حسيب شحادة - جولة خاطفة في بعض كتب الحبّ العربية

تعريف “الحب” عسير جدا، وهناك تعريفات وإجابات متعددة وفق الأزمنة والثقافات والأديان والمنطلقات وحتى الأشخاص. على ضوء اختبارات بيولوجية ونفسية حديثة يخلص المرء إلى القول إن الحب ثوران هرموني ولكن لا يمكن بالطبع إغفال الجانب الروحي والثقافي. والشعور بالحب أنواع متعددة ومتشعبة، عشق الذات الإلهية، الحب بين الأطفال، حبّ الغير مثل الوالدين وحب الوطن وحب المال والجاه والسلطة والذات إلخ. وكان ابن حزم الأندلسي قد قال عن الحب "دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة ومن ذاق الحبّ ستعلمه التجربة سره..." ولكننا هنا سنتطرّق في هذه العجالة إلى الحب بين الرجل والمرأة. ومن البدهي استحالة وجود البشرية بدون الحب. ومنذ ملحمة جلجامش السومرية، قبل قرابة خمسة آلاف عام، كان الجنس والخصوبة مقدسين وعبر الجنس تحوّل البطل أنكيدو من البدائية إلى المدنية ومن الجهل إلى الحكمة. وإثر حلول مبدأ التوحيد، الديانات السماوية الثلاث، ظهر الكبت الجنسي لا سيما بالنسبة للأنثى.
والمجتمع العربي اليوم كأسلافه يسلك طريقين، الطريق الإيروتيكي السري والطريق المتدين المحتشم العلني. وكان عالم النفس الألماني إريش فروم (Erich Fromm) قد صاغ نظريته في الحبّ مستندا إلى التراث الشرقي في هذا الشأن، كما تذكر الدراسة “صور الحبّ في الثقافة الإسلامية” للمستشرق السويسري يوهان كريستوف بورغيل (Johann C. Bürgel). ومما يجدر ذكرُه أن العلاقة الاجتماعية بين الجنسين في العصر الجاهلي كانت علنية واتسمت بالتلقائية والصراحة، ولم يستنكر الزوج حديث زوجته مع الآخرين لأنهم كانوا على ثقة وقناعة من عفة هذه المخالطات ولم يكن النظر إلى المرأة الغريبة حراما كما قالت الحشوية، (مشتقة من “حشو” الناس، فرقة من المعتزلة تمسكت بظواهر القرآن، وقعت في التجسيم)! وقيل الكثير من الشعر والنثر في الحب العفيف والحسي مثل ما ورد في قولي امرء القيس وعنترة العبسي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ولقد ذرتك والرماح نواهل مني = وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها = لمعت كبارق ثغرك المبتسم
بعبارة وجيزة، وُلد الحب العربي (وله عشرات الأسماء) وترعرع في كنف ظروف تتسم بالحرية الطبيعية والشجاعة والحكمة والوفاء والكرم الحاتمي والفراسة والفروسية والتضحية.
هناك وفرة من المؤلفات العربية التي تُعنى بالموضوع من جوانب عدة، الطب والباه والشبق والإجهاض والدين والجنس، وكل ذلك بوضوح ودون مواربة وتسمي الأشياء بأسمائها حتى الأعضاء التناسلية. والدور الهام الذي يلعبه الحب والجنس لدى العرب يتمثل في سعة هذا المجال الدلالي في العربية مثلا: تبل، تيم، جنون، جوى، شجو، شغف، شهد، شوق، فتون، صبابة، عشق، غرام، غزل، غمرات، كلف، لوعة، لهف، هوى، هيام، ود، وله.
