إدريس كثير - الإنسان صديق و محب الحكمة أو في "الهومو فيلو صوفوص"

"إن الذي بلغ تحرر العقل، ولو بقدر معين، لن يشعر على الأرض بشيء آخر سوى كونه مسافرا".
نيتشه


المسافر الذي يلم بهذا العنوان أو المفهوم المركب من ثلاث دلالات تداولية كبرى ينهل من اللغتين الإغريقية واللاتينية. "فهومو" تشير إلى الإنسان، و"فيليا" إلى الحب أو الصداقة، و"صوفوص" إلى الحكمة والذائقة... وهي الدلالات التي يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بالإنسان صديق أو محب للحكمة.
للهومو (Homo) في اللفظ والتشقيق دلالات عدة، علاوة على أنه يعني الشبيه (Semblable) والهو نفسه (Le même) فهو يشير إلى النوع الإنساني برمته Homo sapiens ويشير إلى الوسط العائلي Home ويشير إلى الإنسان الصغير أو القزم (Homoncule) كما يشير إلى المترجلة من النساء (Hommasse).. وإذا اعتمدناه كجذر لكلمات أخرى تتنوع دلالته كالمركز المشترك (homo centre) ونفس الشكل (homo morphe) والزواج من نفس المستوى الاجتماعي (homo gamie) وفوبيا المثلية (homo phobie) وحب الغلمان (homo philie) والفضاء الحيوي للإنسان (homo sphére ) إلخ...
إذا كانت الأنتروبولوجيا هي العلم الذي في مقدوره أن يقدم لنا الصورة الحقيقية "للهومو" فإن الثقافة الإغريقية ولغتها هما اللتان يمكنهما تحديد العلاقة فيما بين المحبة والحب والصداقة والصديق (فيليا) من جهة، والحكمة أو صوفيا من جهة أخرى.
كل ذلك باللغة العربية وانطلاقا أيضا من الثقافة العربية خاصة تلك الثقافة ذات النزعة الإنسانية والفلسفية.
فمن هو الإنسان؟ والإنسان المحب للفلسفة أو صديقها؟
يعتبر "إدغار موران" بأن عمر الكون هو سبعة مليارات من السنين وعمر الأرض هو خمسة مليارات من السنين، وعمر الإنسان العالم Homo Sapiens هو مائة ألف إلى خمسين ألف سنة، وعمر الفلسفة ألفان وخمس مائة سنة، أما عمر علوم الإنسان فصفر سنة، ومعنى هذا التقدير أن الإنسان لم يعرف نفسه بعد.
فالنظرية السائدة على مستوى الأنثروبولوجيا في تعريف الإنسان هي تلك التي تفصل بل تقابل بين مفهوم الإنسان والحيوان، بين الثقافة والطبيعة، وكل ما لا يلائم هذا التقسيم يعد "نزعة بيولوجية" أو "نزعة طبيعية" أو "تطورية" (إ.موران، ص، 11).
وفي نظره، يجب الكف عن اختزال الإنسان في الهوموفابر، أو الهوموشابيانس. فالإنسان الصانع أو العارف لا يمكنه أن يحدد حقيقة وجوهر الإنسان، ذلك أن هذا الأخير هو في العمق إنسان عاقل وفاقد لعقله، حكيم (Sage) و شيطان (Démon) في آن واحد. وعليه يجب تصور الإنسان في كليته وتركيبته، فهو نوع إنساني وفرد ومجتمع.Espèce individu Société
في هذا المثلث يجب إبراز الأسطورة والاحتفالات، والرقص والغناء والإنشاء، والحب والموت، والمغالاة، والحرب (ص، 218، نفسه) أكثر مما يجب التركيز على الصناعة وعلى المعرفة، فالذي يتلاشى الآن بعد تطور كل هذه العلوم (البيولوجيا، السبيرنطيقا..) ليس هو مفهوم الإنسان (Homo ) ولكن ذلك المفهوم المنعزل عن الإنسان. وذلك التأليه الذاتي له. تقرع أجراس الموت الآن على الأنتروبولوجيا التجزيئية، وعلى التصورات التي لا تتحمل التعقيد، وتقرع على النظريات المنغلقة، لتعلي الأفراح والأتراح من شأن الإنسان باعتباره كائنا ثقافيا من حيث الطبيعة لأنه كائن طبيعي ثقافيا (ص، 100 نفسه).
