هم حمّاد الراوية، وحماد عجرد، وحماد الزبرقان. هم ثلاثة كانت أسماؤهم واحدة، وعاشوا في عصر واحد، وكانوا من أصل واحد، وعلى رأي واحد، ووجهة نظر واحدة، بالنسبة إلى العالم والحياة.
وكانوا من الموالي، وكانوا متهمين في دينهم وفي أخلاقهم، وكانوا يروون الشعر ويتعاطونه، وكانوا جميعاً أصحاب عبث ودعابة ومجانة، وكانوا على رأس طبقة (الزنادقة) التي ظهرت في العصر الأموي وصدر الدولة العباسية، والتي ضمت عدداً من الأعاجم كانوا في الأصل من عبدة النار ومن الثنوية القائلين بعنصرين: عنصر النور والظلام، وعنصر النار والتراب، وبتفوق النار على الطين، أمثال عبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأردي، وعلي بن خليل الشيباني وغير هؤلاء ممن أسلمت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
ظهرت هذه الطبقة في مدن العراق الرئيسية خاصة، حيث كان الاختلاط فيها بين العرب والعجم على أشد ما يكون، وحيث كانت حرية القول على أوسع ما يتصوره إنسان، وكان معظم رجالها من الأدباء الموالي المتعصبين لقوميتهم، ولذلك اقترنت هذه الحركة حركة الزندقة بالنزعة الشعوبية المعروفة التي تتحامل على العرب وعلى كل ما هو عربي وإسلامي بنفس الوقت.
وكان كل من ذكرنا من طبقة الأدباء الظرفاء، المتمكنين من ناصية اللغة والأدب، ومن المتساهلين في الآداب العامة والتقاليد، وكانوا كما وصفهم الجاحظ (يجتمعون على الشرب وقول الشعر وهجاء بعضهم بعضاً وكل منهم متهم في دينه) وكانوا يقضون أكثر لياليهم في سمر صاخب في بيوت المجّان ومحيي العبث، ينفقون ما حصلوا عليه من أثمان المديح أو رشوة (بخلاء) الأغنياء استرضاء لهؤلاء السفهاء الذين قد يتجاسرون عليهم فيهجونهم بآخر ما عرفه فن الهجاء وآخر ما وصل إليه قانون الشتائم عند هؤلاء الشطار من سباب.
وطبيعي أن تكون مجالس هؤلاء متحررة من كل قيود، بعيدة عن كل مظهر من مظاهر الرزانة والاحتشام، مبدعة أحياناً ومسفة غاية الإسفاف أحياناً أخرى. وقدحفظ لنا بعض الشهود والرواة شيئاً مما كان يدور في أمثال هذه المجالس الخاصة التي كان يقصدها رهط هؤلاء وجلهم ممن جبل على هذه الجبلة، الدعابة والمرح والتحلل، والاستهتار بكل شئ وبالكذب على الماضي والحاضر إن احتاج الأمر لذلك، فكانوا يضعون ويقولون ويتنادمون ويتقارضون الشعر ساعات طويلة من ليل أو نهار
وعلى الرغم مما عرف عن هذه الطبقة من العبث والابتعاد عن حياة الجد، كانوا في جملتهم أصحاب علم بلغة العرب واطلاع على مذاهب الشعر في الجاهلية والإسلام، ووقوف على أسرار اللسان. مثل حماد الراوية الذي (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها) والذي قال عنه بعض الرواة (إنه قد أفسد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعتهفيدس في شعر كل رجل ما يشكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم) ومثل حماد عجرد وكان نفسه من الشعراء المجيدين، وقد أزعج بشار بن برد الشاعر بأهاجيه الفاحشة وبالمعاني الغريبة المبتكرة التي كان يأتي بها في هجاء ذلك الشاعر السليط الذي كان يخشى الناس لسانه ويرجون من الابتعاد عنه السلامة. ومثل ابن المقفع وغيرهم ممن ذكرنا.
