ما أكثر ما نشير إلى الحقيقة: نريد الحقيقة، مبتغانا الحقيقة، تهمنا الحقيقة، قل الحقيقة، في الحقيقة، حقيقة الأمر، هذه هي الحقيقة كاملة...كما لو أننا بمجرد التفوه بها ننسّب أنفسنا إلى خانة الصدق ليس إلا، دون أن ندقّق في موضوع غاية في الأهمية، وهو أننا بامتداد تاريخنا البشري، وفيما نتفوه أو نتغنى به، لا نستهدف إلا ما يبقينا من سلالة الكذب وليس حماة الحقيقة .
ففي الحقيقة ثمة الصدق والكذب، ولكن الكذب هو الذي يتقدم عليه. حتى في الشعر، مهما اُختلِف في أمره، منحناه المكانة الأولى: أعذب الشعر أكذبه. أيكون الشعر وحده مستفرداً بإرادة الكذب النافذة دون النثر؟ منذ متى كان النثر من نوع: أعذب النثر أصدقه ؟
لو أننا أجرينا مسحاً تاريخياً وأرشفياً لما هو مقروء ومقرَّر من نصوص فقهية وقانونية ومن ثم دستورية ونوعيتها بالمقابل، وتلك البارعة في بناء القول المختلف، حتى بالنسبة إلى النصوص التي تحال على ما هو إبداعي، فإن اليد الطولى تكون للنثر وليس للشعر. فلماذا جرى ويجري حشر الشعر في نطاق " الغواية " والنثر في فضاء " الدراية "؟
أليس لأننا نريد طمأنة أنفسنا على أن هناك ما يفي بالغرض جهة الاحتماء بالشعر والتفنن فيه، رغم أن ذلك يصدمنا بالكثير من الإشكالات في هذا التحديد تاريخياً، لأن الشعر كان ذات يوم هو الذاكرة الوجودية والمصيرية لجماعات مختلفة، بالرغم من وجود خلل في هذا المتقدَّم به لحظة السؤال: كيف أمكن للبشر أن يكونوا شعراء بداية؟ أم كانوا يقولون نثراً، ليأتي الشعر لاحقاً، أي ما يجعل النثر أصل الشعر وإلى يومنا هذا؟
في هذا المنحى ثمة الكثير الممكن قوله، جهة معايشتنا لهذا المبتدع الجميل وهو قار فينا: الكذب!
مكتباتنا، مطابعنا، مؤسساتنا الثقافية، منظمات " المجتمع المدني "، جامعاتنا، نقاباتنا، جمعياتنا المختلفة في أنشطتها، على مستوى المحرّك الاعتباري تتنافس فيما بينها، لتكون كل منها أكثر قابلية لـ" مكيجة " أكاذيبها، أي للتلاعب بالألفاظ " وهل من نص " دون تحديد "، من خطاب يخلو من هذه الدمغة المعدية؟
إن أي تحليل لأي خطاب سياسي، ديني، ثقافي، وتربوي...الخ، لحظة تحرّي العلاقات القائمة بين مكوناته، لتبين الحجم الكبير والرائحة النفاذة والمخرشة للكذب، ففي كل منها ثمة رهان على الإقناع، وهذا موصول بالقناع، وهذا يزيّن الكذب بالذات .
وعلى هذا المنوال أيضاً، ألسنا نعتبر العري وضعية براءة، ثم نلجأ إلى اللباس لنغطي عرينا، لكننا نتغنى بالعري، وكل ما يثيرنا هو العري، ونحن نتوسل اللباس للكشف عنه؟ أكثر من ذلك، ما ينطوي عليه قول أحدهم للآخر: سوف أعرّيك، من تشديد على موقعة الكذب فينا وأوجه التناقض التي تستبطن تصوراتنا وتأليفاتنا، إذ يكون العري مرغوباً ومرفوضاً.
وحتى بالنسبة للغة، فهي في جملتها لا تعدو أن تكون نسج أكاذيب متفق عليها، لإدارة شئوننا الحياتية، لحظة اعتقادنا أننا من خلالها نعرّف بما نريد، أعني بذلك أكثر أن الأسماء التي تعني الأشياء، هي خاصيتها، لكن ذلك مجرد وهم استعذبناه، والكذب وهم لا أكثر من حالات تبنيه!
