ما زال حنا مينه يعلمنا كيف نعيش ، رغم انه يقول " ولدت بالخطأ ، وعشت بالخطأ ، وكتبت بالخطأ " ، و يسخر من تعبنا الذي يراه راحة ، فهو الطوّاف في العالم ، الحلّاق و الشيّال ، العامل في الميناء ، وعلى مراكب البحر ، و أجير صيدلي ، و الصحفي ، ولذلك إنه لايولي للدراسة الاكاديمية الاهتمام ، بيد انه يرى ان التجربة الحياتية ضرورية للكاتب ، يستشهد في كتابه ( هواجس في التجربة الروائية ) بقول غوركي : " علم الاجتماع منقوشٌ على ظهري ، لان الحياة الاجتماعية التي عشتها علمتني أشياء كثيرة " . و يمضي حنا مينه ، كاتب البحر ، ليبحر بنا الى مرافئه التي عاشها ، و ذاق مرارتها وحلاوتها ، ليرينا كيف نعيش الحياة . ينادينا " أيها الادباء ؛ هاجروا بالاتجاه المعاكس ، وغادروا العاصمة كالرسامين ، حاملين عدة الشغل و الاستعداد للملاحظة و الفهم " ، و رغم انني أكره الكتاب الذين يدأبون على ملاحقة التجارب للكتابة ، فانا أفضل الكاتب النافر من الحياة لا المنغمس فيها ؛ الا انني أحب حنا مينه ، و لا أعرف لماذا ، وهو يعلمنا في حوارٍ تليفزيوني معه ، أن لا نعيش التجربة لنكتبها ، لأن هذه التجربة تكون مصطنعة ، و غايتها الكذب و التدليس .
صدرت الطبعة الاولى من مجموعته القصصية " الابنوسة البيضاء " عام 1976، ويكتب مينه في بداية الطبعة الثانية ( 1979 ) ؛ أنه نشر أقاصيصه في صحف و مجلات سورية و لبنان ، و " لكنني لم أجمعها و لن أجمعها ! " ، و كأن مينه يحاول إيصال عبثه من خلال هذه اللقطة السينمائية الرديئة ، فلو كان " فتى الميناء " ليس مهتماً للنشر ، لما بدأ كتابة ثلاث روايات دفعة واحدة بعد نجاح روايته الاولى ( المصابيح الزرق ) ، هذا الشعور ثنائي القطب غالباً ما يُرافق الكتاب فهم يعبرون عن إمتناعهم عن النشر و نفورهم منه ، لكنهم يكتبون بإستمرار ! ، بيد اننا على وفرة من الحظ لان مينه قرر النشر في النهاية .
تتضمن المجموعة عشرة أقاصيص قصيرة ، و رغم أن كلمة أقاصيص هي جمع لأُقصوصة صغيرة ، و الاصح أن نقول ، قصص قصيرة ، لان القصص التي يحتويها الكتاب طويلة بعض الشيء مثل قصة ( علبة التبغ ) ؛ لكن مينه يعبر عنها بكلمة أقاصيص ، لعله أراد التصغير للتواضع الذي جُبل عليه طبعه .
كتب مينه هذه القصص القصيرة بلغته المعهودة ، التي يستقيها من واقعه ، و يضمخها برائحة الحارة ، و عفونة الحياة ، و رياحينها ، يكتبُ مينه بدون تزويق ، تأمر أمه الطفلة التي تكتب في قصة ( رسالة من أمي ) ، أن تكتب بدون " تنويق " ؛ لمعرفتها المسبقة بابنها الذي لا يحب " التنويق " ، ضمن مينه هذه القصة في المجموعة القصصية بالرغم من بساطتها ، و هي بالاساس مكتوبة لمحاكاة لغة الام ، وطيبتها ، و بساطتها ، فنراه يحاول إلتماس هذه القطعة من البياض من خلال الكلمات التي يختارها مناسبة للايقاع ، الايقاع البسيط ، مثلا " المختار عاتب عليك " ، " جوابك على هذا السؤال جعل الفأر يلعب بعب بيت عمك " ، و يضمن بعض من الامثال داخل القصة " يا جبل ما يهزك ريح " ، و يختتمها بموال أرسلته أمه ، و بالطبع لم يقتصر تعبيره البسيط على هذه القصة ، بل في سائر القصص الاخرى ، يقول في حوار ( هذه سوسته ) داخل قصته المعنونة " كاتب " .