وحماد الراوية هو أبو القاسم حماد بن ميسرة أو ابن أبي ليلى سابور بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل أو مكنف ابن زيد خبارها الخيل الطائي وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية وحفظ الأشعار كما كان خلف الأحمر وهو من هذه الطبقة ومن هذا الطراز زعيم أهل البصرة في الرواية وحفظ الشعر أيضاً. وكان من المقدمين لدى نبي أمية ولاسيما عند (الوليد بن يزيد) الذي عرف بالميل إلى الشعر والشعراء وبالإغداق عليهم وعلى الأخص على أمثال هؤلاء الشعراء. ويظهر أنه لم يكن من المرغوب فيهم عند بني العباس.
ويظهر أن الرجل كان ذكياً جداً غير أنه لم يكن يحسن الاستفادة من ذلك الذكاء. وأنه لم يتمكن من استغلال مواهبه والقابليات التي كانت عنده. وأنه كان يبالغ في الدعاية لنفسه. فكان يشيد دائماً بمقدار ما كان يحفظ، حتى غلبت عليه الرواية وعُرف بين الناس بحماد الراوية. وقد اضطرته المواقف على الانتحال والوضع لكي يتفوق على خصومه ويثبت تغلبه على منافسيه وقد كانوا ما شاء الله. فافتضح أمره وانكشف كما انكشف أمر رواة آخرين. ولو كان صاحبنا قد سلك سبيل العقل وتمسك بأذيال الرزانة وشاطر الشعراء النظم وأظهر مواهبه من هذه الناحية وهي مواهب شعرية كان يعترف بها الناس ويمكن التعرف عليها من تلك القصائد التقليدية التي كان يضعها على ألسنة الشعراء ويصبها بقوالب لا تظهر عليها آثار التزييف إلا بصعوبة، لو كان قد فعل ذلك لكان اسمه اليوم بين تلك الأسماء المخلدة في صفحات شعر الدولتين بدون شك. وكان ملوك بني أمية يقدمونه ويؤثرونه ويستزيرونه فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية؟ فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال سأمتحنك في هذا. ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم.)
ولا أعتقد أن إنساناً يمكن أن يمر بهذه القصة مر الكرام بدون تعليق عليها ولا تنادر، والرواية نفسها إن صحت أنها حقيقة من حماد تبين لنا مبلغ ادعاء الرجل وإسرافه في الادعاء، وإسراف أهل الكوفة معه، وقد كان أهل الكوفة وحماد يشعرون بافتضاح أمرهم فكانوا يقولون: كان النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن عبيد الثقفي أمر بإخراجها فأخرجت. فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر من غيرهم أما صاحب هذه الرواية فحماد نفسه ولك أن تقول فيها ما تريد.
والظاهر أن ما ذكره ابن سلام في كتابه (طبقات الشعراء) من أنه كان عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه، ويرجع إلى روايات أهل الكوفة. وقد رووا ذلك على ما يخيل إلى لبيان سبب تفوقهم على أهل البصرة وسبب كثرة الروايات عندهم ولم يحدثنا أحد لا من أهل الكوفة ولا من أهل البصرة أنه رأى ذلك الديوان أو أخذ منه، ولو كان ذلك حقاً لما ترك الناس الأخذ منه ولو بأي ثمن كان.
ومن أمثلة تلاعب حماد بالرواية ما يروى من أن الخليفة المهدي سأل المفضل الضبي عن سبب افتتاح زهير قصيدته:
دع ذا وعد القول في هرم ... خير البُداة وسيد الحضر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل أني توهمته كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه ودعا حماداً فسأله فقال ليس هكذا قال زهير وأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى آلات الضال والسدر
فاستحلفه المهدي فأقر أنه هو الذي أدخلها في شعر زهير. فأمر المهدي أن من أراد شعراً محدثاً فليأخذه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها من المفضل. وهكذا أعلنت الحكومة رسمياً كذب رواية حماد.
وهاك مثلاً آخر على كذب حماد: قدم حماد البصرة على بلال ابن أبي بردة فقال ما أطرفتني شيئاً. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الخطيئة مديح أبي موسى، فقال ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للخطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، فذهبت في الناس وهي في ديوان الخطيئة، والرواة أنفسهم يختلفون فمنهم من يزعم أن الخطيئة قالها حقاً
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تريك مبلغ استهتار الرواة بالرواية ومبلغ استهتارهم بالناس. ولم يكن حماد أول من سن هذه السنة بل كان هنالك عدد عديد كل واحد منهم (حماد) في الوضع بل كان في هذا الوقت وقبله وضعوا أقوالاً على لسان الرسول والصحابة ثم شاعت بين الناس.
وقد اهتم صاحبنا بالكذب وباللحن وبكسر الكلام. وصاحب روايتنا هذه هو يونس بن حبيب وهو أحد المراجع التي يعتمد عليها ابن قتيبة صاحب (طبقات الشعراء) وعلماء آخرون.
وإليك ما قاله عن حماد: (العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر) وهنالك شهادة أخرى هي شهادة ابن سلام وآخرون إذ قال عنه (وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار).
أما الكذب فأمر ثابت عليه ولا أعتقد أن حماداً نفسه كان ينكر ذلك علينا لو كان حياً، ولا هو من الأشخاص الذين كانوا يرون في الكذب حرجاً، ولعله كان يجد ذلك نوعاً من أنواع التسلية وضرباً من ضروب العبث والدعابة. وأما اللحن وكسر الكلام فيجوز صدورهما منه مع علمه بالعربية وتمكنه منها لأنه من أب غير عربي ومن أصل فارسي قريب.
وكان حماد - على ما يدعيه حماد نفسه - من المقربين إلى الخليفة الأموي يزيد الثاني ومن المنقطعين له، ولم يكن هذا شأنه مع هشام بن عبد الملك فلقد كان هشام يجفوه فلما توفي يزيد وولي الخلافة هشام من بعده خاف (حماد) على نفسه واستتر عاماً عن الناس لا يخرج إلا إلى من يثق به، ثم خرج بعد ذلك. فلما كان في جامع (الرصافة) يوم الجمعة طلب الأمير (يوسف بن عمر الثقفي) وكان والياً على العراق فصار إليه فلما رآه ألقى إليه كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق وسار حماد على جمل مهري حتى وصل باب هشام واستأذن فأذن له فدخل عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر فسلم حماد عليه فرد عليه السلام واستدناه حتى دنا منه فقبل رجله وإذا جاريتان في أذني كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقال حماد بخير يا أمير المؤمنين. فقال أتدري فيم بعثت إليك؟ قال حماد لا، قال بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قال حماد وما هو قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قال حماد لعدي بن زيد العبادي في قصيدة منها: بكر العاذلون في وضح الص ... بح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله
و ... القلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوٌّ يلومني أم صديق
إلى أن بلغ قوله:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الدي ... ك صفى سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا مزج ... ت لذ طعمها من يذوق
وطَفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سجاب ... لا صر آجن ولا مطروق
فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد ثم قال اسقيه يا جارية فسقته حتى ثمل، ثم قال يا حماد سل حاجتك. فقال كائنة ما كانت؟ قال نعم. قال إحدى الجاريتين. قال هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما. وأنزله في داره، ثم نقله من الغد إلى منزل أعده له فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة ووصله بمائة ألف درهم
وصاحب هذا الحديث هو حماد نفسه، وحماد من الأشخاص المتهمين كما قلنا، ونحن في وضع لا نستطيع فيه تصديق هذه الرواية التي تحمل طابع الدعاية والإعلان، وهل خلت الأرض من رواة غير حماد ومن أناس لهم إلمام بالشعر؟ وهل أمن الخليفة من كذب حماد عليه ومن نظم قصيدة في الحال على الوزن والقافية وهو صاحب أكبر معمل من معامل صنع الشعر؟ وهل يعقل صدور ذلك من الخليفة هشام بن عبد الملك مع ما عرف عنه من الجد والإمساك والانصراف إلى السياسة والعمل وعدم شرب المسكرات ولكنها قصة من القصص التي كان يروجها هذا الراوية (حماد). . .
(للكلام صلة)
الدكتور جواد علي
مجلة الرسالة - العدد 766
بتاريخ: 08 - 03 - 1948
وكانوا من الموالي، وكانوا متهمين في دينهم وفي أخلاقهم، وكانوا يروون الشعر ويتعاطونه، وكانوا جميعاً أصحاب عبث ودعابة ومجانة، وكانوا على رأس طبقة (الزنادقة) التي ظهرت في العصر الأموي وصدر الدولة العباسية، والتي ضمت عدداً من الأعاجم كانوا في الأصل من عبدة النار ومن الثنوية القائلين بعنصرين: عنصر النور والظلام، وعنصر النار والتراب، وبتفوق النار على الطين، أمثال عبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأردي، وعلي بن خليل الشيباني وغير هؤلاء ممن أسلمت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
ظهرت هذه الطبقة في مدن العراق الرئيسية خاصة، حيث كان الاختلاط فيها بين العرب والعجم على أشد ما يكون، وحيث كانت حرية القول على أوسع ما يتصوره إنسان، وكان معظم رجالها من الأدباء الموالي المتعصبين لقوميتهم، ولذلك اقترنت هذه الحركة حركة الزندقة بالنزعة الشعوبية المعروفة التي تتحامل على العرب وعلى كل ما هو عربي وإسلامي بنفس الوقت.
وكان كل من ذكرنا من طبقة الأدباء الظرفاء، المتمكنين من ناصية اللغة والأدب، ومن المتساهلين في الآداب العامة والتقاليد، وكانوا كما وصفهم الجاحظ (يجتمعون على الشرب وقول الشعر وهجاء بعضهم بعضاً وكل منهم متهم في دينه) وكانوا يقضون أكثر لياليهم في سمر صاخب في بيوت المجّان ومحيي العبث، ينفقون ما حصلوا عليه من أثمان المديح أو رشوة (بخلاء) الأغنياء استرضاء لهؤلاء السفهاء الذين قد يتجاسرون عليهم فيهجونهم بآخر ما عرفه فن الهجاء وآخر ما وصل إليه قانون الشتائم عند هؤلاء الشطار من سباب.
وطبيعي أن تكون مجالس هؤلاء متحررة من كل قيود، بعيدة عن كل مظهر من مظاهر الرزانة والاحتشام، مبدعة أحياناً ومسفة غاية الإسفاف أحياناً أخرى. وقدحفظ لنا بعض الشهود والرواة شيئاً مما كان يدور في أمثال هذه المجالس الخاصة التي كان يقصدها رهط هؤلاء وجلهم ممن جبل على هذه الجبلة، الدعابة والمرح والتحلل، والاستهتار بكل شئ وبالكذب على الماضي والحاضر إن احتاج الأمر لذلك، فكانوا يضعون ويقولون ويتنادمون ويتقارضون الشعر ساعات طويلة من ليل أو نهار
وعلى الرغم مما عرف عن هذه الطبقة من العبث والابتعاد عن حياة الجد، كانوا في جملتهم أصحاب علم بلغة العرب واطلاع على مذاهب الشعر في الجاهلية والإسلام، ووقوف على أسرار اللسان. مثل حماد الراوية الذي (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها) والذي قال عنه بعض الرواة (إنه قد أفسد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعتهفيدس في شعر كل رجل ما يشكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم) ومثل حماد عجرد وكان نفسه من الشعراء المجيدين، وقد أزعج بشار بن برد الشاعر بأهاجيه الفاحشة وبالمعاني الغريبة المبتكرة التي كان يأتي بها في هجاء ذلك الشاعر السليط الذي كان يخشى الناس لسانه ويرجون من الابتعاد عنه السلامة. ومثل ابن المقفع وغيرهم ممن ذكرنا.
وحماد الراوية هو أبو القاسم حماد بن ميسرة أو ابن أبي ليلى سابور بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل أو مكنف ابن زيد خبارها الخيل الطائي وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية وحفظ الأشعار كما كان خلف الأحمر وهو من هذه الطبقة ومن هذا الطراز زعيم أهل البصرة في الرواية وحفظ الشعر أيضاً. وكان من المقدمين لدى نبي أمية ولاسيما عند (الوليد بن يزيد) الذي عرف بالميل إلى الشعر والشعراء وبالإغداق عليهم وعلى الأخص على أمثال هؤلاء الشعراء. ويظهر أنه لم يكن من المرغوب فيهم عند بني العباس.
ويظهر أن الرجل كان ذكياً جداً غير أنه لم يكن يحسن الاستفادة من ذلك الذكاء. وأنه لم يتمكن من استغلال مواهبه والقابليات التي كانت عنده. وأنه كان يبالغ في الدعاية لنفسه. فكان يشيد دائماً بمقدار ما كان يحفظ، حتى غلبت عليه الرواية وعُرف بين الناس بحماد الراوية. وقد اضطرته المواقف على الانتحال والوضع لكي يتفوق على خصومه ويثبت تغلبه على منافسيه وقد كانوا ما شاء الله. فافتضح أمره وانكشف كما انكشف أمر رواة آخرين. ولو كان صاحبنا قد سلك سبيل العقل وتمسك بأذيال الرزانة وشاطر الشعراء النظم وأظهر مواهبه من هذه الناحية وهي مواهب شعرية كان يعترف بها الناس ويمكن التعرف عليها من تلك القصائد التقليدية التي كان يضعها على ألسنة الشعراء ويصبها بقوالب لا تظهر عليها آثار التزييف إلا بصعوبة، لو كان قد فعل ذلك لكان اسمه اليوم بين تلك الأسماء المخلدة في صفحات شعر الدولتين بدون شك. وكان ملوك بني أمية يقدمونه ويؤثرونه ويستزيرونه فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية؟ فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال سأمتحنك في هذا. ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم.)
ولا أعتقد أن إنساناً يمكن أن يمر بهذه القصة مر الكرام بدون تعليق عليها ولا تنادر، والرواية نفسها إن صحت أنها حقيقة من حماد تبين لنا مبلغ ادعاء الرجل وإسرافه في الادعاء، وإسراف أهل الكوفة معه، وقد كان أهل الكوفة وحماد يشعرون بافتضاح أمرهم فكانوا يقولون: كان النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن عبيد الثقفي أمر بإخراجها فأخرجت. فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر من غيرهم أما صاحب هذه الرواية فحماد نفسه ولك أن تقول فيها ما تريد.
والظاهر أن ما ذكره ابن سلام في كتابه (طبقات الشعراء) من أنه كان عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه، ويرجع إلى روايات أهل الكوفة. وقد رووا ذلك على ما يخيل إلى لبيان سبب تفوقهم على أهل البصرة وسبب كثرة الروايات عندهم ولم يحدثنا أحد لا من أهل الكوفة ولا من أهل البصرة أنه رأى ذلك الديوان أو أخذ منه، ولو كان ذلك حقاً لما ترك الناس الأخذ منه ولو بأي ثمن كان.
ومن أمثلة تلاعب حماد بالرواية ما يروى من أن الخليفة المهدي سأل المفضل الضبي عن سبب افتتاح زهير قصيدته:
دع ذا وعد القول في هرم ... خير البُداة وسيد الحضر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل أني توهمته كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه ودعا حماداً فسأله فقال ليس هكذا قال زهير وأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى آلات الضال والسدر
فاستحلفه المهدي فأقر أنه هو الذي أدخلها في شعر زهير. فأمر المهدي أن من أراد شعراً محدثاً فليأخذه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها من المفضل. وهكذا أعلنت الحكومة رسمياً كذب رواية حماد.
وهاك مثلاً آخر على كذب حماد: قدم حماد البصرة على بلال ابن أبي بردة فقال ما أطرفتني شيئاً. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الخطيئة مديح أبي موسى، فقال ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للخطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، فذهبت في الناس وهي في ديوان الخطيئة، والرواة أنفسهم يختلفون فمنهم من يزعم أن الخطيئة قالها حقاً
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تريك مبلغ استهتار الرواة بالرواية ومبلغ استهتارهم بالناس. ولم يكن حماد أول من سن هذه السنة بل كان هنالك عدد عديد كل واحد منهم (حماد) في الوضع بل كان في هذا الوقت وقبله وضعوا أقوالاً على لسان الرسول والصحابة ثم شاعت بين الناس.
وقد اهتم صاحبنا بالكذب وباللحن وبكسر الكلام. وصاحب روايتنا هذه هو يونس بن حبيب وهو أحد المراجع التي يعتمد عليها ابن قتيبة صاحب (طبقات الشعراء) وعلماء آخرون.
وإليك ما قاله عن حماد: (العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر) وهنالك شهادة أخرى هي شهادة ابن سلام وآخرون إذ قال عنه (وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار).
أما الكذب فأمر ثابت عليه ولا أعتقد أن حماداً نفسه كان ينكر ذلك علينا لو كان حياً، ولا هو من الأشخاص الذين كانوا يرون في الكذب حرجاً، ولعله كان يجد ذلك نوعاً من أنواع التسلية وضرباً من ضروب العبث والدعابة. وأما اللحن وكسر الكلام فيجوز صدورهما منه مع علمه بالعربية وتمكنه منها لأنه من أب غير عربي ومن أصل فارسي قريب.
وكان حماد - على ما يدعيه حماد نفسه - من المقربين إلى الخليفة الأموي يزيد الثاني ومن المنقطعين له، ولم يكن هذا شأنه مع هشام بن عبد الملك فلقد كان هشام يجفوه فلما توفي يزيد وولي الخلافة هشام من بعده خاف (حماد) على نفسه واستتر عاماً عن الناس لا يخرج إلا إلى من يثق به، ثم خرج بعد ذلك. فلما كان في جامع (الرصافة) يوم الجمعة طلب الأمير (يوسف بن عمر الثقفي) وكان والياً على العراق فصار إليه فلما رآه ألقى إليه كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق وسار حماد على جمل مهري حتى وصل باب هشام واستأذن فأذن له فدخل عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر فسلم حماد عليه فرد عليه السلام واستدناه حتى دنا منه فقبل رجله وإذا جاريتان في أذني كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقال حماد بخير يا أمير المؤمنين. فقال أتدري فيم بعثت إليك؟ قال حماد لا، قال بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قال حماد وما هو قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قال حماد لعدي بن زيد العبادي في قصيدة منها: بكر العاذلون في وضح الص ... بح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله
و ... القلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوٌّ يلومني أم صديق
إلى أن بلغ قوله:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الدي ... ك صفى سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا مزج ... ت لذ طعمها من يذوق
وطَفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سجاب ... لا صر آجن ولا مطروق
فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد ثم قال اسقيه يا جارية فسقته حتى ثمل، ثم قال يا حماد سل حاجتك. فقال كائنة ما كانت؟ قال نعم. قال إحدى الجاريتين. قال هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما. وأنزله في داره، ثم نقله من الغد إلى منزل أعده له فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة ووصله بمائة ألف درهم
وصاحب هذا الحديث هو حماد نفسه، وحماد من الأشخاص المتهمين كما قلنا، ونحن في وضع لا نستطيع فيه تصديق هذه الرواية التي تحمل طابع الدعاية والإعلان، وهل خلت الأرض من رواة غير حماد ومن أناس لهم إلمام بالشعر؟ وهل أمن الخليفة من كذب حماد عليه ومن نظم قصيدة في الحال على الوزن والقافية وهو صاحب أكبر معمل من معامل صنع الشعر؟ وهل يعقل صدور ذلك من الخليفة هشام بن عبد الملك مع ما عرف عنه من الجد والإمساك والانصراف إلى السياسة والعمل وعدم شرب المسكرات ولكنها قصة من القصص التي كان يروجها هذا الراوية (حماد). . .
(للكلام صلة)
الدكتور جواد علي
مجلة الرسالة - العدد 766
بتاريخ: 08 - 03 - 1948