فحوى الكلام، أن البشرية في تاريخها الطويل لا تتحرك بمقتضيات الحقيقة، لأن الحقيقة لم تكن يوماً ما يمكن وضع اليد عليه والقول: هي ذي الحقيقة، إنما ما يتقدم بالكذب وتمليحه، أو بهرجته، أو " تتبيله " بأساليب تربّي عقولاً بالجملة لتتلبسها، كما لو أن استمرارية البشرية تقوم على كيفية الكذب للسير في طريق الحقيقة، ولا بد، أو هكذا يبدو لي ، أن الذين لا ينفكّون يتحدثون عن البداية الأولى للإنسان، إنما يسوّغون وجوداً للكذب، ليستمروا في البقاء، وكأن لحظة اكتشاف " الحقيقة " تعني أن كل شيء قد انتهى !
وربما أمكن النظر في بنية علاقاتنا المجتمعية، وعلى المستوى الدبلوماسي بين الدول، حينها يتبين للمعني ما هو مهوّل ومريع أي ما يجعل الكذب المحرك الرئيس لكل ما يشغلنا، وهو أن المجتمع البشري عموماً، بغض النظر عن التفاوتات القائمة بين الواحد والآخر، عماده الرئيس: التنافر وليس التضافر، التباعد وليس التقارب، التفكك وليس الترابط أو التلاحم، وبالتالي، فإن جوهر العقود الاجتماعية " اقرأوا مثلاً: العقد الاجتماعي لروسو "، هو في كيفية تجميل الكذب بالذات: كيف يمكن لكل منا التنازل عن بعض من حريته، ليكون هناك رصيد اجتماعي، ومن هنا تبدأ مسألة الحقوق والواجبات، وتتدخل السلطات المختلفة... ولكنه التنازل عن بعض من العنف ليكون هناك مجموع عنف هو جماع المأخوذين به، لتتشكل مسألة حسابية انزلاقية، وهي أن الرصيد المتشكل والمحمي يصبح متصرَّفاً به من قبل أولي الأمر، وهذا يمنحه الغلبة أو الهيمنة على مفاصل الحياة والمصائر المجتمعية، أي يوجَّه عنف مشرعن ضد عنف قائم في الأصل، ولكنه العنف الذي يبقي سخونة العلاقة البينية قائمة، والعنف ثمرة الكذب التي يدعى لها هنا وهناك، والناس وهي تتخاطب فيما بينها، والدول وهي تقيم علاقات جانبية، إنما تنطلق من العقد الآنف الذكر، وهو ممهور بالعنف، وكيفية توليد القوة الضاغطة منه.
نعم، هناك الصدق، ولكنه القناع المتقدم للكذب في بنيته.
في السياق نفسه، لا أدري كيف تعرَّب الجنسانية بميسمها الاعتباري/ القيمي، عندما تردَّد عن أن الكذب ملح الرجال، أيعني ذلك أن الكذب سكّر للنساء ؟
تُرى ما الذي يحفّزنا على أغنية كهذه :
حلوة وكذابي يا أغلى حبابي
والأكذب منك حضرة جنابي ؟
ما الذي يستعذب أغنية كهذه في النفوس سوى جاذبية الكذب والاحتماء/ الاستقواء بها ؟
إنها تداخلات مبان القول ومعانيه، وربما في ضوء ما تقدم، جاز التنويه إلى ذلك التنافس بين كل من التفسير والتأويل: التفسير مسألة حسابية، بينما التأويل فمسألة رياضية، سوى أننا في الحالتين نتحرك في محمية الرياضيات، حتى لو انبرى آينشتاين نفسه، لأنها وإن برزت تجريداً فإنها لا تخرج عن كونها تمثّلنا، أي ما يبقي الكذب فاعلاً في هذه المؤثرات.
أي ما يمكننا من اعتبار أن تاريخنا هو تاريخ الكذب، وكل محاولة ما لنا هي في كيفية الانتقال من كشف ينكشف أمره إلى آخر يتطلب هو الآخروقتاً لتنفد صلاحيته، كيف أننا لا نستغني ولو لثانية واحدة عنه في حلنا وترحالنا. إنه معلّمنا من حيث لا ندري، وهذا يضفي عليه بُعداً جمالياً إلى أبعد الحدود، أي ما يجعل من علم الجمال كيفية الترغيب فيه وبأسماء أخرى .
