رشاد أبوشاور - الصفع وما فيه من الفوائد والنفع!

أعود بين فترة وأخري إلي واحد من كتب أسلافنا، لأستمتع بلغته، وبلاغته، وطرافته،ففي كثير من تلك الكتب ما يدهش، ويبهر، ويكشف عن جوانب من حياة، وتفكير أولئك الأسلاف.

من الكتب التي استوقفتني، وفتنتني، كتاب (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب) لشهاب الدين أحمد التيفاشي، وهو من تحقيق الأستاذ جمال جمعة.

هل حقّا أن ما جاء في كتاب التيفاشي، لا يوجد مثله في كتاب؟!
يبدو لي أن الأمر كذلك، والرجل واثق من نفسه، وصنيعه، فهو لم يسبق للخوض في المواضيع التي توقّف عندها، ودرسها علميّا، لا ادعّاء، ولا إثارةًً.

فمثلاً الفصل الأوّل في الكتاب، المعنون بـ: في الصفع وما فيه من الفوائد والنفع، لم أقرأ، أو أسمع، عن كتاب تعرّض له، ولا أدري إن كان وجد مثيل له في كتب اطّلع عليها آخرون.
الكتاب يحوي فصولاً جريئةً، يتجنبها أكثر الكتّاب ميلاً للإثارة، والفضح، وكشف الغطاء عمّا لا يباح به.

مثلاً، ثمّة فصل بعنوان: في أصناف القوادين، والقوّادات، وما جاء فيهم من نوادر وأشعار.
وهذا الفصل طويل، فيه استشهادات، ومعلومات غزيرة، وأعاجيب في التصنيف، والتحليل، والإخبار.

وفي الكتاب فصل عن الزناة، وعلامات القحاب. وجدّنا التيفاشي، وهو الرجل الوقور المتديّن، الصالح، يدرس مواضيعه بأناة، دون حرج، أو لّف ودوران، فهذه العلل الاجتماعيّة، يفترض أن توضع تحت العين الفاحصة، وتتابع في أصولها، وأسبابها، وأعراضها، بل وتقترح لها العلاجات الشافيّة، كونها من العلل، ومعالجتها تكون بكشفها، وفضح أساليب مروّجيها، ومروّجاتها، وتتبّع تفشيها، ليتقّي شرّها، وليحذر منها!

يصنّف التيفاشي أنواع القحبات المبتذلات، ونوادر أخبارهن، وملح أشعارهن، وهنّ عند هذا الجّد الجّاد الوقور الطريف سبعة أنواع: الغيرانة، السكرانة، الحيرانة، الشاطرة، المسافرة، المغنيّة، المظلومة.

من أقوال الأصمعي ـ وهذا ورد في الكتاب ـ أنه سأل إحداهن: هل في يدك عمل؟ فأجابته بما يتناسب ومهنتها: لا، ولكن في رجلي...

هنا أتوقّف، فلا جرأة عندي علي المواصلة، فجدّنا كان أجرأ في زمنه منّي في مطلع القرن الحادي والعشرين، وأنصح من يرغب في الاستمتاع، والضحك، والظفر بمعلومات لم يسبق أن سمع بها، بقراءة الكتاب، وأراهن أنه سيقرأه ويستعيده مرارا، لا ككتاب (بورنو) لا سمح الله، ولكن كدراسة رصينة لأمراض اجتماعيّة، ما زالت مستشريّة في زمننا، في زمن العولمة، وازدهار تكنولوجيا المعلومات، في زمن الكمبيوتر والإنترنت!

أعود إلي الصفع وما فيه من الفوائد والنفع، فجدّنا التيفاشي لم يكن ساديّا يتلذذ بتعذيب الآخرين، ولا هو داعية عنف، أو عدوانيّا يتلذذ بتفريغ عقده علي رقاب وصفحات وجوه العباد.
التيفاشي يقترح الصفع كعلاج، وهو يتابع أنواع وصنوف الصفع، إلي أن يصل إلي نفعه للإنسان بدنيّا ونفسيّا.

هو كمعالج، يكتب مادحا الصفع: وسأصف ما اجتمعت فيه من الخصال المحمودة، وانتفت عنه الخصال المذمومة،.. ألا إن الصفع ينقسم قسمين، أحدهما: صفع الطرب، والآخر صفع الأدب، ولكّل واحد منها خوّاص، ومعان محكمة.

وصفع الطرب كما يصفه التيفاشي ليس غريبا عنّا في هذا الزمن، رغم أفول زمن الطرب، وهيمنة زمن الهزّ، خصورا، ومؤخرات.. وفي السياسة هزّ ذيل!

أياّم ( أم كلثوم) كان الباشوات يقذفون بطرابيشهم طربا وانتشاءً، فإن لم يكن علي رأس واحدهم طربوش، فإنه يشلف الطربوش عن رأس جاره ويرميه في الهواء، ودائما كان هناك من يجمع الطرابيش، ثمّ في نهاية الحفل يبحث كل صاحب طربوش عن طربوشه.. (حتي الطرابيش يطالب بها أصحابها!)

ياما رأينا أشخاصا يستخفهم الطرب لنادرة، أو طرفة، فيصفق واحدهم كفّا بكف، أو يخز جنب صاحبه بإصبعه، أو قد يهوي بصفعة رفيقة علي رقبة زميله.

والمداعبة بين الأصحاب تبيح أن يهوي واحدهم بصفعة علي قفا صاحبه، وهذه تحدث في مجالس الطرب، وبين الندماء، لا في مجالس الجدّ والوقار.

مزايا صفع الطرب عند التيفاشي: فمداعبة الأخوان، وملاعبة الندمان، وممازحة القيان ـ الجواري المغنيات ـ، والفتيان، يؤنس المستوحّش، ويبسط المنقبض، ويضحك الحزين، ويسّر النفس، ويسرّي غموم الكمد، ويقوي منه الضعيف، ويؤمن فترة الشّراب، ويبسط قلب الكسلان، ويقوّي أعصاب الرأس، ويصلّب أوداج الرقبة، ويحطّ الرطوبة من الدماغ...

كما ترون فهذه وصفة علاجيّة شارحة لعلاج الصفع، وتحديدا صفع الطرب، وهو صفع لا يوجع، وليس فيه إهانة للمصفوع، هذا إذا كان الصفع علاجيّا!

أحسب أن القينات، والفتيان، هم موضوع الصفع وغيره، ولكن هذا لا يمنع أن يتصافع الندامي طربا واستمتاعا ونشوةً، وهذا هو الصفع، أو التصافع الديمقراطي بين المتساوين في الحقوق، ولا سيّما حّق الصفع!

وماذا عن صفع الأدب؟! يجيب التيفاشي:

إن فيه حكما ظاهرة، ونعما غامرة...
ولو كان في التأديب شيء ألطف وأقّل أذي من الصفع، لاستعمله الناس في تأديب أولادهم، والمماليك مع غلمانهم، الذين يرأفون عليهم، ويهتمون بأمورهم. وقد رأينا الرجل الحليم، الواسع العليم، يصفع ولده عند هفوته، وعند خطيئته.

وبعض الصفع مذّل مهين، والتيفاشي يكتب: إن الفتي يعيش عزيزا، وإلاّ يضرب عنقه، فيموت كريما، ولا يعيش ذليلاً فيصفع قفاه.

التيفاشي يري أن الصفع علاج: إنّ الأطباء، والفلاسفة، أجمعوا كلّهم علي أن الدم إذا تعقّد في الدماغ دخنت البخارات البلغميّة، واشتدّ تمكنه وتكاثفه في الدماغ.

لعلاج هذا الاحتباس الدموي في الرأس، ونزول المرض إلي اللثة والأسنان، ينصح التيفاشي بما يلي: فإذا وجد الصفع المعتدل، أكسب القفا حرارةً ـ يقصد قفا الرأس، وليس المؤخرّة ـ لطيفةً مقدارها في الدرجة الثانية من الحرارة الغريزيّة، فحّل ذلك الدّم. (انتبهوا لفوائد الاعتدال في الصفع!).

هذا يعني أن الصفع العلاجي هو أقرب ما يكون إلي المساج، حتي لا يضطّر الإنسان إلي الفصد والحجامة!

التيفاشي اقترح الصفع المعتدل كعلاج لأمراض الرأس، أو لترفيه الأخوان بعضهم عن بعض، وهذا غير الترفيه عن الأخوان المسلمين في السجون المصريّة، والرفاق المعارضين، والمشبوهين المتطرفين، الذين هم لرغيف الخبز مطالبون، في مصر وأخواتها!..

التيفاشي، بحسب محقق الكتاب الأستاذ جمال جمعة، هو شهاب الدين أبوالعباس أحمد بن يوسف التيفاشي القيسي التيفاشي. ولد في قرية تيفاش عام 580 هجريّة 1184 ميلاديّة، وكانت من قري قفصة التونسيّة، لكنها الآن ضمن قسنطينة بالجزائر.

هذا الكتاب يقّدم مسحا شاملاً للظواهر الجنسيّة المتخفيّة منها والظاهرة في المجتمع الإسلامي (35)...

لو عاش جدّنا التيفاشي في زمننا لشبع صفعا علي أم رأسه، وركلاً بالشلاليط علي أم قفاه، وهو العلاج الصحّي المجّاني المؤمّن لكّل (رعيّة) من الرعايا، تقديرا لأفكاره النيّرة، وسيعيش حياته مرمطةً في بلاد، المواطنون فيها رعايا مصفوعون، منذ الولادة، حتي يدسّوا عميقا في شقوق تدفن روائحهم وذكرهم، فالرعيّة الجيدة هي الميّته، لأنها توفّر برحيلها نفقات لا تستحقها!

.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى