لم ينل سعدي عباس العبد ( ١٩٥٧ ٢٠١٤) شهرة واسعة ، ولم يأخذ مكانه الذي يستحق ، فسعدي قاص كبير ، له أسلوبه ، و نبرته الخاصة ، و عزفه الوئيد الذي يلمس حافات الروح المغمورة ، لسعدي مجموعة يتيمة " الكلاب و المارينز " صدرت بطبعة رديئة عن دار الشؤون الثقافية العراقية و له عشرات القصص و أكثر من رواية مخطوطة - حسب علمي ثلاث روايات - يأكلهن النسيان كما أكله في بيت قصي و هو يصارع المرض الذي قضى عليه ، لا أقول مات فهو يسمي الموت " النوم السرمدي " او " الخراب السرمدي " .
لأبي وائل قصة قصيرة بعنوان ( أمي الحشرة الحسناء ) ، يدخلنا معه في أزقة كافكوية ، ترسم فضاءها أنامل ممسوخة الى كتلة وجع ، يدخلنا الى مدنٍ لها ملامح كافكا ، أنفه النافر و تقاطيع باكية ، لكن جل هيئتها شربت من عيني كافكا ، تلك الاشعة السوداء التي تخترق الانفاس و تحيلها الى جدران تقف في الرئة ، يحوطنا سعدي بوابل من الضجيج و الصمت ، ينقلنا بينهما برشاقة ، بين ضجيج الحياة السوداء و صمت نظراته الواهية التي تراقب المشهد ، مراقبة من بعيد ، يقول كافكا " لا أستطيع حمل العالم على عاتقي ، لا أكاد اطيق ثقل معطفي الشتوي على كتفي " ، لذلك يطالع سعدي المشهد من بعيد رغم أنه في داخله ، مشهد الحياة الذي لاينتهي بموت بطل أو انتصاره بل يمضي بنا حتى بعد موتنا ، يخزننا في أمكنة نسجتها خطوات تائهة .
بعد عودة سعدي في وقت متأخر ، نصيخ السمع لذوبان ذاته وهو يستمع الى غربته ، يصغي لكلام يحمله " هواء لزج ثقيل " ، هواء يربض فوق أحلامه و يطفئ وميضها ، هواء الوطن المذبوح الذي أسكنه فراش المرض لسنين ، و قبلها في زوايا بيت أكلته الرطوبة ، ينقل سنواته في منفاه الإختياري كخرز صغيرة ، تنسل من بين يديه لتسقط في هوة قاتمة ، و يقاوم بيئته لدرايته بغربته ، بات متلائما مع الخوف كجزء حميمي لا ينفصل " فعرفت اني ساتجمد من الرعب " ، يسرد سعدي بحثه عن أمه ، ذات البحث / الهروب من والد كافكا ، هو بحث مزدوج ، قد يكون ليس بحثاً شخصيا يروم وجود الهيكل و إحتضانه ، بل البحث عن مبرر للفجوة الممتدة بين سعدي و والدته / كافكا و والده ، ذهب سعدي خلف بحثه طوال حياته العصيبة ، البحث الذي قاده الى مديات نائية في داخله ، مديات لا يعرفها سواه ، لعلها ندبة أوديبية رافقت مشواره الصعب ، يقول فرويد عن تأثير عقدة أوديب انها " أعظم مشكلة يلقاها الانسان في بدأ حياته ، و أهم مصدر لمتاعبه التالية " ، و ثمة فجوة شاسعة بين سعدي و والدته جلية ، فصار يبحث عنها بين سطور القصص التي تنساب من يديه ، من المحتمل أن الفجوة ليست متأخرة بل رافقته منذ طفولته المبكرة ، يقول فرويد " في الظاهر أن الامراض العصابية تكتسب فقط أثناء الطفولة المبكرة ، بالرغم من ان اعراضها قد لا تظهر الا فيما بعد ذلك بمدة طويلة " ، إذن قصص قصيرة أم مجهر حرفي ؟ نعم فقصص سعدي حسرة حجرية تقف منتصبة في صدره ، حسرة القتها فيه لحظات ضياع رسمت ملامحه الشاكية ، فيمضي محاولا إيجاد حضنا في هذا العالم المتخشب ، بحث طويل لا طائل منه " سأمكث وقتا عصيبا صعبا أبحث خلاله عن أمي " ، و هكذا هو في بحث دائم عنها داخل نفسه ، يسائل ذاته عن البقعة التي تلاشت فيه أمه كبخور أسود ، " أفتش عنها في سائر الغرف " ، لكن هذا البحث يكشف عن نفسه من خلال مفردات خرجت لوحدها من أنامله ، يكشف لنا لاوعيه عن الاماكن التي يبحث فيها عن أمه ، يبحث في " الزوايا الحالكة " ؟ ، يراها من " نافذة " غرفته ، مكانه الذي يسيطر عليه و يفرض نفوذه ؛ ذاته ، فنحن نقطن داخل ذواتنا التي نتمشى فيها دون خوف أو خجل ، هي ذاتها النافذة التي أبصر امه تقف خلفها ، " تخرج ببدنها المهدود من ثقوب الجدران كأنها حشرة ضخمة في غاية الجمال " ، تخرج وقد مسّها " غيرغور سامسا " بحشريته . الأم التي يرتكز عليها " أنا " الكاتب و " جميعنا " تعاني من عطب ما ، عطب نتلمسه لكن لا نمسك بحقيقته الكاملة ، الحيقيقة التي غابت في ذاكرة سعدي ، صاغته ، و تركته يبحث عن كف يردم الفراغ الناتج عن علاقته بأمه أو الحشرة الحسناء ! ، يتتبعها و هي " تمشي بسيقان بيض عديدة مشّعة " يراها تمشط شعرها الحشري و هي ترمقه " بعدد من العيون المضيئة المتخمة بالنعاس " ، العيون فاترة لا تطالعه بوهج ، عيون " ناعسة " لا تنثره ببهجة ما تفتت المسافة بين حياتين منفصلتين ، وهو يحلم بحياة واحدة تجمعهما ، او على الاقل يحل ضيفا على حياتها لبضع سويعات ! ، سويعات تعوض عن " سنوات متوحشة مليئة بالجفاء الأمومي " ، في القصة يكون والد سعدي مغتالا ، رمزية واضحة عن غياب دوره في حياته ، أقصاه لعدم فعّاليته في خلقه ، و إن كان يتناوله في قصص أخرى بإسهاب ، لكن تبقى لأمه المساحة الاكبر من التأثير فيه .
لمجتمع سعدي النصيب الثاني في نسج إغترابه ، المجتمع الذي لا ينفك تكسير الضلوع بحوافر فولاذية ، و عقائد تلتف كأفعى معدنية حامية على رقابنا ، نتذكر هنا إفتتاحية كافكا في " القضية " لا بد ان شخصا ما كان يروي الاكاذيب عن جوزيف ك ، لانه دون ان يكون قد ارتكب خطأ القي القبض عليه ذات صباح جميل " ، و ينساب سعدي مع تيار خوفه ، الخوف الذي صار صديقا لا يفارقه ، و يخشى غيابه ، و هو يشاهد الجيران " يغرسون عيونهم في وجهي " ، حتى يعترف بأنه صار " فريسة ميسورة تتحلل تحت إيقاع المصائب المتواترة " ، البيئة الكبيرة التي نخرها الجوع و العوز لا تعرف الاستقرار ، و لا تضيء أفكاره بنور مستقر ، بل تملئه باضواء راعشة ، و بيئة صغيرة ، بيت لا ينبض فيه حنان الام ، بارد دائما حتى في قيظ تموز اللاهب ، لا يجد فيه من يعرفه و يشاطره همومه ، ليس فيه الا " مخلوقات غامضة " ترتع فيه و تعبث و تمد السنتها هازئة بكل شيء ، مخلوقات تخرج من ضغينة و فتور يطفق من الصدور التي لم تعرف الود بينها ، غاطسة في تقاسيم واجمة ، سعدي الذي لا يرى نور النهار يصادق شجرة تتوسط البيت ! ، ترافق عزلته ، و تقف في وجه المؤامرة التي تحاك عليه من صوب مجهول ! ، ذاتها المؤامرة التي يصحو كافكا على حين غرة ليجد نفسه محبوسا و ملقى في السجن بسبب تهمة لا يعلمها في رواية القضية ، يقول سعدي " كأنها واقفة لتحرسني! ، وتفعمني بعبق الطمأنينة وتملاْني باخضرار متوهج على الدوام " ، أخذت الشجرة دور الام ، لكنها الان أكثر حيوية من تلك الحشرة و لا نعرف أيهما من خشب ؟ .