ولعل الذين يشددون على دور الفلسفات الكبرى، والآداب والعلوم في تهذيب النفوس، ينسون أو يخاتلون أنفسهم " يكذبون عليها " عندما يعتبرونها عاملة في خدمة الصدق، ولكنها بدورها على مستوى القيم الداخلة فيها تستمد أصولها من مأثرة الكذب، وهي تقوم على التجاذب الضدي، أي إحداث شرخ في كل مفهوم تراهن عليه، فهي لم تكن- يوماً- شمولية، إلا بمقدار ما تزعم أنها افتدائية، متفانية، مبتغاها: الصدق،دون أن تدخر جهداً في تسفيه ما عداها.
من ذلك الحديث المطنب عن المطلق في الحقيقة، وعن الأبدية والسرمدية، وتلك الذرائع التي تقدَّم لتأكيد ذلك، وما هذه المساعي من عري فاضح، وهو أن ليس في وسع أي كان ودون أي استثناء أن يعطي ولو صورة موجزة دون تطعيمها بجرعة كذب معينة عن هذه الأبدية، مثلاً. إذ من أين جيء بهذا اليقين؟ أي قوة استبصارية للمتحدث هنا تبقيه رجل الصدق الكذب ؟
إنه الكذب نفسه، ذلك الذي يفلح لبعض الوقت، في زمان ومكان معينين، وهو يقدّم وصفة ما تكون جديدة، كما هو اللباس وطرق خياطته وموضاته. هكذا هو الكذب بعروضه المفخَّمة !
ربما كانت العلوم أقلها تحركاً على هذا السطح الزلق، لأنها تتعامل مع ظواهر، ووقائع مادية، لكنها من فرط يقينها بأنها تعمل بحياد، وتنتهي إلى نتائج تعتبرها حقائق، تقع في المحظور، لتقدّم مادة ثمينة لتلك النصوص الفقهية، الأدبية، الفكرية، النقدية والفلسفية وهي تتطفل عليها، أو تقيم معها علاقات بروتوكولية لا تعدو أن تكون شراكة ثمرة في إدارة فن الكذب إجمالاً .
في أحاديث العشاق وكلماتهم الخلَّبية في الجوهر، في الوعود المقدّمة من قبل ساسة الدول والداخلين في الصراعات السياسية إلى جماعاتها أو شعوبها، في المسار التعبوي لمن يجيش نفوساً في المكان الديني والساحات، ما يقوله الزوج لزوجته عن أنها الوحيدة في قلبه...الخ، في كل ذلك إبرام صفقات مقدَّرة من داخل الكذب وباسمه أي بوصفه العراب الأكبر والمحبوب الأكثر أهلية للتعاطي معه، حيث أغلبية النتائج تعِدُنا بالكارثي.
إبراهيم محمود
ففي الحقيقة ثمة الصدق والكذب، ولكن الكذب هو الذي يتقدم عليه. حتى في الشعر، مهما اُختلِف في أمره، منحناه المكانة الأولى: أعذب الشعر أكذبه. أيكون الشعر وحده مستفرداً بإرادة الكذب النافذة دون النثر؟ منذ متى كان النثر من نوع: أعذب النثر أصدقه ؟
لو أننا أجرينا مسحاً تاريخياً وأرشفياً لما هو مقروء ومقرَّر من نصوص فقهية وقانونية ومن ثم دستورية ونوعيتها بالمقابل، وتلك البارعة في بناء القول المختلف، حتى بالنسبة إلى النصوص التي تحال على ما هو إبداعي، فإن اليد الطولى تكون للنثر وليس للشعر. فلماذا جرى ويجري حشر الشعر في نطاق " الغواية " والنثر في فضاء " الدراية "؟
أليس لأننا نريد طمأنة أنفسنا على أن هناك ما يفي بالغرض جهة الاحتماء بالشعر والتفنن فيه، رغم أن ذلك يصدمنا بالكثير من الإشكالات في هذا التحديد تاريخياً، لأن الشعر كان ذات يوم هو الذاكرة الوجودية والمصيرية لجماعات مختلفة، بالرغم من وجود خلل في هذا المتقدَّم به لحظة السؤال: كيف أمكن للبشر أن يكونوا شعراء بداية؟ أم كانوا يقولون نثراً، ليأتي الشعر لاحقاً، أي ما يجعل النثر أصل الشعر وإلى يومنا هذا؟
في هذا المنحى ثمة الكثير الممكن قوله، جهة معايشتنا لهذا المبتدع الجميل وهو قار فينا: الكذب!
مكتباتنا، مطابعنا، مؤسساتنا الثقافية، منظمات " المجتمع المدني "، جامعاتنا، نقاباتنا، جمعياتنا المختلفة في أنشطتها، على مستوى المحرّك الاعتباري تتنافس فيما بينها، لتكون كل منها أكثر قابلية لـ" مكيجة " أكاذيبها، أي للتلاعب بالألفاظ " وهل من نص " دون تحديد "، من خطاب يخلو من هذه الدمغة المعدية؟
إن أي تحليل لأي خطاب سياسي، ديني، ثقافي، وتربوي...الخ، لحظة تحرّي العلاقات القائمة بين مكوناته، لتبين الحجم الكبير والرائحة النفاذة والمخرشة للكذب، ففي كل منها ثمة رهان على الإقناع، وهذا موصول بالقناع، وهذا يزيّن الكذب بالذات .
وعلى هذا المنوال أيضاً، ألسنا نعتبر العري وضعية براءة، ثم نلجأ إلى اللباس لنغطي عرينا، لكننا نتغنى بالعري، وكل ما يثيرنا هو العري، ونحن نتوسل اللباس للكشف عنه؟ أكثر من ذلك، ما ينطوي عليه قول أحدهم للآخر: سوف أعرّيك، من تشديد على موقعة الكذب فينا وأوجه التناقض التي تستبطن تصوراتنا وتأليفاتنا، إذ يكون العري مرغوباً ومرفوضاً.
وحتى بالنسبة للغة، فهي في جملتها لا تعدو أن تكون نسج أكاذيب متفق عليها، لإدارة شئوننا الحياتية، لحظة اعتقادنا أننا من خلالها نعرّف بما نريد، أعني بذلك أكثر أن الأسماء التي تعني الأشياء، هي خاصيتها، لكن ذلك مجرد وهم استعذبناه، والكذب وهم لا أكثر من حالات تبنيه!
فحوى الكلام، أن البشرية في تاريخها الطويل لا تتحرك بمقتضيات الحقيقة، لأن الحقيقة لم تكن يوماً ما يمكن وضع اليد عليه والقول: هي ذي الحقيقة، إنما ما يتقدم بالكذب وتمليحه، أو بهرجته، أو " تتبيله " بأساليب تربّي عقولاً بالجملة لتتلبسها، كما لو أن استمرارية البشرية تقوم على كيفية الكذب للسير في طريق الحقيقة، ولا بد، أو هكذا يبدو لي ، أن الذين لا ينفكّون يتحدثون عن البداية الأولى للإنسان، إنما يسوّغون وجوداً للكذب، ليستمروا في البقاء، وكأن لحظة اكتشاف " الحقيقة " تعني أن كل شيء قد انتهى !
وربما أمكن النظر في بنية علاقاتنا المجتمعية، وعلى المستوى الدبلوماسي بين الدول، حينها يتبين للمعني ما هو مهوّل ومريع أي ما يجعل الكذب المحرك الرئيس لكل ما يشغلنا، وهو أن المجتمع البشري عموماً، بغض النظر عن التفاوتات القائمة بين الواحد والآخر، عماده الرئيس: التنافر وليس التضافر، التباعد وليس التقارب، التفكك وليس الترابط أو التلاحم، وبالتالي، فإن جوهر العقود الاجتماعية " اقرأوا مثلاً: العقد الاجتماعي لروسو "، هو في كيفية تجميل الكذب بالذات: كيف يمكن لكل منا التنازل عن بعض من حريته، ليكون هناك رصيد اجتماعي، ومن هنا تبدأ مسألة الحقوق والواجبات، وتتدخل السلطات المختلفة... ولكنه التنازل عن بعض من العنف ليكون هناك مجموع عنف هو جماع المأخوذين به، لتتشكل مسألة حسابية انزلاقية، وهي أن الرصيد المتشكل والمحمي يصبح متصرَّفاً به من قبل أولي الأمر، وهذا يمنحه الغلبة أو الهيمنة على مفاصل الحياة والمصائر المجتمعية، أي يوجَّه عنف مشرعن ضد عنف قائم في الأصل، ولكنه العنف الذي يبقي سخونة العلاقة البينية قائمة، والعنف ثمرة الكذب التي يدعى لها هنا وهناك، والناس وهي تتخاطب فيما بينها، والدول وهي تقيم علاقات جانبية، إنما تنطلق من العقد الآنف الذكر، وهو ممهور بالعنف، وكيفية توليد القوة الضاغطة منه.
نعم، هناك الصدق، ولكنه القناع المتقدم للكذب في بنيته.
