حميد زنار - دفاعا عن المتعة.. دفاعا عن العقل

في ذلك الصراع الذي دار قديما بين مفكري الدنيا والحالمين بالآخرة، انتصر “أحباء السماء’’ على”أحباء الأرض“، ومذاك ترقد الفلسفة المتعوية في مقبرة المغلوبين. انتصر أفلاطون .. وراودته فكرة إرهابية هي إحراق كل أعمال ديمقريطس، ذلك الفيلسوف المادي، الشهواني، المتعوي، مفكر العقل الخالص والسببية العقلانية.

ولكن ألم تحقق المسيحية ما كان يتمناه أفلاطون بل وأكثر من ذلك بكثير؟ إذ تحولت هذه الطائفة إلى دين بفضل الامبراطور قسطنطين وانتقلت من حالة الضحية إلى حالة الجلاد تحت رعاية سلطة الأمراء. وهذا النجاح مكنها من إعادة النظر في الماضي وكتابة التاريخ بما يخدم أوهامها. قمعت المدارس الفلسفية، هدمت المكتبات، خربت المعابد الوثنية، وشيدت مجموع نصوص إيديولوجية لتسيير دواليب الحكم بإرشاد من المجامع الدينية ومثقفي ذلك العهد الانتهازيين. وتم استبدال الفلسفة بلاهوت وتعليم ديني وبفكر غارق في الغموض، مهموم بترسيخ المسيحية ثقافيا بعد ما غدت دين الدولة. ولذا فتاريخ الفلسفة المعروف هو التاريخ الرسمي الذي يتلاءم مع الإيديولوجية المسيحية : الفيتاغورية، المثالية الافلاطونية، الرواقية، الروحانية الطوماوية، الديكارتية، الكانطية، الهيغيلية... لقد تم تدريس هذا الفكر الرسمي وترسيخه بالتكرار حتى فُرض كتاريخ رسمي وحيد للفلسفة الغربية والعالمية. وهكذا عمل أعداء الحياة على احتقار وتزييف الأفكار والفلسفات التي لا تتوافق مع الأوهام الدينية المسيحية : الأبيقورية، اللاأدرية الإباحية، التحرريون الباروك، متطرفو عصر الأنوار، الاشتراكية التحررية، وجودية القرن التاسع عشر الجذرية...الخ وعلى تنوع مشاربه، يشكل هذا الاتجاه بجناحيه اللاأدري والإلحادي تيارا أساسيا في تاريخ الفلسفة.

وليس من الصعوبة الوصول إلى سبب تغييبه إذ هو فكر مادي، حِسوي، ذري، تلذذي، يحتفي بغريزة حب الحياة ويحارب غريزة الموت، يصارع ضد كره النساء وهيمنة الذكور من أجل مساواة سعيدة بين الجنسين. لقد حان الوقت لتنقية الفلسفة من شوائب الأوهام الدينية ووضع الأنا كأساس لكل حقيقة في وجودنا، وفي علاقتنا بالوجود عموما. بكلمة بسيطة يجب أن ننال نصيبنا من الدنيا. فقبل الكلمة كانت الرغبة، وبعد الكلمة كانت المتعة. كي لا تؤمم أجسادنا يجب أن نملكها، نلغي جبروت الأنا الأعلى إذ الجسد هو مقياس كل شيء. فلنخرجه من دائرة التابو.

يحاول المجتمع قتل أحلامنا الايروتيكية ولذا ينبغي مضاعفة تلك الأحلام والتوق إلى لذة أعظم لا تطالها يد النفاق والتشكلات الكاذبة. الفردية هي الأساس الذي يضمن تكوين مواطنين وليس رعية تقاد كالبهائم.لا معنى لحياة لا يكون فيها الإنسان مواطنا حرا، يملك ذاتا مستقلة قائمة بذاتها وواعية بواقعها ، تكون- هنا في العالم،من أجل تحقيق رغباتها قبل كل شيء. لا يجب ومهما كان الثمن أن يبقى الفرد وقودا للحروب، دينية كانت أو قومية أو يبقى مطية يحقق بواسطتها المتوهمون أغراضهم.. ولا يمكن أن يكون فردا دون التشكيك في قيم المجتمع التي لا تخدم تطلعاته الشخصية. حياة الفرد لا يمكن أن تقدر بثمن. فهي المبتدأ والخبر. عليه بالتمرد على المألوف المضجر والبدء فورا بجدية وعلنية في استنشاق نسائم الحرية ولذة الحياة.

لنغيّر منظورنا للجسد الذي لا يزال منبنيا على ذهنية تحريمية إرهابية. فالزواج التقليدي مثلا هو فخ منصوب للنساء وللرجال معا، لا يمكن التحرر من عسكرته دون رفع الحظر على الجسد وإدانة الإذلال الذي تعرض له الجسد الأنثوي على وجه الخصوص. علينا واجب إرواء ظمأ الجسد المحاصر بالتحريم والتجريم والتأثيم. وإن وجدت حكمة عملية تستحق الإجلال فهي تلك التي تقول بوجوب التمتع قبل فوات الأوان، الحكمة التي تخرجنا من منطق المنفعة إلى رحاب المتعة الخالصة وفسحة الروض العاطر.. وأول متعة هي التمتع بلذة أن نكون في الحياة، الاستمتاع بالعادي، إدراك جماله والإعجاب به.. هل يمكن أن نترك مرضى بالدين والجهل يتحكمون في مصائرنا. كيف يمكن تفويض أمرنا لهؤلاء الدعاة والفقهاء الطاعنين في السن، هؤلاء الذين يعملون كل ما في وسعهم لتتغلب غريزة الموت على غريزة الحياة، هؤلاء الذين بحكم إيديولوجيتهم يمتهنون عدم تثمين الحياة-هنا ولذّاتها. من جهتي لقد اخترت ديونيسوس دون أدنى تردد وعقدت العزم مبكرا على أن لا أقدم نفسي قربانا في معبد الواجب المصطنع والأخلاق السائدة الساذجة ولن أسير سوى في طريقي الخاص، طريق الولع بالبهجة و المتعة ولو كان ذلك ضد كل شيء وضد الجميع. أعتقد أن أهم سؤال فلسفي هو : كيف نعيش؟ كيف يمكن تجنب إهدار الوقت المتبقي لنا عيشه وما هي الطريقة المثلى لاستغلال كل لحظة من أجل المتعة، وكيف لا نهدر الوقت وكيف نمنعه من المضي بسرعة بغية تمديد زمن المتعة؟
ألم يكن ألبير كامو محقا حينما كتب في رواية”الطاعون" ذاتها أنه ليس من العيب تفضيل السعادة؟

* الأوان
.
 
أعلى