ويبقى "الهومو" هو البراديغم المفقود في نظر إ.موران لأنه مفتاح الثقافة في الطبيعة ومفتاح الطبيعة في الثقافة. (ص، 163).
هذا التداخل الإشكالي بين الطبيعة والثقافة لا نعثر عليه لدى الإنسان (هومو) فقط بل نجده أيضا لدى الهانومان أو القرد النحوي (أ.باث) ، "هكذا فالقرد الفاشل الذي ينحني في المعركة ويولي بدبره للقرد المسيطر يقلد الأنثى ويمثل المثلية ليعبر عن إحساساته الأكثر احتراما وخنوعا للقوي (ص، 59، إ.موران).
أليست هذه الوضعية هي نفسها تلك التي تحدث عنها مالك شابل في كتابه "عقلية السراي" خاصة في الفصل الأول المتعلق بالمثلية (homo) الانحراف والخنثى، (ص 19 م.شابل).
لا يخلو العالم العربي والمغرب العربي على الخصوص من الممارسات الجنسية الهامشية: كالمثلية (homo) واللواط، والانحراف... وذلك طيلة تاريخ هذه البقعة من الجغرافيا. إلا أن الظاهرة تعاني من كبت مضاعف، فهي أولا محاربة من طرف التقليد أكان دينيا أم اجتماعيا، وهي ثانيا مواجهة بصمت مريب.
لكن الهومو المثلي المغاربي يبقى موجودا. فهو في نظر ابن خلدون تجسيد لفساد العادات الاجتماعية والثقافة الحضرية، ذلك الفساد الذي يتجلى في تنويع المأكولات والمشروبات وفي تنويع الشهوات والأفراح والمناكح والزنى، واللواط، (ص، 25. م.شابل).
هناك إذن بين الأخلاق التقليدية والواقع هوة لا يمكن ذرعها إلا بالصمت والكبت أو بالتسامح والمفارقة، وهذا هو واقع الهومو في المغرب العربي بشتى أشكاله، المخصي، والمخنث، والغلام والأنثى والأمرد،... أشكال يجسدها امتدادا المغني "طويس المعاصر للخلفاء الراشدين: لقد كان مخنثا من أشأم خلق الله: لأنه ولد ليلة وفاة الرسول (عليه السلام) وفطم ليلة موت أبي بكر وبلغ سن المراهقة ليلة مقتل عمر، وتزوج ليلة مقتل عثمان، وزرق مولودا ليلة مقتل علي، وكان عمره أربعين سنة(1).
يميز فوكو بين الفن الإيروسي Ars erotica وبين العلم الجنسي scientia sexualis) ويعتبر الصين واليابان والهند (كماسوترا) والعالم العربي الإسلامي من الحضارات التي أبدعت في المجال الأول أما المجال الثاني فكان من تخصص العالم الأوروبي.
أما الإيرو/تيكا أو المجون فهو هذا الفن الذي يوغل الوصف في الأعضاء الجنسية ويكثر الحديث عن أنواع الجماع، وأضرب النكاح وأنواع النساء والغلمان... قصد المتعة والغرابة والذكاء... سواء في شكل حكايات وطرائف أو في قالب شعري...
وللحديث عن الأيرو/تيكا العربية الإسلامية سأكتفي بثلاثة مؤلفات(2) يمكن إدراجها في سياق الإيروسية العربية الإسلامية، تم اختيارها جزافا ودون تمثيلية صارمة، لكنها تملك شرعية ودلالة أدبية، لا تمتحها من التشريعات الدينية فقط وإنما من تفشيها الواضح في المجتمع وتعاطيها بنوع من التساهل والأمر الواقع...
الشاعر المعني في "رقة الكائن النائم" هو راشد بن إسحاق المكنى ب"أبي حكيمة" شاعر عباسي مجهول توفي سنة 240هـ، أنفق كل شعره في رثاء أيرة (أيروتيكا) فهل أصيب حقا بالعنة؟ أم أنه كان يموه على تهمة اللواط؟ ولماذا التمويه وهو ليس تهمة؟ لقد عاش هذا الشاعر في عصر الخليفتين الأمين والمأمون وكان الأول يحيط نفسه بالغلمان وقيل انه كان يهيم بغلام يدعى "كوثر" قال فيه شعرا:
كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي
وكان للثاني قاضي قضاة يدعى يحيى بن أكثم، اشتهر بلواطه وكان "لا يستخدم في داره إلا المرد الملاح" يقال إنه "هو الذي زين للمأمون اللواط وحبب إليه الولدان وغرس في قلبه فضائلهم ومحاسنهم وخصائصهم وقال : "إنهم بالليل عرائس والنهار فوارس وهم للفراش والهراش و للسفر والحضر..." في هذا الإطار بزغت مجونية أبي حكيمة.
"إلا أن ذكر الأعضاء لا يؤثم، وإنما الإثم في ذكرها عند شتم الأعراض وقول الرفت في أكل لحوم الناس وقذف المحصنات"، بمثل هذا القول تستهل عادة شرعية الوصف الأيرو/تيكي وترفع الكلفة.
فرثاء الشاعر أيره قريب الصلة باللواط (الهومو) هو الذي قال فيه جملة وتفصيلا "ومنتبه بين النداء من رأيته " (القصيدة ص 69 رقة الكائن النائم)، لذا يجوز اعتبار أن شعر الشاعر سار بالعنة وكان "أهب من تيس"، مثلما صار شعر أبي العتاهية بالزهد وكان على الإلحاد، وسار اسم أبي نواس باللواط وكان أزنى من قرد.
الهومو إيروتيكا كانت أمرا متفشيا بين الناس آنذاك. جسدها أبو نواس أيما تجسيد! هو الذي انتقل من غلام إلى هومو بويطيقا (شاعر)، فما هو الخطاب الأخلاقي الذي كان ينظم سلوك الناس إذن؟ إنه خطاب الأخلاق التي تتأسس على الشريعة الإسلامية. ففي النكاح تحصي السيدة عائشة(رضي اللع عنها) أربعة أنواع سادت في الجاهلية، نكاح الناس اليوم، الخطوبة فالصداق، ونكاح الاستبضاع حيث ترسل زوجة الرجل إلى آخر ليصيبها لأجل النسل الجيد ونكاح الرهط ما دون العشرة يصيبون المرأة ولما تلد تختار الأب، ونكاح البغايا.
لما بعث محمد (ص) بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا النكاح الأول. والحال يقول محقق كتاب التيفاشي جمال جمعة هناك أنواع أخرى كنكاح البدل (تبادل الزوجات) ونكاح المصامدة إضافة إلى الزوج تتخذ المرأة خليلا أو خليلين، ونكاح السر (اقتران سري) ونكاح الشغار وهو تزوج امرأة بأخرى كمهر للزوج ونكاح المساهاة هو أخذ أخت أو بنت الأسير كفدية، ونكاح الضيزن والمحارم والزنا... إلا أن هناك نكاحين لابد من الوقوف عندهما قليلا الأول يسمى نكاح المخادنة والمخادنة هي الصداقة "والرقة في كل أمر philia والخدين هو الصاحب أو الصديق. جاء في القرآن الكريم "محصنات غير مسافحات ولا متخدات أخدان"(3) وهو صداقة المرأة مع رجل آخر غير زوجها، يكون لها صديقا يحدثها ويواسيها ويصادقها وقد يحصل الاتفاق ليكون للصديق النصف الأعلى من السرة إلى قمة الرأس، والنصف الآخر لبعلها". والثاني هو اللواط طبعا، وقد قسمه الفقهاء إلى اللواط الأكبر واللواط الأصغر، الأكبر هو جماع الرجل مع الرجل (هومو) والأصغر هو وطأ المرأة في الدبر. و قد تشدد الإسلام في عقوبة اللواط الأكبر. قال الرسول (ص) "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(4)، أما الأصغر فقد حصل بصدده خلاف في التأويل. لقد كان الخطاب الأخلاقي الإسلامي صارما في زجره ومنعه، لكن لماذا تفشت كل المظاهر الإيروتيكية فيما بعد في العالم الإسلامي؟ لا يكفي في الجواب أن نشير إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتداخل الأجناس إلخ.. بل ربما يكفي أن نشير الى يحيى بن أكثم حين قال:
"لولا أنتم (يقصد الغلمان) لكنا مؤمنين "(5) (ص، 68 رقة للكائن...) إن المسألة ليست ثقافية أو دينية بل هي أيضا وأساسا طبيعية، وما يؤكد طبيعتها وصف سهل بن مهيدار لطبيعة المخنثين ببغداد وشبقهم وشغفهم على لسان شيخ من شيوخهم (ص، 269 إلى 285) وحديثه عن السحاقيات قائلا: ذكر الأطباء أن أهل هذا الدار خلقة (الفطرة والهيأة) (ص، 235 التيفاشي). ليس صحيحا أن الإيرو/تيكا العربية كانت فاقدة للعلم وللوصفات العلمية الطبية، فكل هذه الكتب المعتمدة في هذا التحليل تتضمن وصفات طبية وتحليلية وعلاجية لشتى الأمراض، المرتبطة بالجنس وممارسته، اعتمادا على ما ابتكره الطبيب يوحنا بن ماسويه في أحد كتبه. تتضمن الوصفة :".... ثلاثة أوراق من دهن الورد الفارسي، ومن الزنبق السابوري الرصاني أوقيتين، ومن دهن البنفسج أوقيتين... "للتطبيب ومعالجة العنة (ص 35/36 رقة الكائن) أما سبب الخنثAndrogyne وعلاجه على رأي محمد بن زكريا الرازي فقد أورده التيفاشي في مؤلفه المذكور (ص302 -308) تحت عنوان (مقالة في الأبنة) ويسمى هذا الداء بالداء الخفي ": الذكورة والأنوثة هي نتاج الحنين وغلبة احداهما على الأخرى، فإذا كان مني الرجل هو المحيل كان المولود ذكرا، وإذا كان العكس كان المولود أنثى وقد يكون المولود قوي التذكير أو قوي الأنوثة حسب قوة وحدة مني الأب أو الأم في الإحالة والعكس صحيح، إلا أن المثير للانتباه هو حين يتكافأ المنيين ويكون للمولود ذكر وفرج وهو الخنث، ولد ليس في غاية التذكير وأنثى ليست في غاية التأنيث.
ويشرح الرازي الأعراض قائلا: الخنثى الذكر تميل أعضاؤه (الذكر البيضتان مجاري المني وأوعيته) إلى الداخل إلى ناحية العانة والخنثى الأنثى تميل أعضاؤها إلى الخارج صغيرة متعرجة متحجرة، ويجد /تجد اللذة هناك بسبب الدغدغة في ناحية المعاء المستقيم. هذه الطبيعة الفيزيولوجية هي التي تفسر لنا الخنث واللذة والغلمان واللواط وما شابه. ولهذا السبب لا يمكن احترام الثقافة ولا الانصياع لها. لكن كان أبو حاتم السجستاني مولعا بالغلمان فيذهب فيهم مذهب الاستمتاع بالنظر في قضاء الوتر، وكان المبرد يحضر حلقته يقرأ عليه وكان أجمل أهل زمانه فقال فيه:
ماذا لقيت اليوم مـن
مستحسن خنث الكــلام
وقف الجمال بوجهـه
فسمت له حدق الأنــام
حركاته وسكونـــه
يجني بها ثمر الأثـــام
فإذا خلوت بمثلــــه
وعزمت فيه على اعتزام
لم أعد أفعال العفــاف
وذاك أؤكد للغــــرام
نفسي فداؤك يا أبا الـع
باس حل بك اعتصــام
فارحم أخاك فإنـــه
نزر الكرى بادي السقـام
وأفله ما دون الحـرام
فليس يطمع في الحــرام

هذه "الصداقة" تذكرنا بسقراط وربما لهذا الغرض قيل :"الغلام هو الرفيق في السفر والصديق في الحضر والمعين على الشغل والنديم عند التراب وهو سبب الأنس".
أما الوصفة الطبية حسب الرازي فتخضع لشروط منها: إذا تمادت الأبنة لم يكن من الممكن برء صاحبها، لاسيما إذا كان ظاهر التأنيث لديه يحب التشبه بالنساء، أما إذا كان صاحبها لا يألفها ويحب أن يخلو منها فهذا يمكن أن يعالج(...) وينوع الرازي الوصفة، في عدة أماكن في مقالته يمكن الرجوع إلى التيفاشي والإحالة المذكورة سابقا للاطلاع على ذلك.
كل هذه الأيروتيكا قدمت لنا في أسلوب لا يخلو من حكي وطرائف وعلم وشعر...أما العلم فمثل هذه الوصفات الطبية للرازي أو قبله لابن سينا أو غيرهما... كانت تستثمر المعلومات الطبية المترجمة عن اليونان أو تلك التي توفرها التجربة والممارسة اليومية للعالم الحكيم.


هوامش
1 - طويس تصغير الطاووس: ويكنى بأبي عبد النعيم وهو أول من غنى في الإسلام. التيفاشي، ص، 255
2 - انظر المراجع في آخر المقال.