في السياق نفسه، لا أدري كيف تعرَّب الجنسانية بميسمها الاعتباري/ القيمي، عندما تردَّد عن أن الكذب ملح الرجال، أيعني ذلك أن الكذب سكّر للنساء ؟
تُرى ما الذي يحفّزنا على أغنية كهذه :
حلوة وكذابي يا أغلى حبابي
والأكذب منك حضرة جنابي ؟
ما الذي يستعذب أغنية كهذه في النفوس سوى جاذبية الكذب والاحتماء/ الاستقواء بها ؟
إنها تداخلات مبان القول ومعانيه، وربما في ضوء ما تقدم، جاز التنويه إلى ذلك التنافس بين كل من التفسير والتأويل: التفسير مسألة حسابية، بينما التأويل فمسألة رياضية، سوى أننا في الحالتين نتحرك في محمية الرياضيات، حتى لو انبرى آينشتاين نفسه، لأنها وإن برزت تجريداً فإنها لا تخرج عن كونها تمثّلنا، أي ما يبقي الكذب فاعلاً في هذه المؤثرات.
أي ما يمكننا من اعتبار أن تاريخنا هو تاريخ الكذب، وكل محاولة ما لنا هي في كيفية الانتقال من كشف ينكشف أمره إلى آخر يتطلب هو الآخروقتاً لتنفد صلاحيته، كيف أننا لا نستغني ولو لثانية واحدة عنه في حلنا وترحالنا. إنه معلّمنا من حيث لا ندري، وهذا يضفي عليه بُعداً جمالياً إلى أبعد الحدود، أي ما يجعل من علم الجمال كيفية الترغيب فيه وبأسماء أخرى .
ولعل الذين يشددون على دور الفلسفات الكبرى، والآداب والعلوم في تهذيب النفوس، ينسون أو يخاتلون أنفسهم " يكذبون عليها " عندما يعتبرونها عاملة في خدمة الصدق، ولكنها بدورها على مستوى القيم الداخلة فيها تستمد أصولها من مأثرة الكذب، وهي تقوم على التجاذب الضدي، أي إحداث شرخ في كل مفهوم تراهن عليه، فهي لم تكن- يوماً- شمولية، إلا بمقدار ما تزعم أنها افتدائية، متفانية، مبتغاها: الصدق،دون أن تدخر جهداً في تسفيه ما عداها.
من ذلك الحديث المطنب عن المطلق في الحقيقة، وعن الأبدية والسرمدية، وتلك الذرائع التي تقدَّم لتأكيد ذلك، وما هذه المساعي من عري فاضح، وهو أن ليس في وسع أي كان ودون أي استثناء أن يعطي ولو صورة موجزة دون تطعيمها بجرعة كذب معينة عن هذه الأبدية، مثلاً. إذ من أين جيء بهذا اليقين؟ أي قوة استبصارية للمتحدث هنا تبقيه رجل الصدق الكذب ؟
إنه الكذب نفسه، ذلك الذي يفلح لبعض الوقت، في زمان ومكان معينين، وهو يقدّم وصفة ما تكون جديدة، كما هو اللباس وطرق خياطته وموضاته. هكذا هو الكذب بعروضه المفخَّمة !
ربما كانت العلوم أقلها تحركاً على هذا السطح الزلق، لأنها تتعامل مع ظواهر، ووقائع مادية، لكنها من فرط يقينها بأنها تعمل بحياد، وتنتهي إلى نتائج تعتبرها حقائق، تقع في المحظور، لتقدّم مادة ثمينة لتلك النصوص الفقهية، الأدبية، الفكرية، النقدية والفلسفية وهي تتطفل عليها، أو تقيم معها علاقات بروتوكولية لا تعدو أن تكون شراكة ثمرة في إدارة فن الكذب إجمالاً .
في أحاديث العشاق وكلماتهم الخلَّبية في الجوهر، في الوعود المقدّمة من قبل ساسة الدول والداخلين في الصراعات السياسية إلى جماعاتها أو شعوبها، في المسار التعبوي لمن يجيش نفوساً في المكان الديني والساحات، ما يقوله الزوج لزوجته عن أنها الوحيدة في قلبه...الخ، في كل ذلك إبرام صفقات مقدَّرة من داخل الكذب وباسمه أي بوصفه العراب الأكبر والمحبوب الأكثر أهلية للتعاطي معه، حيث أغلبية النتائج تعِدُنا بالكارثي.
إبراهيم محمود