إبراهيم محمود - كُلُّنا يُتِرْجِم

يخطىء من يربط الترجمة بلغتين في مرجعها، ويخطىء أكثر من يمضي بالعلاقة إلى أبعد مدى ممكن اعتقاداً أو إيحاءاً منه أن هناك طرفين داخلين في صراع وتجاذب وحوار معاً.
والعنوان " كُلُّنا يُترجِم " إحالة إلى مفارق لنا، ولنا / لي عودة إلى هذه الإحالة !
لقد كانت الترجمة الأولى ولا زالت تلك التي تعنيها اللغة الواحدة، ولا بد أن تعرُّض اللغة هذه إلى متغيرات ومستجدات، وجرّاء ظهور عوامل بيئية واجتماعية وسياسية بين الفرد والآخر، بين جماعة بشرية وأخرى، وهما من أرومة واحدة، كان عاملاً فعالاً في انزياح الترجمة عن مقصدها الرئيس، الأمر الذي أخضع مفهوم " الترجمة " للائحة من التصورات والتقديرات وكذلك مجازفات الفرضيات ذاتها، بالصورة التي تزيدها غموضاً وغربة عن حقيقة أمرها.
لغة لم تكن، كانت أصوات، أصوات كانت تدرجت مع الزمن لتكتسب هيئة تصويتات عبارة عن كلمات شُدَّت إليها الأشياء في العالم الخارجي، كما هو العالم الداخلي والحيوي للإنسان .
على وقْع هذا الانشغال التخارجي بشأن الترجمة بوصفها مهارة مرتبطة بفقه العلاقة البينية، وكيفية التقابل المتعدد الدرجات بين صيرورة لغة وسيرورتها ونظيرتها اللغة الأخرى أو أكثر من واحدة، حدث شرخ كبير بين الإنسان ككلّية واحدة، وما تبدَّى له أنه كذلك، ونفسه على أنه نفي لتلك الوحدة، أي ما يعيد أسطورة " برج بابل " في مرجعيتها المتعالية، إلى العالم الداخلي للإنسان، وإقراراً عُقدياً موجهاً بإلحاق البشر بقوة تعلوهم، وتجرّدهم من كل نفوذ يسمح لهم بالتحرك في الطبيعة كما يريدون، فالمتبلبل لم يكن سوى الإنسان الواحد نفسه، والمفردة" بلْبَل " تعني نقيض أي تمكن للكلام الواضح والمقصد الواضح، أي إن البلبلة وجدت مهبطها في ذات الإنسان، وأن كل ما يمكن أن يقال في تقسيمات النفس: موسوستها، أمارتها بالسوء، مطمئنتها، إنما من حيثيات هذا النوع من الابتداع الجينالوجي لظهور البشر والكون والماورائيات.
بالتوازي، في " كُلُّنا يُترجِم " نحوّل جمع المخاطب " كلنا نترجم "، إلى ما بات معهوداً " كُلُّنا يُترجِم " أي ما يمنح الجملة استمرارية، كما لو أن ليس لنا على صعيد الفعل بالترجمة، على طريقة " كلنا يعلم " وما في ذلك من إطلاق، لكأن الفعل الدائر بصيغة " المضارع " يحرّرنا من وطأة النفس وفوبيا " المخاطبة "، بينما " يترجم " فتشير إلى ما ليس لنا صلة ما به .
إن عبارة " إشكال الإنسان على نفسه " تليدة جداً، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الإشكال ذاك من صلب عملية الترجمة ذات الإقامة داخل كينونة الإنسان، فتشظّيه هو الدمغة الرئيسة لتلك التي سمّيت بـ" البلبلة " وحكِم الإنسان دفعة واحدة بتجريده من كل علامات القوة والتوحد، كما لو أن فعل التشظي يعني حدوث شروخات في اللسان الواحد ضمن الذات الواحدة .
هل أبالغ إن قلت أن عبارة سقراط " اعرف نفسك " لم تكن إلا" اعرف كيف تترجم لنفسك بنفسك وفي نفسك "؟ إذ النفس عالم هائل التنوع لا يحاط به، وأن أول العالم يبدأ من هذا الوعي الذي يسمي رأسه ومتراسه في النفس، وأن تعدد طياتها استشراف لمنطلق لمعرفة الصحيح !
لا غرابة أننا نصادف، وبسهولة، من يعجز عن إيصال عبارة مفيدة أحياناً إلى ما يهمه أمره، وفي أمر معين، ومرد ذلك أنه عيّاء في إيجاد من يترجمه داخله بخارجه والعكس.
إنه وضع آخر للنفس: نفسنا، وهي واحدة موحدة، حيث يستحيل القول بين المتشكل في منزّلها النصي الديني: الإمارة بالسوء، الموسوسة والمطمئنة، إذ نحنـ"ـوها "، وبالمقسَّم فيها أشعلاً حرباً أبدية ضروساً بين مكوناتها المزعومة تلك، لكأن الحياة ترادف: اأمارة بالسوء والموسوسة خلاف الثالثة، وهي تحيل على الموت. أهكذا تكون حياتنا رخيصة، وبالتالي معدومة الأثر، ونحن ننتمي إلى الحياة وليس أسرى الموت الميتافيزيقي والعضوي؟
فالترجمة في بنيتها إحلال مبدأ السلام في ذات النفس، وتحفيز علاقات التسامح ومن ثم التنوير بين هاتيك العلاقات وقواها، ليكون الطريق معبَّداً، سالكاً في الاتجاهات كافة بين أي قوى وأخرى على مستوى التفاعل مع أي مستجد، ودون تفعيل هذه الخاصية يكون الأساس هشاً، والترجمة الحد الأقصى من إحلال مبدأ الثقة والمكاشفة، لمصلح القوى كلها نفسياً، وما من شأنه الخروج إلى العالم، وجعل العالم مضاء ومحمولاً بما تمكنت من إنجازه " ترجمياً " هنا .