والعين في الثقافة العربية منبع اللذة الإيروتية الحسية ولدرء وقوع الفتنة حُجبت عينا المرأة عن الرجل. والمرأة في الإسلام تمثل رأس الشهوات. وهناك في الأدب العربي ما يعرف بحب الغلمان أي اللوطية وقد يكون هذا مستقى من أصول فارسية وكان هذا الحب منتشرا لدى الإغريق أيضا. وكانت الإشارة إلى أسماء النساء سمة من سمات الغزل منذ العصر الجاهلي بعكس ما يعرفه الغزل الفارسي مثلا. ومن مسلّمات الأمور أن القرآن والحديث النبوي هما دعامة نظريات الحب في الإسلام. ويمكن العثور على خلاصة هذه النظريات في بعض المؤلفات مثل “إحياء علوم الدين” و”التبر المسبوك في نصيحة الملوك” لأبي حامد الغزالي. ويرى الغزالي أن التناسل هو الهدف الأول من الجِماع إلا أنه يشير إلى فوائدَ أخرى مثل اللذة الناتجة عن الجماع وهي تذكّر بنعيم الفردوس ومع هذا يذكر أن مثل هذه اللذة قد تنطوي على مخاطرَ جمّة. ويرى الغزالي مثلا أن على المرأة “أسيرة الرجل” المكوث في البيت وعدم التزوج من آخر في حين يحقّ للرجل القيام بما يشاء. ويقول الغزالي “كل ما ينال الرجال من البلاء والهلاك والمحن فبسبب النساء”.
ومن المعروف أن عمر بن أبي ربيعة (644-712)، “الموكّل بالجَمال” كان أول شاعر غزل في الإسلام، وشعره حسي لاذع وطبيعي. إنه زعيم الغزليين وأجاد في وصف المرأة بديوانه بجزئياتها خارجيا وداخليا. ونقرأ عن الحبّ الحسي أيضا عند عند أبي نواس وابن الحجاج وفيه تحلل ومجون كثير. كما واستخدم الغزل العذري منذ البداية صورا دينية أيضا كما ورد في نظم جميل بثينة:
هي البدرُ والنساء كواكب = وشتّانَ ما بين الكواكب والبدر
لقد فضّلت حسناً على الناس مثلما = على ألف شهر فضّلت ليلةُ القدر
أما عن الحب العذري (نسبة إلى عُذرة، بطن من قضاعة، التي اشتهر أبناؤها وفق الروايات بالحب الأفلاطوني) فهناك الكثيرون مثل من سمي باسم محبوبته مثل جميل بثينة وقيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلي بنت سعد العامرية وعروة مع عفراء وكثير عزة وتوبة وليلى الأخيلية وكلاهما شاعران (ينظر مثلا في "في الحب والحب العذري" للدكتور صادق جلال العظم و"الحب عند العرب" للدكتور عادل كامل الألوسي).
وللأديب الكبير المعتزلي الجاحظ (ت. 868) ذي النظرة التأملية الثاقبة وجهة نظر في هذا الصدد أدبيا ونفسيا واجتماعيا عبّر عنها في “رسالة القيان” و “كتاب النساء” عصارتها: طيبات الدنيا وعلى رأسها الأنثى مُسخّرة للرجل فهي خُلقت من ضلعه ويُنظر في الآية “نساؤكم حرثٌ لكم” في سورة البقرة رقم 223 وينظر أيضا في سورة النجم الآية 32. ويضيف امتلاك الجواري لم يحرّم لا في القرآن ولا في السنّة والنساء بمنزلة المشامّ والتفاح الذي يتهاداه الناس بينهم. وقد حلل مفهوم الحب من وجهة نظر عقلانية. ويضيف قائلا إن القوم لم يروا بأسا في تنقّل المرأة بين عدة أزواج. ومن الخصال العديدة للجمال في نظر الجاحظ الخصر النحيف.
