السرد بحر متلاطم ، كلما يزداد ولوج المرء فيه يصبح أصعب ، و تصبح الكلمات تمد لسانها هازءة و باصقة احيانا ، و لن تخجل ان تفتح راسك بضربة لا تقوم بعدها !
الكلمات عصية ، و تقاوم ، حتى و إن انتهيت من عمل و زججت به للنشر ، ستبقى الفجوات تلاحقك ، و كلمة ما ليست بمكانها ستأتيك لتعض اصبعك . اتذكر ان جاك دريدا قال انه يتمنى ان يكتب ادبا في حوار مترجم له نشر في مجلة افاق عربية !
ولكن الفكرة اين نختبرها ؟ نستكشفها ؟ في عالم يضج بالتقريرية و العادية ! هل ثمة فرق بين كاتب و آخر من حيث اختياراته / إقتناصاته ؟
حتما ستكشف الفكرة التي لاتنتمي لمادة هذا العالم ؛ عن نفسها بدون صعوبة و ستبدو بتوهجها الخاص بين هذا الركام من الظلال . سيكون الموضوع صعبا بدون مثال ولم اجد ماهو اكثر كمالا من " المسخ " !
في عالم عادي ، يعتاش الأعم من الكتاب على مواضيعه على مادته الموجودة تحت ايديهم ، تماما مثل النمل الذي يصادف في طريقه الطعام و يحمله الى ثقوبه . اما كافكا فهو حالة خاصة ، لانه لم يلتقط ماهو عادي و معاش ، و هذا يعود الى طبيعة نفسية و تكوين كافكا الذاتي ، و تلك الغربة التي تغرز انيابها بنظراته . أغلب القصص القصيرة و الروايات ترفدها التجربة التي يعيشها او يسمعها الكاتب و يسجلها بمهارة عالية و هذا ليس عيبا او نقيصة ، على العكس ، لان الحياة لاتجود بامثال كافكا كثيرا ، لا تزرع الحساسية و المشاعر الطافحة ، و القلب الخفاق كمدفع رشاش ؛ في صدر اي كان .
قد تبدو فكرة كافكا او جليل القيسي او غيرهما تحمل نواتها الواقعية الموجودة ، المكونات الحاضرة في الحياة نفسها ، الاشياء المستعملة ، و حتى طريقة العيش و ما تمليه الحاجات اليومية ، لكن " غريغور سامسا " الذي يقدم اليه الطعام و يعتنى به و له غرفته الخاصة ، لا يعدو كونه حشرة لا تندرج مع حياتهم البشرية الرتيبة ، ويبقى يطل عليهم من عينيه الحشرية و هم بدورهم ينظرون اليه من خلال أعينهم المختلفة ، هذه الهوة موجودة و تمثل قطيعة تامة ، على الرغم من الخيوط التي تنطلق محاولة ربط العالمين المنفصلين ، الملتصقين . هذه العلاقة تحمل نقائضها و تتكون من رحم تضاداتها ، تبدو في صراع اضدادها ، لكن صراعها الواقع هذا ؛ هو ملامحها الخاصة ، التقاسيم التي تحمل غضونها و نعومتها و اخاديدها الخاصة ، معتمة و مضيئة .
يجد كافكا نفسه محكوما عليه بتهمة يجهلها في " القضية " ، و لا يصحو من كابوس التهمة حتى يقع في رحلة طويلة الى " القصر " ، ومن جديد يجد نفسه يركض و يزحف و " يملخ " نفسه و لا يصل الى القصر المراد .
هذا الكافكا ، التركيبة الاكثر نضوجا التي جادت بها الحياة عن الغرباء ، هؤلاء الذين يطلون على الحياة من نافذة بعيدة و لا يكونون فيها الا في هيئة " مسخ " او " متهم " . ليست الغربة المنشودة هنا هي غربة لفكر ، بل هي غربة عن كل شيء ، رفض تام لكل هذه المعطيات المتواجدة في هذا العالم المكتظ . كتب البير كامي رواية " الغريب " وهي من أهم الاعمال السردية الفلسفية ، التي تتخذ الرواية طريقة لايصال الفكرة التي يريدها السارد / المفكر . و هكذا " الغثيان " لسارتر و " كائن لا تحتمل خفته " لكونديرا و " الطاعون " مرة اخرى لكامي ، تحمل هذه الروايات الغربة الفكرية المتصادمة مع الحضور الواقعي للعالم الملتبس و موقفهم منه ، لكن هذه الاعمال و غيرها حتى و ان حملت الغربة " الفكرية " هي في الظاهر مختلفة لكنها متجانسة مع هذا الواقع لانها جزء منه ، لكن المسخ هي حضور ضبابي لشخص لا ينتمي لهذا العالم ، بينما الاسماء المذكورة أعلاه يصارعون وجودهم لانهم ينتمون اليه ، أما كافكا فهو المرمي في فخ لا ينتمي اليه و لا ينظر اليه الا كحفرة ملعونة يرفضها .
و ليست هذه الغربة الكافكوية هي ذاتها كابوسية ادغار الان بو ! اعتقد ان قصة الغراب لا تنتمي الى تلك الغربة ، لكنها اقرب الى الغرائبية ، بينما قصتة " القلب الواشي " هي من تحمل هذه الغربة التي نحاول تلمسها مع كافكا . فتبوح لنا عين القاتل في قصة " القلب الواشي " عن حملها نفس الظلال التي تكفن خطوات صديقنا ( ك ) الماشي بدون وصول الى " القصر " .
ليست " المسخ " و حدها من بين كتابات كافكا تبقى هكذا بعيدا عن متناول الآخرين الذين يعتاشون على ما يصادفونه ، لكنها تتجلى بأغلب اعماله و لا اريد الجزم بكلها ، فهذه " القضية " و " القصر " و قصص قصيرة كثيرة مثل " المسافر " و " حكاية صغيرة " شواهد واضحة . إن الروايات او القصص القصيرة التي تقع بين ايدينا عظيمة وليست سهلة ابدا ، لنأخذ " آنا كارنينا " هذه الرواية الخالدة ستعيش طويلا ، لقد جسدها تولستوي افضل ما يمكن حتى اذا اردنا أن نحذف فقرة منها سيبدو الثلم واضحا ، و هذه الدقة لا تخرج الا من رسام تفيض يديه بالدقة و الجمال مثل تولستوي ، لكن الفكرة نفسها موجودة في حقل الحياة ، و اي فلاح يستطيع جنيها ، ستبقى دقة العمل ، دقة اللوحة مرهونة باصابع و روح الرسام . لكن " المسخ " ستبقى مكانا لا يخترقه العابرون ، يدخلونه لكنهم لا يتواجدون فيه ، يبقون خارجه ، إنها منطقة لا تدخلها لمجرد إنك تخطو فيها ، و حتى كافكا او اقرانه من الغرباء او ما يحلو لي تسميتهم " الكارثيين " ؛ سيبقون ضيوفا على هذه المواضيع التي تبدو فوتوغرافية ، حيث تصطاد الطريدة التي امامها ، تقتنص المشهد ، و هذا ليس ثلما او عيبا ، لكنه عاديا ، لذلك نرى كيف تغدو وجوههم واجمة تعيسة حين نذكر اسم كافكا او جليل القيسي ، و هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر .
أود التعريج على والدنا جليل القيسي . قصة جليل القيسي منفردة و تلعب في ساحتها الخاصة لوحدها بعيدا عن التاثيرات الخارجية ، فهو و إن كان داخل " مملكة الانعكاسات الضوئية " فإن هذه الاضواء مفلترة و تدخل صافية لتغفو بين اصابعه الفريدة . و هكذا مع آخرين تفردت قصصهم حتى وان وقع هؤلاء بالتقريرية لكنهم انتجوا قصصا تبقى متعذرة عن الاخرين ، عن فوتغرافية القصص السائدة ، ومثال على هذا مجموعة جمعة اللامي " اليشن " ، وبعض القصص لاخرين هنا و هناك . يبقى جليل القيسي يصول ويجول في القصة القصيرة العراقية ، يلعب بمفرده في ساحته و كلنا نحل ضيوفا عليه ، ننجح مرة و نخفق مرات ، فليس الجميع لديهم تلك النظرة التي تتفرس بالحياة كسكينة تخترق عظامها و تنخرها و ترفضها تماما ، بل ان الاغلب يرسمون واقعهم و يلتقطون له الصور شديدة الوضوح و الجمال و يحركون بعض الاشياء فيه ليبدون اكثر حرفية و موهبة ، و ينمقون ادواتهم و يعمقونها ، لكنهم لن يكتبوا كمطرودين من هذه الحياة الى الابد مثل جليلنا الفريد . ورغم اننا قد نذهب مع جليل القيسي الى اماكن واقعية قد يصادفها اي شخص لكننا نرافقه بخطواته التي تحل كضيف خفيف و لا تنتمي الى هذه الامكنة التي تدخلها ، بل تكون زائرة . بل إننا نبحر معه في " جروشنكا " و " صورة نادرة لفرانتس كافكا " داخل عوالم لا يعرفونها الكتاب البقية .
ستبقى ملامح الكتاب ، و حتى ملامح قصصهم الفوتغرافية ، ستبقى واجمة و حتى مرعوبة ، رغم ابداعاتهم ، لكنهم يعرفون الفرق او يشعرون به على اقل تقدير ، عندما يسمعون اسم كافكا و جليل القيسي وغيرهم !
الكلمات عصية ، و تقاوم ، حتى و إن انتهيت من عمل و زججت به للنشر ، ستبقى الفجوات تلاحقك ، و كلمة ما ليست بمكانها ستأتيك لتعض اصبعك . اتذكر ان جاك دريدا قال انه يتمنى ان يكتب ادبا في حوار مترجم له نشر في مجلة افاق عربية !
ولكن الفكرة اين نختبرها ؟ نستكشفها ؟ في عالم يضج بالتقريرية و العادية ! هل ثمة فرق بين كاتب و آخر من حيث اختياراته / إقتناصاته ؟
حتما ستكشف الفكرة التي لاتنتمي لمادة هذا العالم ؛ عن نفسها بدون صعوبة و ستبدو بتوهجها الخاص بين هذا الركام من الظلال . سيكون الموضوع صعبا بدون مثال ولم اجد ماهو اكثر كمالا من " المسخ " !
في عالم عادي ، يعتاش الأعم من الكتاب على مواضيعه على مادته الموجودة تحت ايديهم ، تماما مثل النمل الذي يصادف في طريقه الطعام و يحمله الى ثقوبه . اما كافكا فهو حالة خاصة ، لانه لم يلتقط ماهو عادي و معاش ، و هذا يعود الى طبيعة نفسية و تكوين كافكا الذاتي ، و تلك الغربة التي تغرز انيابها بنظراته . أغلب القصص القصيرة و الروايات ترفدها التجربة التي يعيشها او يسمعها الكاتب و يسجلها بمهارة عالية و هذا ليس عيبا او نقيصة ، على العكس ، لان الحياة لاتجود بامثال كافكا كثيرا ، لا تزرع الحساسية و المشاعر الطافحة ، و القلب الخفاق كمدفع رشاش ؛ في صدر اي كان .
قد تبدو فكرة كافكا او جليل القيسي او غيرهما تحمل نواتها الواقعية الموجودة ، المكونات الحاضرة في الحياة نفسها ، الاشياء المستعملة ، و حتى طريقة العيش و ما تمليه الحاجات اليومية ، لكن " غريغور سامسا " الذي يقدم اليه الطعام و يعتنى به و له غرفته الخاصة ، لا يعدو كونه حشرة لا تندرج مع حياتهم البشرية الرتيبة ، ويبقى يطل عليهم من عينيه الحشرية و هم بدورهم ينظرون اليه من خلال أعينهم المختلفة ، هذه الهوة موجودة و تمثل قطيعة تامة ، على الرغم من الخيوط التي تنطلق محاولة ربط العالمين المنفصلين ، الملتصقين . هذه العلاقة تحمل نقائضها و تتكون من رحم تضاداتها ، تبدو في صراع اضدادها ، لكن صراعها الواقع هذا ؛ هو ملامحها الخاصة ، التقاسيم التي تحمل غضونها و نعومتها و اخاديدها الخاصة ، معتمة و مضيئة .
يجد كافكا نفسه محكوما عليه بتهمة يجهلها في " القضية " ، و لا يصحو من كابوس التهمة حتى يقع في رحلة طويلة الى " القصر " ، ومن جديد يجد نفسه يركض و يزحف و " يملخ " نفسه و لا يصل الى القصر المراد .
هذا الكافكا ، التركيبة الاكثر نضوجا التي جادت بها الحياة عن الغرباء ، هؤلاء الذين يطلون على الحياة من نافذة بعيدة و لا يكونون فيها الا في هيئة " مسخ " او " متهم " . ليست الغربة المنشودة هنا هي غربة لفكر ، بل هي غربة عن كل شيء ، رفض تام لكل هذه المعطيات المتواجدة في هذا العالم المكتظ . كتب البير كامي رواية " الغريب " وهي من أهم الاعمال السردية الفلسفية ، التي تتخذ الرواية طريقة لايصال الفكرة التي يريدها السارد / المفكر . و هكذا " الغثيان " لسارتر و " كائن لا تحتمل خفته " لكونديرا و " الطاعون " مرة اخرى لكامي ، تحمل هذه الروايات الغربة الفكرية المتصادمة مع الحضور الواقعي للعالم الملتبس و موقفهم منه ، لكن هذه الاعمال و غيرها حتى و ان حملت الغربة " الفكرية " هي في الظاهر مختلفة لكنها متجانسة مع هذا الواقع لانها جزء منه ، لكن المسخ هي حضور ضبابي لشخص لا ينتمي لهذا العالم ، بينما الاسماء المذكورة أعلاه يصارعون وجودهم لانهم ينتمون اليه ، أما كافكا فهو المرمي في فخ لا ينتمي اليه و لا ينظر اليه الا كحفرة ملعونة يرفضها .
و ليست هذه الغربة الكافكوية هي ذاتها كابوسية ادغار الان بو ! اعتقد ان قصة الغراب لا تنتمي الى تلك الغربة ، لكنها اقرب الى الغرائبية ، بينما قصتة " القلب الواشي " هي من تحمل هذه الغربة التي نحاول تلمسها مع كافكا . فتبوح لنا عين القاتل في قصة " القلب الواشي " عن حملها نفس الظلال التي تكفن خطوات صديقنا ( ك ) الماشي بدون وصول الى " القصر " .
ليست " المسخ " و حدها من بين كتابات كافكا تبقى هكذا بعيدا عن متناول الآخرين الذين يعتاشون على ما يصادفونه ، لكنها تتجلى بأغلب اعماله و لا اريد الجزم بكلها ، فهذه " القضية " و " القصر " و قصص قصيرة كثيرة مثل " المسافر " و " حكاية صغيرة " شواهد واضحة . إن الروايات او القصص القصيرة التي تقع بين ايدينا عظيمة وليست سهلة ابدا ، لنأخذ " آنا كارنينا " هذه الرواية الخالدة ستعيش طويلا ، لقد جسدها تولستوي افضل ما يمكن حتى اذا اردنا أن نحذف فقرة منها سيبدو الثلم واضحا ، و هذه الدقة لا تخرج الا من رسام تفيض يديه بالدقة و الجمال مثل تولستوي ، لكن الفكرة نفسها موجودة في حقل الحياة ، و اي فلاح يستطيع جنيها ، ستبقى دقة العمل ، دقة اللوحة مرهونة باصابع و روح الرسام . لكن " المسخ " ستبقى مكانا لا يخترقه العابرون ، يدخلونه لكنهم لا يتواجدون فيه ، يبقون خارجه ، إنها منطقة لا تدخلها لمجرد إنك تخطو فيها ، و حتى كافكا او اقرانه من الغرباء او ما يحلو لي تسميتهم " الكارثيين " ؛ سيبقون ضيوفا على هذه المواضيع التي تبدو فوتوغرافية ، حيث تصطاد الطريدة التي امامها ، تقتنص المشهد ، و هذا ليس ثلما او عيبا ، لكنه عاديا ، لذلك نرى كيف تغدو وجوههم واجمة تعيسة حين نذكر اسم كافكا او جليل القيسي ، و هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر .
أود التعريج على والدنا جليل القيسي . قصة جليل القيسي منفردة و تلعب في ساحتها الخاصة لوحدها بعيدا عن التاثيرات الخارجية ، فهو و إن كان داخل " مملكة الانعكاسات الضوئية " فإن هذه الاضواء مفلترة و تدخل صافية لتغفو بين اصابعه الفريدة . و هكذا مع آخرين تفردت قصصهم حتى وان وقع هؤلاء بالتقريرية لكنهم انتجوا قصصا تبقى متعذرة عن الاخرين ، عن فوتغرافية القصص السائدة ، ومثال على هذا مجموعة جمعة اللامي " اليشن " ، وبعض القصص لاخرين هنا و هناك . يبقى جليل القيسي يصول ويجول في القصة القصيرة العراقية ، يلعب بمفرده في ساحته و كلنا نحل ضيوفا عليه ، ننجح مرة و نخفق مرات ، فليس الجميع لديهم تلك النظرة التي تتفرس بالحياة كسكينة تخترق عظامها و تنخرها و ترفضها تماما ، بل ان الاغلب يرسمون واقعهم و يلتقطون له الصور شديدة الوضوح و الجمال و يحركون بعض الاشياء فيه ليبدون اكثر حرفية و موهبة ، و ينمقون ادواتهم و يعمقونها ، لكنهم لن يكتبوا كمطرودين من هذه الحياة الى الابد مثل جليلنا الفريد . ورغم اننا قد نذهب مع جليل القيسي الى اماكن واقعية قد يصادفها اي شخص لكننا نرافقه بخطواته التي تحل كضيف خفيف و لا تنتمي الى هذه الامكنة التي تدخلها ، بل تكون زائرة . بل إننا نبحر معه في " جروشنكا " و " صورة نادرة لفرانتس كافكا " داخل عوالم لا يعرفونها الكتاب البقية .
ستبقى ملامح الكتاب ، و حتى ملامح قصصهم الفوتغرافية ، ستبقى واجمة و حتى مرعوبة ، رغم ابداعاتهم ، لكنهم يعرفون الفرق او يشعرون به على اقل تقدير ، عندما يسمعون اسم كافكا و جليل القيسي وغيرهم !