ذلك أن حدث الترجمة هو الأخطر والأقدم في حياتنا،وربما كان أخطر من هذا الأخطر نفسه، هو حصْرنا الترجمة ببني البشر" من السهل القول بمقياس منطقي: الإنسان حيوان مترجم "، وهو إجراء سيق أبدياً، وفي الوقت الذي نجد من يحاول دراسة " لغات " الحيوان، أو اعتبار أصوات الحيوانات والأشياء في الطبيعة لغات حيّة، ليزداد ضعف الإنسان ونفيه الذاتي عما هو نفيه وعليه، ولا يعود في مقدوره " إعادة البحث عن " أصله " المفقود "، أي ما يجعل اللغة كجنس ناقصة، وما يزيد الطين بلّة هو جهل الإنسان أنه على مدار الساعة يخضع لعمليات تترى في الترجمة، ليس في عالم اليقظة فحسب، وإنما في عالم النوم وإشاراته أيضاً .
ومن المفيد والسهل بالمقابل التذكير بما نتهجاه أو نتداوله فيما بيننا، وهو أننا نتحدث عن ترجمة المشاعر، الأفكار، الأحاسيس، المشاهد المرئية، التعابير المرتسمة على الوجه...الخ، وهي الترجمة التي تتوقف في بنيتها على الطبيعة المتفردة لـ" الترجمان المحلّف " الصعب المراس والقلق في آن داخله، إذ يكون الذات والموضوع، وأن قائمة المواجع التي يعانيها ترتد إلى هذا الوضع المعقّد للترجمة التي تتوقف عليه، جهة تفهمه لما يعتمل داخله من أفكار وتصورات...
ضمناً، يمكن اعتبار الترجمة التي تقابل بين لغتين أكثر سهولة، فهي ذات طبيعة تقنية غالباً، من خلال قواعد وممارسة تعلُّم واكتساب خبرة، سوى أن الترجمة الأولى والمضمرة أولاً، لا تعدو أن تكون فنية، وتتوقف في ارتقائها وتدهور وضعها " الصحّي " على تلك العلاقات التي تقام بين المرء ونفسه، أي طرق التفاعل المستمرة، وهي معبَّدة بآليات ترجمية لا تتوقف .
أن يقيم أحدنا حواراً بينه وبين نفسه، وهو في الحالتين نفسه، أن يمنح نفسه بين الحين والآخر فرصة التناجي ومن ثم النقد المتبادل والتثاقف " ثمة حضور ملحوظ للمتصوفة في هذا المنحى، إذ هم يغوصون في أنفسهم، كما لو أن كلاً منهم مفرد بصيغة الجمع، وهم يترجمون ما يعجز سواهم عن التقرب منه فكيف بتسميته وإطلاقه في بهو التاريخ، لكنهم كثيراً ما يسهون عن البعد المكين لهم: العالم الخارجي، وهو في جوهرهم " طينيون " ! هوذا التعمق الأمثل داخلياً، أي ما يعيد لمفهوم " الترجمة " تلك العلامات الفارقة التي أقصيت عنها، وسببت لأولي أمرها وفي مستويات مختلفة كل هذا الصداع الروحي، ما انفكوا يوجّهون التهم جزافاً، وتحوير المسار خطأ وإخضاع النفس للمزيد من التقريع، وابتلاء تابعيهم بمثل هذه الأدواء، وهم يصدقونها.
أن نترجم هو أن نعيش داخلنا، ونحن نتنور من الداخل، لنكون أمناء على أنفسنا وبها، وتلك هي الخطوة الأساسية لجعل الترجمة أكثر طبيعية، وليس إنسية أو أنسنة، فثمة كائنات حية ومن ثم خلافها غير منظورة نحتويها شريكتنا فيما نتنفسه ونتكلمه، أي نعيش حمّى ترجمته .
وأحسب أن من يفلح في ترجمة ما هو عليه، أو من يكون ناجحاً في حياته يكون الأكثرموهبة، الأكثر أهلية بإعطاء دروس لا تفوَّت في فن الترجمة هذه، ومصالحة العالم بعد ذلك.
من اللغة الأولى، وبها، وهي في حكم المعدَم، يكون أول التبصُّر للترجمة: ولادة وتكوُّناً!
لأدفع بالمفهوم إلى الأمام أكثر، وهو أننا حين نترجم، لا نمارس ضبطاً للمعاني، لا نعتمد خطى تفيدنا في ملازمة الصواب جهة دقة التعبير كترجمة فاعلة واقعاً، وبين لغتين واكثر كذلك، وإنما نجتزىء مما هو كلّي وموحَّد ويستحيل الإحاطة به، أي ما يتجاوب مع انقساماتنا داخلاً، ومن ثم احتراباتنا خارجاً، وكيف نوجّه اللغة وهي تنزف دماء، هي دماءنا، أي كوننا انقساميين، كما يقول تاريخنا، هذا الجزئي والمجاز بمواصفات مشروطة شاهد عيان على ابتلاء الترجمة بنا !


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى