطرفة بن العبد وأوس بن حجر وإلياس أبو شبكة والسيّاب والبياتي والحيدري ونزار قبّاني وأنسي الحاج وشاكر لعيبي وحتى محمود درويش في بعض نصوصه خاصة في مجموعته "سرير الغريبة" وقاسم حدّاد في مجموعة "أخبار مجنون ليلى" وأمجد ناصر وكل شعراء اليوم، أقول هذا المخزون هو إنتاج تراكم الأساطير والموروثات التي تناولت الجسد الأنثوي عبر جغرافية محض جنسية، وإن جاءت تلك الكتابات بلسان أنثى، لكنّها تظلّ كتابات ذكورية توحي بفطرة الرجل الغريزية، وتمثّل رؤيته الخاصّة للمرأة وما يرغب في أن تكون عليه شخصية الأنثى التي يفضّل، إضافة إلى أنها مصوغة بجرأة رجولية بورنوغرافية واضحة عن أكثر لحظات المرأة إيروسية وخصوصية، فلم تعبّر تلك الكتابات على كثرتها عن المرأة بالقدر الذي عبّرت فيه عن أحوال الرجل بالدرجة الأولى، فإذا ما استندنا إلى فكرة أنّ الجسد يلعب من وراء الذات كما أوضح المفكّر علي حرب في كتابه «الحب والفناء» فإن كل الكتابات الذكورية التي استُنطِق فيها الجسد الأنثوي باطلة ولا يجب الاستناد إليها نظراً للدّال الذي يلعب من وراء المعنى والمدلول، وبما أنّ هناك علاقة ما بين لعبة الجسد ولعبة الدال والمدلول فإنّ الجسد يُعرب عن نفسه بواسطة الدال ذاته، ولذا فإن الشعراء الذين استنطقوا جسد المرأة إنّما عبّروا عن أجسادهم ولذّاتهم وشهواتهم هم، لغياب الأعضاء الأنثوية عن واقع الجسد الذكوري المستقيم بخشونته.
وربّما أحد أهم الأسباب التي جعلت الشعراء يقدمون على ذلك صورة المرأة النمطية في العصور القديمة والتي يجب أن تكون ضمن الأطر التي يحدّدها الدين، وتحدّدها العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وربّما لسدّ الفراغ الذي تركته المرأة الشاعرة في أكثر مواضيعها حساسية والتصاقاً بجسدها، خصوصاً أن تداول قصيدة إيروتيكية في ذلك الوقت كان بمثابة خرق لكل ما هو أخلاقي، وإن تمّت تلك التداولات فإنها تتمّ بطريقة سريّة وكأنها تلصص من ثقب باب موصد، فكيف بكتابتها.لذلك لجأت الشاعرات قديماً إلى الهيولي الوجودي الأوسع، ووجدن في الحب المطلق المُعطى والتعويضَ الأنسب للتعبير عن إيروتيكيتهن، ولعل الشعر والكتابات الصوفية تبيّن ذلك بمقاربة خلاّقة بين الإيروسية والصوفية التي وضّحتها شاعرة التصوّف الأشهر رابعة العدوية في وصف حبّها لله وللوجود:
"أحبّك حبَّين: حبَّ الهوى
وحبّاً لأنك أهل لذاكا
فأمّا الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمّن سواكا
وأمّا الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا».
وقولها أيضاً:

«وليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحّ منك الود فالكل هيّن
وكل الذي فوق التراب ترابُ».
وأيضاً:

«كأسي وخمري والنديم ثلاثة
وأنا المشوقة في المحبّة رابعة».
هنا تحديداً يتجلّى ما أوضحه نيتشه من عداوة للحياة الإيروسية عبر التلذّذ إمّا بالذات ولها أو بالذات الإلهية أو بالوجود، فغياب الشهوة الجسدية الأنثوية عن الكتابات الصوفية تظهر بشكل آخر أكثر عمقاً.

هذا المنحى الذي اتّخذته الشاعرات العربيات قديماً هو نتيجة طبيعية لقمع الشهوة الأنثوية على مرّ العصور، خاصة وأن البحث في موضوع الجنس يعتبر من المحرّمات الأساسية التي تربّى عليها الوعي الإنساني، فكان هذا الاتجاه "الأسلم" للشاعرات كي لا يواجهن قوانين المجتمع الصارمة التي تمارس أبشع وأقسى أنواع الإرهاب الأخلاقي ضدّ أي أنثى تعبّر بشكل صريح ومباشر عن عالمها الحسّي.
وحقيقةً إن هذه الثقافة الذكورية السلطوية، وهذا التعاطي المادي مع جسد المرأة، واستعارة رغبتها الجنسية في ظل العزلة الأنثوية (الشبقية) التي فرضتها المجتمعات وإقصاء الجسد الأنثوي وشهواته من دائرة الكينونة الأنثوية، أنتجت شاعرات عبّرن عن هذا الجانب الحسّي من خلال نصوص تحمل مدلولات حسيّة وإسهاب إيروتيكي، لكن بشحنات بورنوغرافية رجولية حملت التشبيهات الذكورية ذاتها، فأصبحت تلك النصوص صدى آخر لصوت الرجل لا المرأة. فحتى بعد هذا الانفتاح والتطوّر المخيف لم تفرّق الشاعرة بين الابتذال الذي أسّسته الكثير من الكتابات، خاصّة الكتابات الحديثة، وبين الإيروتيكية بأبعادها الفلسفية والثقافية التي تستخدم الجسد وسيلة للقبض على كينونة الوجود خصوصاً عندما يكون في وضعية الاتحاد الشبقي.
ثمّة بون شاسع بين ما يُطرح اليوم تحت مسمّى الإيروسية وبين الكتابات الإيروسية القديمة التي حملت خطابات ووعياً ناضجاً نظراً لاحتوائها على دلالات تنويرية وتجليّات روحية لها ما لها من أبعاد فكرية وفلسفية.
 
أعلى