يقف سعدي إزاء طرد آخر ، إمرأة بدينة و كريهة تطلب منهم إخلاء البيت ، يسندها أشخاص يرتدون اللثام ، بهذه الإشارة الطفيفة ينقلنا سعدي مع تغير عصر ، تغير سيادة و موازين في القوى المسيطرة على الوضع العام بعد 2003 .
يستمر سعدي بالبحث عن أمه ، لكنه لا يجدها سوى ملفوفة بضباب الغياب الازلي ، الغياب الذي لا تقشعه عناقات عابرة ، و نظرات جافة ، " كم فتشت عنها ، لكني لم أرَ سوى حشرات تتدفق من الجدران " ، هذه الرؤيا اللاعضوية ، نظرة بصيرة ، تخترق نخاع الحقيقة المزيفة ، أمومة قاحلة إن تحدث عنها سد فمه بحجارة لا يقوى على إبعادها ، تسد فمه الأحكام الدينية ، و الأعراف الجاثمة فوق الجميع ، فلا يسمعه أحد إن صرخ ، لا يمسك أحد يديه الملتاعة من غرق أبدي ، و يحال هذا الوجع لإدعاء يلبسه العقل الجمعي لسعدي أو لغيره ، و يمدون أصابع الاتهام كاسياخ جمرية تخترق عينيه ، و لا يطالعونه وهو ينتحب " يعتريني الفزع ، فاجري مذعورا ناحية الشجرة " ، و رغم معرفته الراسخة بوجودها في البيت ، لكنه يبقى " واقفا خارج البيت اسمع كلاما غامضا يتدفق عبر الباب المغلق "كّان الأزقة الكافكوية
سعدي عباس العبد أنموذجا ،هذه هي الوحدة التي حاكت ملامح سعدي و كافكا ، العزلة الإختيارية / القسرية في عالمٍ هو عبارة عن منفى صخم ، يقول كافكا " عليّ أن أظل وحيدا قدرا كبيرا . وكل ما أنجزته هو ثمرة كوني وحيداً " ، يقطن سعدي وقوفه خارج بيت أهله ، الخارج الذي إلتهمه و بقي في مفترق طرق ، لا يذهب الى الخارج ، و لايعود الى الداخل ، يقطن الطرد من كل الجهات ، يسكن الأزقة الكافكوية .
رحم الله أبا وائل ، هل سنجد دار نشر تطبع الكتب النوعية و لا تفكر بالارباح لتطبع لنا ما كتبه ؟
لأبي وائل قصة قصيرة بعنوان ( أمي الحشرة الحسناء ) ، يدخلنا معه في أزقة كافكوية ، ترسم فضاءها أنامل ممسوخة الى كتلة وجع ، يدخلنا الى مدنٍ لها ملامح كافكا ، أنفه النافر و تقاطيع باكية ، لكن جل هيئتها شربت من عيني كافكا ، تلك الاشعة السوداء التي تخترق الانفاس و تحيلها الى جدران تقف في الرئة ، يحوطنا سعدي بوابل من الضجيج و الصمت ، ينقلنا بينهما برشاقة ، بين ضجيج الحياة السوداء و صمت نظراته الواهية التي تراقب المشهد ، مراقبة من بعيد ، يقول كافكا " لا أستطيع حمل العالم على عاتقي ، لا أكاد اطيق ثقل معطفي الشتوي على كتفي " ، لذلك يطالع سعدي المشهد من بعيد رغم أنه في داخله ، مشهد الحياة الذي لاينتهي بموت بطل أو انتصاره بل يمضي بنا حتى بعد موتنا ، يخزننا في أمكنة نسجتها خطوات تائهة .