نفتتح المجموعة بقصة ( الأبنوسة البيضاء ) ، التي حملت المجموعة إسمها ، يتجلى مينه في هذه القصة الى ابعد نقطة من الابداع الذي يخفق في روحه ، كيف لا وهو يتحدث عن اشياء يحبها ، البحر و الغابة و الطبيعة ، و هكذا هو كلما تحدث عن الرجوع الى أحضان الطبيعة ، و الانغماس في انغامها التي سحرته ، تبدأ القصة بمشهد فيه منهدس و مدرسة و رسام ، داخل سيارة ، داخل المسار العام الذي تشملهم به الحياة ، و نشاهد مينه وهو ينط من جوف الرسام ليعبرعن احاسيسه ، و ليس عجيباً أن يكون الرسام دليلهم ، فالمهندس و المدرسة لا وقت لهم لمعرفة الدروب ، و الولوج في الغابة و الجلوس عند البحر ، فكل منهما تدهسه رتابة العمل ، و كما شاهدنا مينه وهو يهرب في رواية الياطر الى الطبيعة ، نبصره يهرب هنا ايضا ، و يصرخ " الغابة تنادي ونحن نتجاهل " ، و مينه دائما ما يخالجه الشعور بالعودة الى " الوادي الاخضر ، يدور بالاشجار ، و يقفز فوق الادغال ، و يتدحرج على العشب " ، هكذا هو يحب الشمس و رائحة البحر ، و يمشي في شوارع حياته ، و يعيشها طولا وعرضا ، " سعيدا بانفلاته ، بتشرده ، بجنونه " ، يستشعر مينه بحواسه التي نذرها للتجربة جوانب الحياة الخفية ، و يحاول الهروب من ضغط المدينة السريعة الى الطبيعة ، و يدعونا أن " نمضي عبر دروب غير مطروقة ، و في كل خطوة نكتشف مجهولا " ، و يبصر نفسه كسمكة محشورة في علبة سردين ، علبة معدنية أنتجتها مصانع المدينة ، المدينة التي اخرجه نهمها الرأسمالي من النهر ليسبح في علبة سردين ، المدينة تضغطنا جميعا ، و تزوغ أبصارنا عن الحقيقة التي حشرتها في شقوق الظلام ، لكن مينه يبصرها ملتهبة ومضيئة ، ويصرخ بنا ان لا نسبح في علبة السردين طالما النهر ينادينا ، و يصيح مينه : يا اهل مدينتنا العتيقة ، يا سكان المربعات و المستطيلات و المثلثات و جميع علب الكبريت ، اخرجوا من علبكم ، من نواويسكم و جحوركم ، اخرجوا ، و تعروا ، و اعرضوا صدوركم و رؤوسكم للشمس .
يهدي مينه قصته الثانية ( على الاكياس ) الى احدهم و قد سأله " كيف ، و متى ، بدأت الكتابة ؟ " ، و يسرد لنا مينه احداث ذلك اليوم الذي تاخر فيه والده عن الرجوع الى البيت ، و الظنون التي التهمت جميع من في البيت ، و تفكيرهم بالبضاعة التي تلفت ، ومن ثم عمله في البحر ، و الاغماء الذي داهمه ، و بعد أخذ ورد ، تحول بلمحة البصر الى كاتب في نفس المكان ، هكذا و بكل بساطة ، القصة لا تحتاج الى الكثير من التفسير ، فهي واضحة و جلية ، و يخبرنا صاحب العمل الذي كان مينه عاملا عنده ؛ أنه " بدأ الكتابة عندي على الاكياس " .
و يمضي مينه راصداً المشاكل اليومية التي تواجه الفرد العربي ، بكل واقعية و عذوبة ، فهو يرسم الشخصيات بدون زبرجة ، و لا يخيل الينا انه يرسم فرداً من الصين او من اوربا ، فكل الشخصيات عربية ، و يستعرض هموم الكاتب ( الاستاذ ياسين ) في قصة ( كاتب ) ، و هو يمنع من الدخول الى بلد ليس مكتوبا على لائحة الاسماء المسموح بالدخول اليها ، و توضع في يديه الاصفاد ، و يجلس في الحبس ، الكاتب محبوس حسب مينه في هذه القصة ، تسجنه السلطة التي لا تفرق بين كاتب و لص ، فالكل " محابيس " بالنسبة للشرطي ، و لرجال الدولة لسانهم " العطر " الذي يصرخ بالجميع " أوباش " و أولاد كلب " و " أرذال " .
مينه الحالم ، و الذي لا يكف عن احلامه ، يصورها لنا بتجلياتٍ تخفق و تنجح ، لكنها في النهاية أمنيات مسوغة لكل فرد ، ومينه منهم ، في قصة " النار " يتحدث لنا عن عمّال المطبعة ، الذين يكابدون البرد مع تساقط الثلج ، و يدافع عنهم بروحه التي حملت أعباء العمال ، بروح اشتراكية انتمى اليها ، و يقف في وجه الحديد الذي سينهال به " ابو العز " فوق وجه عدي ، أعتقد ان مينه هو نفسه عدي ، و ابو العز ، فابو العز كان عاملا معهم ، ولكنه يأبى ان يصف بجانبهم لغفة منه ، و العمال جميعا ابو العز و عدي في ان واحد ، و لذلك كان يصرخ ماركس بهم " يا عمال العالم اتحدوا " ، و تتوتر الاحداث مع الاضراب الذي يفتعله عدي بسبب البرد ، و يبدي اعتراضه على المدفأة الشكلية التي لا تلتهم الحطب ، و يقترح ان يلقمونها صناديق الخشب الموجودة في الغرفة ، و مع اعتراض ابو العز يشتد الامر ، و لكنه ينتهي بحركة درامية سخيفة بأن يرضى ابو العز باقتراحه ، و هذه الروح الدرامية كانت تشغل الادباء الذين يكتبون عن العمال ، و لكن أحوال العمّال لم تتحسن فهم عادوا لنفس عملهم ، بيد ان ابو العز اسكتهم بنفحة صغيرة لا تُعد بالنسبة لحقوقهم التي يستحقونها ، فهل كان بعض الغيث أنفع من عدمه يا مينه ؟ . و في قصة " جمرة السنديان " ينظر مينه للاشجار على هيئة رصاص ؟ و ينتظر ان يقوم الفرد العربي للاجهاز على العدو كما فعل " ابو محمد الشاغوري " عندما انتصر على " مصطو " ، لكن بندقيته معلقة على الجدار ، مقاومة العربي بعين مينه صارت للزينة ، ومرهونة للحبس في الذكريات فقط ، بيد ان امله لا ينضب ، لهذا نجده يحمل الطفل العربي الذي رآه في قصة " هذا ما بقي منه " داخل مستشفى في لندن ، يتضح فيما بعد ان الطفل فلسطيني ، و والده يعالج من مرض خبيث ، و يموت في نهاية القصة ، اذن مينه متشائم بشأن القضية العربية في ذلك الوقت ، حتى انه يرسم مشهداً سخيفا ، حينما يخرج بطل القصة و شقيق المتوفي ليحتضنان بعض في الممر و هما يبكيان ، لا اعرف لماذا اقحم مينه هذا المشهد الرتيب في هذه القصة .
أجلت الحديث عن قصة " مأساة ديمتريو " الى النهاية لانني وجدتها إخفاقة كان مينه يستطيع تجنبها ، فهو كاتب ينهل من تجاربه ، واذا كانت تجربة حب دفعته لكتابة هذه القصة فهي مصطنعة ، لم التمس فيها مينه ، لم التمس رائحة البحر و الغابة و الحنين للواقع ، فنراه يرسم المشاهد بسوريالية ، بين ديمتريو و ديمتريو وهما ينقضان على بعضهما في صراع وجودي ، بيد ان هذا الصراع مفتعل و سمج ، لم احب هذه القصة ، و انا اشاهد مينه يرسم عشرات الشموس تخرج من اصابع ديمتريو ، و لماذا عشرات الشموس ؟ كانت لوحة سوريالية منفرة بالنسبة لي .
رحم الله حنا مينه الكاتب العذب الذي علمنا ، و مازال يعلمنا .