3 -القرآن: سورة النساء، الآية: 25
4 - صحيح سنن ابن ماجة، تأليف الألباني مجلد 2، ص، 83، ذكره جمال جمعة)
5- وردت القولة أيضا على لسان أبي نواس ص 181 لدى التيفاشي وهذا قد يشير إلى دور التخييل في سرد هذه المعطيات.



العلم الثقافي
3/10/2010


----------------
* انظر الجزء الثاني في ص 50 من هذا المتصفح او العلم الثقافي
 
2
لم يكن للحكي والطرائف ولا حتى الشعر أن يستشكل موضوعة الحب والجنس والمتع، فلقد حافظ الحكي على سماته: لغة مشوقة، تلخيص، وتكثيف للموضوع ثم بعد ذلك تفصيل الحديث فيه، بالحرص على مصدر الخبر، والعمل على الإثارة رغم المبالغة التي قد تفسد حقيقة الحكي بل متعته، حيث لا تهم حقيقة الحدث بقدر ما يهم سرده وحكيه. يمكن أن نتلمس النموذج في «أبواب النيك» ص 607/611 لنعمة الله الموسوي وفي كتاب التيفاشي برمته حيث يبدأ كل باب من أبوابه الإثني عشر، بتحديد الموضوع وتفصيله ثم ينتقل إلى النوادر والأخبار، ثم الاشعار فيجمع بذلك بين العلم والمعرفة والطرافة والمدح، أما الشعر فهو حديث آخر.
مثل هذه الأير/وتيكا وهذه الهوموفيليا من حيث المفهوم والمصطلح لا تنحصر في البعد الجنساني بل تتعداه إلى مستويات جنيالويجية إنسانية وأنطولوجية فلسفية عامة...
بحيث يبدو أن الهومو/فيلو/صوفوص» لدى نيتشه، مرتبط بإنسانيته فهو «إنسان مفرط في إنسانيته1»يحطم الأصنام المختلفة التي لا تعير اهتماما للإنسان. يتكون هذا الكتاب من تسعة فصول، الأول يتحدث عن الإنسان كغاية ومبادئ، والثاني يركز على أخلاقه وسلوكاته والثالث يربط الإنسان بالدين، والرابع بالفن والكتابة، والخامس يموضع الإنسان homo في الحضارة، والسادس في المجتمع، السابع يتعلق بالمرأة والطفل، والثامن بالدولة والإنسان، والتاسع بالإنسان وحيدا أمام نفسه 1.
هذه التاسوعات تعلي من شأن الإنسان، وتضعه ضمن إنسانية العقول الحرة» حكماء النفس وأطباء الحضارة، الملتزمين الصمت، لأن في بعض الحالات، التزام الصمت هو الذي يجعل منهم فلاسفة. لكن الفلاسفة قد أخطأوا حين انطلقوا من الإنسان الحالي وكأنه حقيقة خالدة والحال أن الإنسان ليس سوى شهادة حول إنسان فترة محددة، فهم لا يريدون أن يفهموا بأن الإنسان (Homo) هو نتيجة صيرورة.... وما يلزمنا بهذا الصدد، من الآن فصاعدا، هي الفلسفة التاريخية وبمعيتها التواضع (ص18 نفسه).
أما العقول المستعبدة فتتحكم فيها العادة «والاعتياد على مبادئ فكرية مجردة من الحجج هو بالضبط ما نسميه الإيمان» (ص: 29، نفسه)، فحين يتصرف المرء تحت تأثير بواعث قليلة، لكنها لا تتغير أبدا، فإن فعاله تكتسب منها طاقة كبيرة، وإذا رافقت هذه الفعال مبادئ العقول المستبعدة فإنها تحظى بالقبول وبشكل عرضي تولد لدى من قام بها إحساسا براحة الضمير»(ص 130 نفسه). يتحكم فيها التقليد، بحيث لا تحتاج إلى حجج تبرر بها أفعالها، وتعتبر بالتالي العقول الحرة دائما ضعيفة، لأن لديها الكثير من البواعث ومن وجهات نظر التي سيرتها مترددة وغير متمرسة. «فكيف يولد العقل القوي؟ المسألة في حالة منفردة، هي مسألة إبراز العبقرية: (ص: 131) والعبقرية لا تبرز إلا في الحالات الإستثنائية كمحاولة الفرار من السجن ببرودة الدم والصبر الفائقين أو المكابدة في العثور على منبسط للسير وسط غابة كثيفة... هكذا تولد العبقرية! ويولد الفكر الحر «لاضطرام شديد للغاية في الإحساس» (ص132) ذلك الإحساس الذي يفوق كل الأحاسيس. لكن من يقدر على ذلك؟ وحده الشاعر بكل تأكيد. والشعراء يعرفون دوما كيف يواسون أنفسهم»(37).
الهومو إذن عند نيتشه هو ذاك الذي يتأمل نفسه: فيلو صوفوص. والتأمل الإنساني، المفرط في الإنسانية أو كما يقول المصطلح التقني: «الملاحظة النفسية» هي إحدى الوسائل التي تمكننا من تخفيف عبء الحياة. وأن ممارسة هذا الفن يجعلنا حاضري البديهة في بعض الحالات الحرجة ويسلينا وسط محيط مضجر...» (ص 39) لذا أصبحت الملاحظة النفسية ضرورية فهي منطلق ذلك «العلم الذي يتحرى أصل وتاريخ الأحاسيس الأخلاقية»، (جينالوجيا الأخلاق).
لمعرفة الإنسان لابد من أنثربولوجيا أخلاقية، يكون من مهامها، طرح المشاكل الاجتماعية المعقدة وحلها (ص 41) ،لم تكن الفلسفة القديمة في نظر نيتشه على علم تام بهذه المشاكل لذات انطلقت من تأويل خاطئ لها واعتمدت عليه كقاعدة لإرساء أخلاق خاطئة: «ألا يمكن قلب القيم والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟ وإن كان قد تم تضليلنا، ألا نكون نحن كذلك مضللين؟ ألسنا مرغمين على أن نكون كذلك (ص12).
إن مركز كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» من منظور تيمتنا، يوجد في الشذرات 259 و 260 وخاصة 261 (ص ص 144/148)،ليصف نيتشه في الشذرة الأولى، حضارة اليونان بالحضارة الرجولية (Homo )، ويقلل من شأن العلاقات بالنساء ليعلي شأن العلاقات الإيروسية بين الرجال والمراهقين «كل ما كان هناك من مثالية القوة في الطبع الإغريقي تم نقله إلى هذه العلاقات، وقد كان ما حظي به شباب القرنين السادس والخامس من العناية والحنان والاحترام المطلق من طرف أفاضلهم شيئا لا نظير له، مصداقا لحكمة هولدرين الرائعة: «حين يحب المرء فإنه يعطي أفضل ما لديه» (ص 144).
العلاقة بالنساء كانت تنبني على التناسل والشهوة، في حين أن العلاقة الأخرى كانت ثقافية وكان فيها حب حقيقي. أضف إلى ذلك أن النساء كن مقصيات من الألعاب والعروض والغذاء الروحي الوحيد المتبقي لهن هو العبادات الدينية: أنتيجون، إلكترا.. وهي أدوار كان الإغريق يسمحون بها في الفن لا في الحياة. لذا لا نطيق الحزن في الحياة ولكن نسمح به في الفن (المأساة).
يبدو أن هذه الهوموفيليا هي التي شجعت النساء على إنجاب أجساد جميلة وقوية تستمر من خلالها رجولة الحضارة الإغريقية، «إن عبقرية اليونان كانت دائما تجد في الأمهات الإغريقيات طريق الطبيعة (ص 145).
هل هذه الهوموفيليا أو الحضارة الرجولية هي السبب في طغيان العقل لدى الإغريق؟ طغاة العقل هؤلاء تنكروا للأسطورة ولشعاعها؟ وكأنهم استبدلوا الشمس بالعتمة، إلا أن الأسطورة في نظرهم لم تكن ساطعة بما فيه الكفاية، كان الصفاء عندهم جهة العقل والمعرفة والحقيقية التي تنبث دفعة واحدة بقفزة واحدة وتبلغ عمق الكينونة. لذا «كان لهؤلاء الفلاسفة إيمان راسخ بأنفسهم كما بحقيقتهم وكانوا يهزمون به جيرانهم والسابقين عليهم، كان كل واحد منهم محاربا وعنيفا. كان طاغية» (ص145)، محفز هذا الطغيان في نظر نيتشه هو وضع النواميس. لقد كان صولون طاغية رغم احتقاره للطغيان الشخصي لأن حبه لوضع التشريعات كان عارما، وكان بارمنيدس كذلك وفيتاغورس وإنبادوقليس وأناكسيماندر، أما أفلاطون فكان هو المشرع الأكبر ومؤسس الدولة الفلسفية. لكن فشله في تحقيق مشروعه جعل روحه في آخر حياته تمتلئ بالحقد الأشد سوادا. في ليلة واحدة دمر سقراط تطور العلوم الفلسفية المنتظم بشكل رائع، حتى ذلك الوقت في لحظة بات أفلاطون طاغية ولم يدرك عمق الما قبل السقراطيين ولا حتى أرسطو أدرك ذلك، و «كأنه لا يملك عيونا يرى بها حين يجد نفسه أمام هذه الشخصيات» (ص 147)، هكذا فكل مفكر عظيم تحول إلى طاغية بفعل اعتقاده أنه قد ملك الحقيقة المطلقة.
فهل الهومو صوفوص هو من نخبة أهل العقل أو ما اصطلح عليه نيتشه بأوليغارشيا العقل؟ النموذج الأقرب لهذه النخبة هو هومي/روس». كان أهم حدث في ثقافة العالم الهليني. كل الحرية الفكرية والإنسانية التي بلغها الإغريق ترجع إلى هذا الحدث. لكنه كان في الوقت نفسه نكبة الثقافة الإغريقية ،لأنه ونظرا لاستئثاره بكل شيء، قد نزع عنها عمقها وقضى على الجدية الكبيرة للغرائز الميالة نحو الاستقلال. كانت أعماق الروح الهيلنية من حين لآخر تجهر باحتجاجها ضد هوميروس، لكنه كان دائما ينتصر، وكل القوى الروحية الكبيرة تمارس إلى جانب تأثيرها التحريري، تأثيرا آخر، تأثيرا مضطهدا، لكن هناك فرق، بكل تأكيد، بحسب الذي يضطهد الناس، هوميروس أو الإنجيل، أو العلم» (ص 148 الترجمة)، ألم يكن هوميروس طاغ من الطغاة؟
ربما كان عبقريا؟ العبقرية لا تخلو من جنون. قال أفلاطون: «لقد جلب الجنون أكبر النعم للناس» لدى فإن الطبقات المثقفة في البلدان الأوروبية كلها عصابية، ومرد ذلك في نظر نيتشه هو طغيان العواطف والإحساسات وفيضها، وعدم التشبث بروح العلم التي تجعلنا إجمالا باردين شيئا ما. العبقرية تقدير مبالغ للذات، فهي ليست صدفة ولا نعمة، وإنما هي «حدس» بمعنى منظار صغير يسمح بالرؤية المباشرة «داخل الكينونة» مما يجعل العباقرة في صورة إنسان «سماوي» أو علنسان يتوفر على ملكات خارقة (Homo génie) شفافة هشيشة تكشف عن غضبه الجنوني حين ينتقد أو يقارن بالآخرين، وعن سخطه حين تكشف مواضع فشله... لنتذكر نابليون مثلا. (ص 104) إن مفارقة العبقرية لا تجد تأويلاتها إلا فيما يوحي به التاريخ من خلال صمته، فهو فيما يبدو يؤكد على سوء المعاملة للناس وعلى تعذيبهم ودفعهم إلى أقصى الإهانات (يصرخ التاريخ دائما في صمته بالأهواء والغيرة والحقد والحسد)، آنذاك تنبثق روح العبقرية فجأة. العبقري شرير وقاسي مثل الطبيعة «لكن ربما لا نكون قد سمعنا صوت التاريخ جيدا» (ص132).
يفيدنا نيتشه نفسه في «إكسي هومو» أن كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته» هو شهادة على «أزمة»، أزمة «العقول الحرة» حين تريد أن تتخلص من «المثالية» لكي لا ترى إلا الإنسان المفرط في إنسانيته. شكل فولتير نموذجا صارخا في هذا الصدد بذكائه وإنسانيته، بمثل هذا الذكاء سيقطع نيتشه مع عروض بيروت ومع فاغنر وأمثلته، وسيستفيق من غفوته حاملا احتقاره وميناخولياه لكل ما هو ألماني كمرض، إلى أمكنه قصية لكتابة بل لإملاء كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» على بتيرغاصت Peter Gast . هذه القطيعة هي الواقع قطيعة مع فساد الغرائز والعودة إلى الذات، ساهم فيها المرض والألم بقدر كبير في الإيحاء والعزم، ويكفي يقول نيتشه، أن نعود إلى «الفجر»، أو إلى «المسافر وظله»، لندرك معنى هذه «العودة إلى الذات» (ص96)، إنها شهادة على الوعورة التي أدب بها نيتشه شخصيته، وحد بها نهائيا «كل الاستيهامات المقدسة» وكل «المثاليات» و»المشاعر الطيبة»، وكل الميولات الأنثوية، والهوموفيليا الأخرى.
في حديثه عن المواهب الدرامية الجرمانية، عن كوطزبي Kotzebue وعن شيلر schiller وعن غوته، يشير نيتشه إلى صوفيا باعتبارها «الذوق» (Le goût) رابطا بين الحكمة وبين الذوق حتى ولو كان هذا الأخير رديئا، معتبرا أن أصحاب الذوق سعداء وهم في نفس الوقت حكماء، لذا جمع اليونان في صوفيا بين الحكمة والذوق. فالفيلسوف أي الهومو صوفوص هو رجل الذوق، (ص 438 آراء وحكم مختلطة)، وهذا المعنى هو نفسه الذي قصده أرسطو في كتاب نيكوماخوس وحتى لا يبدو هذا الرجل باردا حذرا قلقا كما هو في طبيعته، يدفعه حبه للإنسان Philanthropie إلى أن يبدو... متأثرا قابلا للانفعال إن لم نقل مجنونا (ص 476)، وهذا هو الاستثناء الإغريقي، الذي نعثر عليه لدى العقول العميقة والجادة، تلك العقول التي تستعير الأشكال من الأجانب لا لتقليدها إنما لتحولها وتكسيها بمظاهر جديدة.
لقد أشارت أنجيل كرامر مرايتي في تقديمها لكتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، إلى أن هذا الكتاب يعد جنيالوجيا للعقل الحداثي، ربط فيها نيتشه بين الماضي المتوحش لإنسانيته بالمستقبل الما بعد حداثي لأوروبا (ص6) (وهو نفس الموقف الذي بدأنا به هذه الدراسة مع الأنتربولوجي إدغار موران. حداثة «ترنسندنثاليه» تريد القطع مع الميتافيزيقا الما بعد سقراطية، فهي لا تروم تجاوز الدوكسا Doxa «إنما نريد تجاوز ضرب من التفلسف لا يبتعد كثيرا عن الدوكسي Doxie ،فداخل الفلسفة المثالية مثلا وهي «فلسفة عقلانية» تختفي الدوكسا، دوكسا الانحطاط التي أفسدت غرائز الإنسان ولوثت العقول الحرة، تلك العقول التي تعتمد على منهجية حددتها ماريتي في أربع خطوات: 1- الانطباع أو الحدس (Impression) 2- الضرورة، 3- الاستعياب، Assimilation و 4- الخيال fiction (ص 7)، منهجية ما بعد حداثية لأنها تركز أيما تركيز على الوظيفة الرمزية»، الوظيفة الأساس في ميدان الإبداع والإبداع الفلسفي أساسا، لكن هل الهومو فيلو صوفوص عند نيتشه إنسان عدمي؟ أجل إنه كذلك إلا أنه ليس بالمعنى الحداثي الذي تدفعنا إليه التقانة والعقلانية، إنما بالمعنى المابعد حداثي الذي يشك في العقل «ويحلق عاليا فوق القمم»، ويعتبر الحقيقة امتدادا لحقائق أخرى أولية قد تكون اللاحقيقية... في شكل متاهة لا تنتهي من التأويلات...
ترى ما هي صورة الهوموفيلو صوفوص لدى اليونان، وبالضبط لدى أفلاطون وأرسطو؟ يبدو أن أفلاطون قد قارب مفهوم «الحب» في محاورة المأدبة وقارب مفهوم «الجمال» في محاورة فيدر وكذلك في محاورة تيتياطوس وإن كان الموضوع الرئيس في هذه الأخيرة هو «العلم». أما أرسطو فنعثر في كتابه «الإتيقا إلى نيكوماخوس» على فصلين حول «نظرية الصداقة» في الفصل الثامن والفصل التاسع.

هوامش

يقول نيتشه:qu’est ce que le génie? Vouloir un but élève et les moyens pour y parven
2- يمكن مراجعة الصفحات 144-145-146-147 من فيدر للتوسع في هذه الافكار، انظر قائمة المراجع



7/10/2010
إدريس كثير
 
أعلى