بعد عودة سعدي في وقت متأخر ، نصيخ السمع لذوبان ذاته وهو يستمع الى غربته ، يصغي لكلام يحمله " هواء لزج ثقيل " ، هواء يربض فوق أحلامه و يطفئ وميضها ، هواء الوطن المذبوح الذي أسكنه فراش المرض لسنين ، و قبلها في زوايا بيت أكلته الرطوبة ، ينقل سنواته في منفاه الإختياري كخرز صغيرة ، تنسل من بين يديه لتسقط في هوة قاتمة ، و يقاوم بيئته لدرايته بغربته ، بات متلائما مع الخوف كجزء حميمي لا ينفصل " فعرفت اني ساتجمد من الرعب " ، يسرد سعدي بحثه عن أمه ، ذات البحث / الهروب من والد كافكا ، هو بحث مزدوج ، قد يكون ليس بحثاً شخصيا يروم وجود الهيكل و إحتضانه ، بل البحث عن مبرر للفجوة الممتدة بين سعدي و والدته / كافكا و والده ، ذهب سعدي خلف بحثه طوال حياته العصيبة ، البحث الذي قاده الى مديات نائية في داخله ، مديات لا يعرفها سواه ، لعلها ندبة أوديبية رافقت مشواره الصعب ، يقول فرويد عن تأثير عقدة أوديب انها " أعظم مشكلة يلقاها الانسان في بدأ حياته ، و أهم مصدر لمتاعبه التالية " ، و ثمة فجوة شاسعة بين سعدي و والدته جلية ، فصار يبحث عنها بين سطور القصص التي تنساب من يديه ، من المحتمل أن الفجوة ليست متأخرة بل رافقته منذ طفولته المبكرة ، يقول فرويد " في الظاهر أن الامراض العصابية تكتسب فقط أثناء الطفولة المبكرة ، بالرغم من ان اعراضها قد لا تظهر الا فيما بعد ذلك بمدة طويلة " ، إذن قصص قصيرة أم مجهر حرفي ؟ نعم فقصص سعدي حسرة حجرية تقف منتصبة في صدره ، حسرة القتها فيه لحظات ضياع رسمت ملامحه الشاكية ، فيمضي محاولا إيجاد حضنا في هذا العالم المتخشب ، بحث طويل لا طائل منه " سأمكث وقتا عصيبا صعبا أبحث خلاله عن أمي " ، و هكذا هو في بحث دائم عنها داخل نفسه ، يسائل ذاته عن البقعة التي تلاشت فيه أمه كبخور أسود ، " أفتش عنها في سائر الغرف " ، لكن هذا البحث يكشف عن نفسه من خلال مفردات خرجت لوحدها من أنامله ، يكشف لنا لاوعيه عن الاماكن التي يبحث فيها عن أمه ، يبحث في " الزوايا الحالكة " ؟ ، يراها من " نافذة " غرفته ، مكانه الذي يسيطر عليه و يفرض نفوذه ؛ ذاته ، فنحن نقطن داخل ذواتنا التي نتمشى فيها دون خوف أو خجل ، هي ذاتها النافذة التي أبصر امه تقف خلفها ، " تخرج ببدنها المهدود من ثقوب الجدران كأنها حشرة ضخمة في غاية الجمال " ، تخرج وقد مسّها " غيرغور سامسا " بحشريته . الأم التي يرتكز عليها " أنا " الكاتب و " جميعنا " تعاني من عطب ما ، عطب نتلمسه لكن لا نمسك بحقيقته الكاملة ، الحيقيقة التي غابت في ذاكرة سعدي ، صاغته ، و تركته يبحث عن كف يردم الفراغ الناتج عن علاقته بأمه أو الحشرة الحسناء ! ، يتتبعها و هي " تمشي بسيقان بيض عديدة مشّعة " يراها تمشط شعرها الحشري و هي ترمقه " بعدد من العيون المضيئة المتخمة بالنعاس " ، العيون فاترة لا تطالعه بوهج ، عيون " ناعسة " لا تنثره ببهجة ما تفتت المسافة بين حياتين منفصلتين ، وهو يحلم بحياة واحدة تجمعهما ، او على الاقل يحل ضيفا على حياتها لبضع سويعات ! ، سويعات تعوض عن " سنوات متوحشة مليئة بالجفاء الأمومي " ، في القصة يكون والد سعدي مغتالا ، رمزية واضحة عن غياب دوره في حياته ، أقصاه لعدم فعّاليته في خلقه ، و إن كان يتناوله في قصص أخرى بإسهاب ، لكن تبقى لأمه المساحة الاكبر من التأثير فيه .
لمجتمع سعدي النصيب الثاني في نسج إغترابه ، المجتمع الذي لا ينفك تكسير الضلوع بحوافر فولاذية ، و عقائد تلتف كأفعى معدنية حامية على رقابنا ، نتذكر هنا إفتتاحية كافكا في " القضية " لا بد ان شخصا ما كان يروي الاكاذيب عن جوزيف ك ، لانه دون ان يكون قد ارتكب خطأ القي القبض عليه ذات صباح جميل " ، و ينساب سعدي مع تيار خوفه ، الخوف الذي صار صديقا لا يفارقه ، و يخشى غيابه ، و هو يشاهد الجيران " يغرسون عيونهم في وجهي " ، حتى يعترف بأنه صار " فريسة ميسورة تتحلل تحت إيقاع المصائب المتواترة " ، البيئة الكبيرة التي نخرها الجوع و العوز لا تعرف الاستقرار ، و لا تضيء أفكاره بنور مستقر ، بل تملئه باضواء راعشة ، و بيئة صغيرة ، بيت لا ينبض فيه حنان الام ، بارد دائما حتى في قيظ تموز اللاهب ، لا يجد فيه من يعرفه و يشاطره همومه ، ليس فيه الا " مخلوقات غامضة " ترتع فيه و تعبث و تمد السنتها هازئة بكل شيء ، مخلوقات تخرج من ضغينة و فتور يطفق من الصدور التي لم تعرف الود بينها ، غاطسة في تقاسيم واجمة ، سعدي الذي لا يرى نور النهار يصادق شجرة تتوسط البيت ! ، ترافق عزلته ، و تقف في وجه المؤامرة التي تحاك عليه من صوب مجهول ! ، ذاتها المؤامرة التي يصحو كافكا على حين غرة ليجد نفسه محبوسا و ملقى في السجن بسبب تهمة لا يعلمها في رواية القضية ، يقول سعدي " كأنها واقفة لتحرسني! ، وتفعمني بعبق الطمأنينة وتملاْني باخضرار متوهج على الدوام " ، أخذت الشجرة دور الام ، لكنها الان أكثر حيوية من تلك الحشرة و لا نعرف أيهما من خشب ؟ .
يقف سعدي إزاء طرد آخر ، إمرأة بدينة و كريهة تطلب منهم إخلاء البيت ، يسندها أشخاص يرتدون اللثام ، بهذه الإشارة الطفيفة ينقلنا سعدي مع تغير عصر ، تغير سيادة و موازين في القوى المسيطرة على الوضع العام بعد 2003 .
يستمر سعدي بالبحث عن أمه ، لكنه لا يجدها سوى ملفوفة بضباب الغياب الازلي ، الغياب الذي لا تقشعه عناقات عابرة ، و نظرات جافة ، " كم فتشت عنها ، لكني لم أرَ سوى حشرات تتدفق من الجدران " ، هذه الرؤيا اللاعضوية ، نظرة بصيرة ، تخترق نخاع الحقيقة المزيفة ، أمومة قاحلة إن تحدث عنها سد فمه بحجارة لا يقوى على إبعادها ، تسد فمه الأحكام الدينية ، و الأعراف الجاثمة فوق الجميع ، فلا يسمعه أحد إن صرخ ، لا يمسك أحد يديه الملتاعة من غرق أبدي ، و يحال هذا الوجع لإدعاء يلبسه العقل الجمعي لسعدي أو لغيره ، و يمدون أصابع الاتهام كاسياخ جمرية تخترق عينيه ، و لا يطالعونه وهو ينتحب " يعتريني الفزع ، فاجري مذعورا ناحية الشجرة " ، و رغم معرفته الراسخة بوجودها في البيت ، لكنه يبقى " واقفا خارج البيت اسمع كلاما غامضا يتدفق عبر الباب المغلق "كّان الأزقة الكافكوية
سعدي عباس العبد أنموذجا ،هذه هي الوحدة التي حاكت ملامح سعدي و كافكا ، العزلة الإختيارية / القسرية في عالمٍ هو عبارة عن منفى صخم ، يقول كافكا " عليّ أن أظل وحيدا قدرا كبيرا . وكل ما أنجزته هو ثمرة كوني وحيداً " ، يقطن سعدي وقوفه خارج بيت أهله ، الخارج الذي إلتهمه و بقي في مفترق طرق ، لا يذهب الى الخارج ، و لايعود الى الداخل ، يقطن الطرد من كل الجهات ، يسكن الأزقة الكافكوية .
رحم الله أبا وائل ، هل سنجد دار نشر تطبع الكتب النوعية و لا تفكر بالارباح لتطبع لنا ما كتبه ؟