" خلّيها ترسي على بَرّ ! " لطالما سمعناها ونسمعها، كما قرأناها ونقرأها. ماالذي يخيفنا من الماء: النهر، البحر، المحيط؟ هل نحتكم إلى أسطورة أصلنا الترابية وتداعياتها تاريخياً ؟
كيف قيّض لهذا البر أن ينفذ بمأثوره السلطوي إلى داخلنا عميقاً، ويقطّع فينا ما يؤبّد إمضاءته؟
أتحدث هنا ككائن بري غالباً ولا مفر منه: لا مفر من ترابيتي التي أسندتُ إليها أو أُحكِمتُ بها بقرار أو إقرار ما وأثقِل بالوصايا. عن طبيعة العلاقات القائمة والمتفاوتة بين كل من البر والماء، عن خطوط التماس والتحرك والتباين عملياً بين العنصرين، في المفعّل اللغوي، والماء- تحديداً- ليس ما نشربه، إنما ما نمخر عبابه، ويحملنا بين طياته، ويحمّلنا صفة المغامرة !
البحر بالطريقة هذه عمق غائر ومتنوع، وسطح متموج، أملس، صاعد وهابط، هائج وهادىء، طيّع ومشاكس، مألوف ومباغت، هش ومهيب، ولا بد أن السرد الذي ينظَر في أمر مفهومه يرتد إلى هذه اللائحة من الصفات، حين يتوخى منه ما هو جديد، ما يتطلب يقظة متجددة.
لكن الإنسان، وفي مجتمعاتنا كثيراً ما يشدّد على نسبه البرّي، حتى بالمفهوم الديني: من تراب.
البر أكثر تماسكاً وصلابة، ويعرَف بالجمود، والقدرة على التحرك فيه بيسر أكثر طبعاً.
لكأن روح المغامرة والموهوبة له، محكومة بروح مطروحة في محمية بزمانها الرتيب!
أن تنام، أن تخلد إلى الراحة، أن تتقاعد في الوظيفة انتظاراً لموت لا مهرب منه، أن تعيش شروداً، هو أن ترخي جسدك، ويتكفل لك بالباقي، كما لو أنك بذلك تنظر زوالاً لك، وذلك في النهاية المحتومة، أي تبصم بالعشرة طواعية على ما ترفضه: موتك وأنت طالب حياة .
في عبارة " خلّيها ترسي على بر "، ينبري الماء بعمقه المهيب وامتداده الرهيب وعجائب أحواله وأهواله التي تترى، ليكون لنا سرد من نوع آخر يلغي الفواصل أو علامات الترقيم، لأن المسألة تتوقف على التحدي المفتوح، على اكتساب عمر إضافي جهة التنبه إلى أي طارىء.
يشكّل البحر، بمفهومه الواسع، مجمل ما يمكن أن يضيء به عالم القول: قولنا، وبنية الذات !
إنه الماضي الذي يحدد العمق الدرامي للشخص، وطبيعته، بمقدار ما أنه يسمّي مدى الرابطة بينه وآتيه، فالسرد يلغي الأبوة واقعاً، إنه يُسمَّى بمن يتمثله، وهنا يكون الفارق الكبير بين يحتمي بسرد يبعث على التثاؤب، ومن يعيش خارج شرنقة الزمن اللزجة، ويتنفس هواء : البحر .
البر للمعارك، حيث تختلط الأسماء والدماء، لكن البحر لتأكيد الذوات ومفصليتها، وإذا كان من شأن السرد أن يثبت أبوة برّية، فإن البحر قبل غيره يثبت طابعاً ملحمياً أمومياً، البر ولادة، والبحر مخاضها، والبر استعداد للهجوم، والبحر مران وتدريب. والبر صدى والبحر مدى .
بعيداً عن الصياغة الشعرية اليومية لما نحن بصدده، لا يبدو لي أننا تمكنّا من إقامة علاقة سوية بالسرد وبما يكون عليه في عمقه، ففي كل الإحالات المرجعية، وطريقة الكلام، إنما نحاول أن نثبت جدارتنا بما هو بحري، أن ننوع في الكلام، رغم وحدته، أن نفكهه رغم أحاديته، ذلك عائد إلى فضيلة بحرية، والبحر معلّم الكثرة، سوى أن البر محصور، لأن ثمة تفسيراً لا يخفي نسبه البري في المنطلق والمختتم، سوى أن تأويلاً يقدِم من ناحية البحر وكيف يشكّل أفضل مثال على كروية الأرض ودورانها الكوكبي، على فاعلية الجاذبية، وما يقدِم عليه السرد هو خيانة للقسم الأكبر من مساحة الأرض: الماء، إنها الخيانة التي تري كيف جرى الاستخاف بالتوزعات المائية واستقداماتها الرمزية: العيون، الأنهار، البحيرات، البحار والمحيطات.
وربما أمكن القول، أننا في أفضل الأحوال لا نخفي فضيلة مائية من خلال احتوائنا بما هو غابي مطارَد، تأكيداً على أننا مبرّأون منه، دون أن نفلح في تلقّي الدرس الغابي العظيم، لأن الغابة بمرجعيتها المائية متاخمة للبحر، لما هو مائي، فأي سرد مستهجن فعَّل فينا غباء ممدوحاً ؟
إن العين: العين البشرية، وعين من نحب لحظة التغزل بها، يندر وجود من شبَّهها بالبر فهذا ذو سطح كتيم، متحجر، أو ينفَذ فيه بسهولة، إنما بالبحر. البحر يشدنا إليه لأنه متحرك داخلنا بطابعه المائي، تأكيد رغبتنا فيه من حيث لا ندري أو كوننا نجهل وشائج القربى هذه .
في السياق نفسه، إن الاستمرار في عملية تشبيه عين المحبوبة بـ" عيون المها- البقر الوحشي " وفي الحالة الأولى خاصة، يقودنا إلى عالم البادية، أو الصحراء، إلى الاقتناص، أو المطاردة، وما في ذلك من عنف المتشكّل، فثمة حيوان يمثُل أمامنا من خلال معيش حياتي يتملكنا بالكثير مما يعنيه، بينما في الإحالة إلى الماء، ينتفي الحيواني الخاص لصالح المائي العام ومدده القيمي.
البر اختتام، لكن البحر تنقُّل في جنبات الحياة، وثمة إضافات مستمرة، ومجال للشعور بأبدية يتضمنها الماء. وربما كان هذا التجاوب مع السرد في جهات برّية: الأماكن التي نتكلم فيها، أو نقرأ عن تجارب بعضنا بعضاً أو عن تجربتنا الذاتية، تعبيراً أشد سفوراً عن كوننا ميالون إلى الإقامة وليس التحرك الترحالي، وما عهدناه في السرد ليس أكثر من اختزال الكوكبي الجزئي، من كوننا أوجزناه إلى حد مريع بما هو برّي، لكن صفة البرّي لا تلغي المائي/ البحري إطلاقاً.
إن انسيابية الكلام لا تمتُّ بصلة إلى الشعر بحيويته، وإنما إلى هرمه، لأن الانسيابية دخول في دار العجزة في بنيتها الدقيقة، حيث الكلام مدرَك بداية ونهاية، إن أصل الكلام هو بحريته، هو أنه يتضمن عمقاً يحفّز على المغامرة الدائمة، وهذه تتطلب جهوزية متجددة، ومقدرة لا تنفك توسّع في مبناها ومعناها. مثال ذلك، في الحكاية الأكثر تمثلاً لما هو سردي برّي، ثمة استرخاء في قلب الزمان، لكنه الزمان الذي تتقلص دائرته، الزمان الحسابي، إلا أن الزمان الحركي هو ذاك الذي يقع خلفنا حيث تسمينا مغامراتنا وتلك القوى التي تصحو معنا بحرياً، ولا يعود السرد الجدير بحمل أسمائه اللامحدودة، ذاك الذي يعاقر صداه، وإنما يستحضر حقيقته التي تتعدى رقعة الإصغاء بالذات، عندما تكثر الآذان، وثمة كلام معهود به حكائياً إلى شخص منسلخ عن بدعة الحياة، لأنه لا يقول إلا ما قاله غيره، أي ما يشهد على نعي الكلام الفعلي، والسرد الفعلي ذاك الذي يربطه بما هو مائي وتحولاته، ليكون الكلام نفسه هنا حفّار قبرنا المقدام والساخر.
انظروا بالمقابل كيف أن حضورنا اللحمي وهو بستره الجلدي ومسنده العظمي، وهو في منبته يتكلم لغة البر، لا يتنكر لخطورة حركية الدم، الدم بأوكسجينه، ونسبته في الجسم، كيف أننا نلوذ بالدم ونحرص على سلامته، لأنه ضمان أمننا، وخاتم حياتنا، والدم في أصله مائي بداهة، وكل ذلك يفرض على السارد ما يتطلبه سريان فعل الدم فينا من دقة وتنبّه إلى الخفي المعني بنا !
وأن نحفر بدأب في البر بحثاً عن الماء، فإنما هو أن نقيم صلات مع ما هو بحري، مع ما هو ملغز، أو باعث على التحليق بالمخيال الروحي، بحيث تختفي السماء ذاتها داخلاً، كما لو أن ثمة قوى في لحظة ما تستفزنا لكي نستعيد أصولاً لنا تجاهلناها، هي نحنـ:ـوها ، فلا يعود هناك من خيط ناظم، إنما خيوط متقطعة، ليست من النوع نفسه، وليدة قدراتنا الإبداعية والنفسية.
من المؤسف جداً وإلى حد كبير، أننا نمدح دفننا في التراب/ اليابسة، وما في ذلك من استسلام لمبدأ التصفية الذاتية لكل شيء، وكأن سردنا المتبقي هو ما كناه وليس ما فشلنا في تحقيقه. وحده الذي يربط بره ببحره، باللاتناهي، في مقدوره أن يطرح في وضعية نِزال قائمة في الحياة الحقة قائمة أسمائه، أسماء تقلق قواعد العرف الإلهية ذاتها من جهة زاعمي تنصيبها وتمثيلها.
ذلك ينوّه إلى حضور التقليد الطاغي فينا، بمفهومه البرّي المعلوم، والبر ينمّي تقليداً، سوى أن المائي/ البحري يُسمّي تجديداً، كما هو الدرس العظيم للماء، وربما كان هذا الإخلال بما هو كوكبي ترجمة لافتة ورهيبة لهذا الإجراء المخل بوحدة ما يكوّننا ويعلّمنا بنسبنا الكوكبي: الأرضي، حيث حضور المائي متنحى لصالح هيمنة البرّي بامتياز .
أتراني أخفقت في تقريب المعنى المحفّز من الأذهان، وتشريق الصورة كما ينبغي؟ ربما يحدث هذا، وقد يكون مسوّغي أن طغيان البرّي هو الذي أحال دون بروز المائي وسلطته المفخَّمة !
ملاحظة: ربما يُذكّر المثار في هذا المقال المفتوح بمقالي المنشور " لماذا يخاف العربُ الماءَ ؟ " بتاريخ " 29-5/ 2018 " في الموقع نفسه، لكن السياق مختلف، فهنا ليس من تحديد، وإن كان هناك ما يشير إلى المأخوذين بما هو برّي، إلا أنهم يتعدّون التجنيس الحرفي .
كيف قيّض لهذا البر أن ينفذ بمأثوره السلطوي إلى داخلنا عميقاً، ويقطّع فينا ما يؤبّد إمضاءته؟
أتحدث هنا ككائن بري غالباً ولا مفر منه: لا مفر من ترابيتي التي أسندتُ إليها أو أُحكِمتُ بها بقرار أو إقرار ما وأثقِل بالوصايا. عن طبيعة العلاقات القائمة والمتفاوتة بين كل من البر والماء، عن خطوط التماس والتحرك والتباين عملياً بين العنصرين، في المفعّل اللغوي، والماء- تحديداً- ليس ما نشربه، إنما ما نمخر عبابه، ويحملنا بين طياته، ويحمّلنا صفة المغامرة !
البحر بالطريقة هذه عمق غائر ومتنوع، وسطح متموج، أملس، صاعد وهابط، هائج وهادىء، طيّع ومشاكس، مألوف ومباغت، هش ومهيب، ولا بد أن السرد الذي ينظَر في أمر مفهومه يرتد إلى هذه اللائحة من الصفات، حين يتوخى منه ما هو جديد، ما يتطلب يقظة متجددة.
لكن الإنسان، وفي مجتمعاتنا كثيراً ما يشدّد على نسبه البرّي، حتى بالمفهوم الديني: من تراب.
البر أكثر تماسكاً وصلابة، ويعرَف بالجمود، والقدرة على التحرك فيه بيسر أكثر طبعاً.
لكأن روح المغامرة والموهوبة له، محكومة بروح مطروحة في محمية بزمانها الرتيب!
أن تنام، أن تخلد إلى الراحة، أن تتقاعد في الوظيفة انتظاراً لموت لا مهرب منه، أن تعيش شروداً، هو أن ترخي جسدك، ويتكفل لك بالباقي، كما لو أنك بذلك تنظر زوالاً لك، وذلك في النهاية المحتومة، أي تبصم بالعشرة طواعية على ما ترفضه: موتك وأنت طالب حياة .
في عبارة " خلّيها ترسي على بر "، ينبري الماء بعمقه المهيب وامتداده الرهيب وعجائب أحواله وأهواله التي تترى، ليكون لنا سرد من نوع آخر يلغي الفواصل أو علامات الترقيم، لأن المسألة تتوقف على التحدي المفتوح، على اكتساب عمر إضافي جهة التنبه إلى أي طارىء.
يشكّل البحر، بمفهومه الواسع، مجمل ما يمكن أن يضيء به عالم القول: قولنا، وبنية الذات !
إنه الماضي الذي يحدد العمق الدرامي للشخص، وطبيعته، بمقدار ما أنه يسمّي مدى الرابطة بينه وآتيه، فالسرد يلغي الأبوة واقعاً، إنه يُسمَّى بمن يتمثله، وهنا يكون الفارق الكبير بين يحتمي بسرد يبعث على التثاؤب، ومن يعيش خارج شرنقة الزمن اللزجة، ويتنفس هواء : البحر .
البر للمعارك، حيث تختلط الأسماء والدماء، لكن البحر لتأكيد الذوات ومفصليتها، وإذا كان من شأن السرد أن يثبت أبوة برّية، فإن البحر قبل غيره يثبت طابعاً ملحمياً أمومياً، البر ولادة، والبحر مخاضها، والبر استعداد للهجوم، والبحر مران وتدريب. والبر صدى والبحر مدى .
بعيداً عن الصياغة الشعرية اليومية لما نحن بصدده، لا يبدو لي أننا تمكنّا من إقامة علاقة سوية بالسرد وبما يكون عليه في عمقه، ففي كل الإحالات المرجعية، وطريقة الكلام، إنما نحاول أن نثبت جدارتنا بما هو بحري، أن ننوع في الكلام، رغم وحدته، أن نفكهه رغم أحاديته، ذلك عائد إلى فضيلة بحرية، والبحر معلّم الكثرة، سوى أن البر محصور، لأن ثمة تفسيراً لا يخفي نسبه البري في المنطلق والمختتم، سوى أن تأويلاً يقدِم من ناحية البحر وكيف يشكّل أفضل مثال على كروية الأرض ودورانها الكوكبي، على فاعلية الجاذبية، وما يقدِم عليه السرد هو خيانة للقسم الأكبر من مساحة الأرض: الماء، إنها الخيانة التي تري كيف جرى الاستخاف بالتوزعات المائية واستقداماتها الرمزية: العيون، الأنهار، البحيرات، البحار والمحيطات.
وربما أمكن القول، أننا في أفضل الأحوال لا نخفي فضيلة مائية من خلال احتوائنا بما هو غابي مطارَد، تأكيداً على أننا مبرّأون منه، دون أن نفلح في تلقّي الدرس الغابي العظيم، لأن الغابة بمرجعيتها المائية متاخمة للبحر، لما هو مائي، فأي سرد مستهجن فعَّل فينا غباء ممدوحاً ؟
إن العين: العين البشرية، وعين من نحب لحظة التغزل بها، يندر وجود من شبَّهها بالبر فهذا ذو سطح كتيم، متحجر، أو ينفَذ فيه بسهولة، إنما بالبحر. البحر يشدنا إليه لأنه متحرك داخلنا بطابعه المائي، تأكيد رغبتنا فيه من حيث لا ندري أو كوننا نجهل وشائج القربى هذه .
في السياق نفسه، إن الاستمرار في عملية تشبيه عين المحبوبة بـ" عيون المها- البقر الوحشي " وفي الحالة الأولى خاصة، يقودنا إلى عالم البادية، أو الصحراء، إلى الاقتناص، أو المطاردة، وما في ذلك من عنف المتشكّل، فثمة حيوان يمثُل أمامنا من خلال معيش حياتي يتملكنا بالكثير مما يعنيه، بينما في الإحالة إلى الماء، ينتفي الحيواني الخاص لصالح المائي العام ومدده القيمي.
البر اختتام، لكن البحر تنقُّل في جنبات الحياة، وثمة إضافات مستمرة، ومجال للشعور بأبدية يتضمنها الماء. وربما كان هذا التجاوب مع السرد في جهات برّية: الأماكن التي نتكلم فيها، أو نقرأ عن تجارب بعضنا بعضاً أو عن تجربتنا الذاتية، تعبيراً أشد سفوراً عن كوننا ميالون إلى الإقامة وليس التحرك الترحالي، وما عهدناه في السرد ليس أكثر من اختزال الكوكبي الجزئي، من كوننا أوجزناه إلى حد مريع بما هو برّي، لكن صفة البرّي لا تلغي المائي/ البحري إطلاقاً.
إن انسيابية الكلام لا تمتُّ بصلة إلى الشعر بحيويته، وإنما إلى هرمه، لأن الانسيابية دخول في دار العجزة في بنيتها الدقيقة، حيث الكلام مدرَك بداية ونهاية، إن أصل الكلام هو بحريته، هو أنه يتضمن عمقاً يحفّز على المغامرة الدائمة، وهذه تتطلب جهوزية متجددة، ومقدرة لا تنفك توسّع في مبناها ومعناها. مثال ذلك، في الحكاية الأكثر تمثلاً لما هو سردي برّي، ثمة استرخاء في قلب الزمان، لكنه الزمان الذي تتقلص دائرته، الزمان الحسابي، إلا أن الزمان الحركي هو ذاك الذي يقع خلفنا حيث تسمينا مغامراتنا وتلك القوى التي تصحو معنا بحرياً، ولا يعود السرد الجدير بحمل أسمائه اللامحدودة، ذاك الذي يعاقر صداه، وإنما يستحضر حقيقته التي تتعدى رقعة الإصغاء بالذات، عندما تكثر الآذان، وثمة كلام معهود به حكائياً إلى شخص منسلخ عن بدعة الحياة، لأنه لا يقول إلا ما قاله غيره، أي ما يشهد على نعي الكلام الفعلي، والسرد الفعلي ذاك الذي يربطه بما هو مائي وتحولاته، ليكون الكلام نفسه هنا حفّار قبرنا المقدام والساخر.
انظروا بالمقابل كيف أن حضورنا اللحمي وهو بستره الجلدي ومسنده العظمي، وهو في منبته يتكلم لغة البر، لا يتنكر لخطورة حركية الدم، الدم بأوكسجينه، ونسبته في الجسم، كيف أننا نلوذ بالدم ونحرص على سلامته، لأنه ضمان أمننا، وخاتم حياتنا، والدم في أصله مائي بداهة، وكل ذلك يفرض على السارد ما يتطلبه سريان فعل الدم فينا من دقة وتنبّه إلى الخفي المعني بنا !
وأن نحفر بدأب في البر بحثاً عن الماء، فإنما هو أن نقيم صلات مع ما هو بحري، مع ما هو ملغز، أو باعث على التحليق بالمخيال الروحي، بحيث تختفي السماء ذاتها داخلاً، كما لو أن ثمة قوى في لحظة ما تستفزنا لكي نستعيد أصولاً لنا تجاهلناها، هي نحنـ:ـوها ، فلا يعود هناك من خيط ناظم، إنما خيوط متقطعة، ليست من النوع نفسه، وليدة قدراتنا الإبداعية والنفسية.
من المؤسف جداً وإلى حد كبير، أننا نمدح دفننا في التراب/ اليابسة، وما في ذلك من استسلام لمبدأ التصفية الذاتية لكل شيء، وكأن سردنا المتبقي هو ما كناه وليس ما فشلنا في تحقيقه. وحده الذي يربط بره ببحره، باللاتناهي، في مقدوره أن يطرح في وضعية نِزال قائمة في الحياة الحقة قائمة أسمائه، أسماء تقلق قواعد العرف الإلهية ذاتها من جهة زاعمي تنصيبها وتمثيلها.
ذلك ينوّه إلى حضور التقليد الطاغي فينا، بمفهومه البرّي المعلوم، والبر ينمّي تقليداً، سوى أن المائي/ البحري يُسمّي تجديداً، كما هو الدرس العظيم للماء، وربما كان هذا الإخلال بما هو كوكبي ترجمة لافتة ورهيبة لهذا الإجراء المخل بوحدة ما يكوّننا ويعلّمنا بنسبنا الكوكبي: الأرضي، حيث حضور المائي متنحى لصالح هيمنة البرّي بامتياز .
أتراني أخفقت في تقريب المعنى المحفّز من الأذهان، وتشريق الصورة كما ينبغي؟ ربما يحدث هذا، وقد يكون مسوّغي أن طغيان البرّي هو الذي أحال دون بروز المائي وسلطته المفخَّمة !
ملاحظة: ربما يُذكّر المثار في هذا المقال المفتوح بمقالي المنشور " لماذا يخاف العربُ الماءَ ؟ " بتاريخ " 29-5/ 2018 " في الموقع نفسه، لكن السياق مختلف، فهنا ليس من تحديد، وإن كان هناك ما يشير إلى المأخوذين بما هو برّي، إلا أنهم يتعدّون التجنيس الحرفي .