وقد يكون كتاب “الزهرة” للفقيه ابن داود (ت. 909) أول مؤلَّف يتطرق للحب المتبرعم في قصور الأمراء وفيه الكثير من النماذج الشعرية ومحوره، في الواقع، حديث ضعيف الإسناد يقول “من عشق فعفّ وكتَم ثم مات فهو شهيد”، والحب في نظره انقسام روح كروية كل نصف يكما الآخر . والطبيب الشهير الرازي (ت. 925) يرى بالعشق بلية وهو حظّ المخنثين وأشباه الرجال. ونقطة كتم السر تتبوأ مكانة أساسية في كتاب “المصون في سرّ الهوى المكنون” للأديب الأندلسي إبراهيم الحصري (ت. 1022). أما “طوق الحمامة” للوزير والعالم الأندلسي المعروف ابن حزم (ت. 1064) ففيه شعر ونثر رفيع، يتناول موضوع الحب بعلمية وبناء على تجارب شخصية فهو قد تربى وترعرع في حجور النساء، ورأى في إقامة علاقات حبّ مع الإماء أمرا لا غبار عليه. وفي فصل خاص عن الاتحاد الجنسي يقول إن ذلك ذروة السعادة والغبطة وفي الحب شعور عميق بالأمن والثقة. وكان الفيلسوف ابن سينا (ت. 1037) قد عرّج على مجموعة من الأفكار في “رسالة في ماهية العشق” منها أن الله فقط هو المحبوب “الأول” وعند معاينة المخلوق الجميل يرغب الإنسان في المعانقة والتقبيل والاتحاد ورأى في الجنس نعمة الله للإنسان. كما وقارن العشق بالكآبة الحادّة. ومن المعروف أن الجنس مسألة جوهرية في الثقافة الإسلامية، إنه طاقة فطرية جسدية كامنة لا بد من تصريفها. وهناك كتاب “مصارع العشاق” للسراج )ت. 1106( حول الحب العذري المحض وحب الجواري والغلمان ذوي الطلعة البهية على حدّ سواء. وفي القرن الثالث عشر نجد مثلا كتاب “روضة العاشق ونزهة الوامق” لأحمد بن سليمان الكسائي وهو بمثابة تجميع أخبار أهل الهوى وبعده في القرن الرابع عشر كتب مغلطاي بن قليج “الواضح المبين في ذكر من اسشتهد من المحبين” وهو عبارة عن معجم أبجدي لحكايات من رحلوا عن هذه الفانية من فرط الحب. الحب العربي كان سببا كافيا للموت.
وفي الشعر الأندلسي نرى أن الحب أمر لا مفر منه وفيه الكثير من التهور ويؤول إلى الجنون، إنه مرض لا علاج له وينطوي على قوة خلاقة عظيمة. وكان الصوفي الأندلسي الكبير، ابن عربي، )1164-1240( قد أعرب عن فكرة مفادها أن الجمال الإلهي ينعكس على أروع ما يكون في الأنثى ويضيف أن هذه الحقيقة تفسر شغف النبي العربي بالمرأة ويتكلم عن حبّ الحبّ. وفي هذه الفترة الزمنية ظهر أول كتاب عن الحب يكتبه صوفي هو الديلمي “عطف الألف المألوف على اللام المعطوف” وبعده جاء “سوانح” للغزالي )ت.1111( ويؤكد الديلمي أن الحب مرض. وفي كتابه “ذمّ الهوى” لابن الجوزي الحنبلي ) ت. 1200( مناشدة لابن داود للعودة إلى الرشد وسواء السبيل. ولابن عربي، الشيخ الأكبر، الكثير والعميق والهام مما يقال في هذا المجال، مثلا:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة = فدير لرهبان وأوى لغزلان
وترتيل إنجيل وترنيم كعبة = ومصحف توراة وآيات قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهتْ = ركائبُه فالحب ديني وإيماني
وتقول الباحثة اللبنانية المختصة بتراث ابن عربي أن الحب عنده ذو مراتب ثلاث: الحب الطبيعي وهو حسّي؛ الحب الروحاني وهو اتحاد الحسي والمعنوي وهو القائل “ذات المحبوب عين ذات المحبّ وذات المحبّ عين ذات المحبوب”؛ الحب الإلهي وهو روحي خالص، لا مسحة أرضية تشوبه، كحب ابن عربي نفسه للصبية الأصفهانية، والحب في نظره علّة الوجود ومرشدوه في الطريق الروحي موسى وعيسى ومحمد. ومما قاله ابن عربي:” كل محب مشتاق ولو كان موصولا؛ من خرج عن أصله فهو غريب وعذاب الغربة شديد، الشقي غريب في الآخرة والسعيد غريب في الدنيا فطوبى للغرباء”.



.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى