خالد سليكي - مدخل إضافي

إن كان للإسلام من خاصية تاريخية، فهو الدين الوحيد الذي استباح السطو على ممتلكات الغير بعد غزوهم. وقد اعتبر ما يقع بين يدي الغزاة "غنيمة" أحلها الله للمسلمين. وهكذا راكم المسلمون ثروات هائلة، استطاع الاسلام أن يضمن ما يكفيه للاستمرار في الغزو والانتشار. وعرف بيت المال فائضا هاما بما جناه من أعمال الغزو على باقي الشعوب والحضارات التي انهارت تحت سيوف المسلمين. غير أن هذه الغنائم لم تنحصر على المستوى المالي، من ذهب وجواهر وأموال، بل إن الإسلام شرَّعَ واستباح الأسرى. فالأساري إناث يملكن بالسبي، وكذا من لم يبلغ. والبالغ من الذكور إن أخذ قبل أن تنقضي الحرب وجب قتله إما بضرب عنقه، أو تقطع يده ورجله من خلاف وتركه حتى ينزف. وإن أخذ بعد الحرب لم يجز قتله، ويتخير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق حتى وإن أسلم بعد الأسر (من كتاب إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان للحسن بن يوسف الحلي ت.٧٢٦هـ). وتشجيع الإسلام على السبي واعتبار النساء جواري في ملك المسلم، حتى وإن كانت متزوجة لها أبناء، إضافة إلى أن الإسلام ظل يعد المؤمنين بـ»جنات النعيم " التي هي مساحة للذة والمتعة الجنسيتين بالدرجة الأولى، إذ يعد بـ " الحور العين" و " الأبكار الحسان" و" الولدان "، كل هذا قوى من عملية أسر النساء، وبقدر ما عرف بيت المال فائضا واذخارا هائلين، بالقدر نفسه كان سوق الجسد الأنثوي يتعاظم ويتضخم.
فصار المجتمع الإسلامي يستقبل " نساء " من عدد كبير من الأجناس والمجتمعات والحضارات، فيهن البيض، والقصار والطوال، والسد، والممتلئات والنحيفات، فكان من الواضح أن يتم الاهتمام بجغرافية الجسد الأنثوي، باعتباره " سلعة " يتم تسويقها وتداولها داخل أسواق النخاسة. لم يعد سوق النخاسة يقتصر على بيع آلة آدمية تقدم الخدمات لسيدها، وإنما صار هناك وضع جديد يشكل فيه معيار الجمال والمتعة والشهوة الجنسية كقيمة مضافة، بل إن الجمال حول الجسد الأنثوي إلى قيمة في ذاته، ومصدرا للإمتاع الشهوي الجنسي لمالكه. ثم فيما بعد صارإلى جانب الإمتاع الجنسي " المؤانسة " والغناء والشعر وما إلى ذلك... إن ازدهار سوق الجسد الأنثوي في العصر الإسلامي الأول، جعل الاهتمام ينصرف إلي كل التفاصيل، وساهم إلى جانب ذلك في إثراء المعجم الجنساني وتطوير آليات الشهوة واللذة. وصارت المرأة مكونا رئيسا في الخطاب الشرعي، الذي ابتدع واجتهد وشرَّع وأباح وحرّم وأجاز. والخطاب الديني في كل ذلك كان مهووسا بالجسد الأنثوي الذي اشتغل على جغرافيته وآلياته اللِّذية والشهوية، مقويا من سلطة الذكورية والقضيبية التي تضخمت بصورة هائلة، جعلت الاهتمام بالجسد الأنثوي يسير نحو جعله مجرد آداة للاستمتاع به من قبل الرجل، وهو بذلك مسخر له. كما حاول الخطاب الشرعي، بوجه عام، أن يجعل منه جسدا دون جسد الرجل، فاشتغل على تغطيته بحفريات الدنس وحط من قيمته، وأدرج ضمنه كل صور الشيطنة والإغراء والفتنة، وانتهى إلى اعتباره مجرد »عورة« ينبغي سترها.

لكنه في كل ذلك، وبالقدر الذي كان يحاول تسييجه وتقنين حضوره وحركاته ومجالات اشتغاله وتطويقه بالكل الأبعاد القضيبية الذكورية لاحتوائه وإخضاعه للسطلة الذكورية وشهواته، كان هناك هامش يشتغل فيه الجسد بحرية تقصي كل القيود ويتبرم عليها. كان هناك عالم ينمو ويزدهر في الظلام، خلف الأبواب، في المجالس السرية، وهو عالم ثري بمعجمه وصوره وطقوسه، بل عالم جنساني شبقي شهواني استطاع أن يؤسس خطابا موازيا للخطاب الرسمي والأخلاقي الرسميين. فازهرد الخطاب الشفوي والمكتوب، على حد سواء، وكانت مرجعيتهما تركز على الشهوة واللذة والجسد. انطلاقا من هذا الوعي الهامشي الذي يشتغل في العوالم السفلية، يسهل علينا فهم ازدهارالسحاق والدعارة واللواط في المجتمع الإسلامي منذ وقت مبكر، بل إن العديد من الأحاديث النبوية، بالإضافة إلى ما ورد في النص القرآني، ما يدل على أن المجتمع الرسلامي في المدينة، على عهد النبي، كانت فيه الدعارة مستشرية، وكان السحاق أيضا مزدهرا. بل إن البكارة، في المجتمع المديني (نسبة إلى المدينة) لم تكن ضرورة، ولم تكن البنات يخشين فقدانها، فقد روى أبو داود بإسناده أن رجلا كان يدعى نصر بن أكثم نكح امرأة فولدت له لأربعة أشهر فجعل النبي لها الصداق بما استحل من فرجها وفي لفظ قال: الصداق بما استحللت من فرجها فإذا ولدت فاجلدوها (شمس الدين بن قدامة المقدسي؛ الشرح الكبير. ع

لى هامش المغني م/٨. ص.١٥٧) وفي سنن أبي داود: قال بصرة بن أكثم تزوجت بكرا في سترها فدخلت عليها فإذا هي حُبلى فقال النبي، لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك فإذا لدت فاجلدوها. (سنن أبي داود ج/٢. ص.٢٤٢). وهذا بدوره يفسر القيود التي وضعها الدين الإسلامي لتهمة الزنى التي لا تثبت إلا بأربعة شهود يرون الميل في المكحلة، وهو الشرط المستحيل الذي لا يتحقق ما دام أن العملية تجري دائما في شروط محكومة بالتستر والسرية. وأوردت كتب التفاسير أن سعد بن عبادة قال: والله يارسول الله إني لأعلم أنها [الآية] حف وأنها من عند الله ولكني قد تعجبت: لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل..لم يكن لي أن أهيِّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهود. فوالله إني لا أتي بهم حتى يقضي حاجته. فما لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهيجه حتى أصبح وغدا على رسول الله فقال: إني جئت أهلي عشيا فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ما جاء به واشتد عليه (آنظر: أسباب النزول للواحدي؛ ابن الأثير: أسد الغابة). لهذا التشديد خلفياته التي ترمي إلى الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، خصوصا أن الإسلام كان مايزال في بدايته، إنه كان منشغلا بقضايا التأسيس والبناء. وهو ما جعله يعالج هذه القضايا بنوع من التحايل و" غض البصر". ولعل هذا من الأمور التي ساعدت على ازدهار ذلك الهامش الجنساني الذي وجد له مبرراته الشرعية والاجتماعية، بعيدا عن المجال الرسمي. واضح أنه من خلال الخطابين القرآني والأحاديث النبوية، أن الجسد الشهواني كان يمارس طقوسه وانزياحاته، بل وكان ينسج، في العتمات، اقتصادياته الشهوانية بحرية لم تستطع آليات المنع والمراقبة الرسمية، وما وظفته من أدوات أن تضع حدا لكل أنواع " الشذوذ " وللعلاقات خارج الإطار القانوني. مما يجعل الجسد يمارس تعاليا على السائد، ويتحرك في مجاله وبطقوسه التي يختارها داخل جغرافية تجعل من " الشبق " و" اللذة " و" المتعة" قيمه العليا. فمن هذا الهامش، ومن خارج الخطاب الرسمي الذي انشغل بتزوير الحقائق، وتأويل الظواهر وفقا للحقائق التي تخدم اقتصادياته الأخلاقية والسياسية، تشكل خطاب جنساني مكتوب يمجد الجسد، ويؤرخ للذة وحرية الجسد في ممارسة متعته، مرة باسم الدين/الشرع، ومرة خرقا للقيود الدينية والشرعية.. (يتبع)

* كاتب وباحث من المغرب يقيم في بوسطن



.
 
أعلى