إن المعتزلة يمثلون سلسلة من المفكرين المسلمين تبدأ بواصل ابن عطاء المتوفى سنة 131هـ أي 748م وتمتد إلى أبي هاشم بن الجبائي المتوفى سنة 321 هـ أي 933م وهو أستاذ أبي الحسن الاشعري رأس الأشاعرة.
بعد الأبحاث التي قام بها الغربيون والشرقيون، وبعدما كُتب عن المعتزلة بقى أن نبين طريقتهم الفلسفية وأن نستخرج الأصول التي بنيت عليها. هذا ما حاولنا نفعله في الرسالة الكبرى التي تقدمنا بها إلى أساتذة جامعة السريون بباريس وعنوانها فلسفة المعتزلة.
الأصل الأول والعام لهذه الفرقة التي توصلنا إليه بعد كل ما طالعناه من مراجع، هو أن العقل البشري عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يتوصل إلى الحقائق الكبرى الأول وهي:
أولاً: أن وجود العالم يدل حتماً على وجود كائن أسمى متعال منح العالم هذا الوجود.
ثانياً: أن الإنسان يفعل حراً وهو مسئول عن أعماله محاسب عليه.
لذلك قسمنا الرسالة إلى قسمين كبيرين: أحدهما خاص بالتوحيد وما يتعلق به من مسألة الخلق، والآخر خاص بالحرية عند الإنسان وما يتوقف عليها.
في القسم الأول بينا أن المعتزلة لا تقول بأي مشابهة أو تمثيل بين الله والعالم من جهة، ومن جهة أخرى هم يقولون بالمذهب الوجودي، فلا نعرف عن الله سوى حقيقة واحدة هو أنه موجود، ولكن ماهيته لا يمكننا إدراكها لأنه غير متناه ونحن متناهون. ثم أن ماهيته هي علمه وقدرته وإرادته. وإذا ما تكلمنا عن صفاته تعالى فهذه الصفات لا توجد حقيقة بل هي اعتبارات ذهنية نلجأ إليها لضعف عقلنا. ونتيجة لمنع المشابهة بين الله والعالم المخلوق قالت المعتزلة إن الله لم يخلق ماهية العالم بل إنه وهب الوجود فقط لماهية كانت في حالة العدم. وحسب قولهم هذا يصبح المعدوم شيئاً وذاتاً وعيناً ينقصها الوجود فقط. وهذه نتيجة منطقية لقولهم بالمذهب الوجودي ومؤداه أن لكل فكرة مقابل في الحقيقة ففكرة المعدوم نقابلها حقيقة.
ذهبت المعتزلة إلى هذه النتيجة لأنهم كانوا يريدون أن يصونوا فكرة التوحيد من كل شرك ومن كل مذهب حلولي؛ وهو يفتخرون بأنهم أهل توحيد - وقولهم إن العالم لا يستمد ماهيته من الله بل يستمد منه وجوده فقط يدلنا على أنهم تأثروا بعض التأثر بالفلسفة الأربسطوطالية ولا سيما فيما يختص بفكرة الهيولي، وهي عند أريسطو المادة الأولى التي لا صورة لها والتي يقول عنها إنها قديمة وأنها الماهية الأولى للعالم. وفي هذه المناسبة تقول إن القسط الأكبر من مؤلفات الفلاسفة والطبيعيين اليونانيين ترجمت إلى السريانية والعربية في عهد المعتزلة؛ ويكفينا أن نذكر (دار الحكمة) في عهد الخليفة المأمون وعلى رأسه حنين بن إسحق.
إن المعتزلة متفقون على تفسير خلق العالم هذا التفسير وهو أصل أساسي في مذهبهم؛ ولكن هناك مسائل تعد ثانوية في نظرهم تختلف آراؤهم فيها. إذ بينما نرى مثلاً أبا الهذيل العلاف يقول بالجوهر الفرد أي الذرة، نجد النظام يقول إنه لا جزء وإن تقسيمه جائز ولو بالوهم. وبناء على هذا القول كان النظام أول من قال بالطفرة في الفلسفة الإسلامية؛ ومعناها أن الجسم يمكنه أن يمر من مكان أول إلى مكان ثالث أو رابع بينها أجزاء غير متناهية في القسمة وذلك بأن يطفر من الأول إلى الثالث أو الرابع.
الأصل الثاني في فلسفة المعتزلة هو الحرية عند الإنسان. فهم يقولون إن العقل عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يصل إلى إدراك الحقائق الأولى التي يسترشد بها الإنسان في أعماله، وذلك قبل أي تنزيل. ثم إن الإنسان حر أن يعمل بمقتضاها أولاً. فإذا معرفة الخير والشر وما يترتب عن الإعمال من مسئولية وجزاء كلها مسائل يدركها العقل المكتمل. وإذا ما جاء تنزيل فلا يجوز أن يناقض ما يدركه العقل في هذا المضمار بل يجب أن يقويه ويتممه.
جزأنا هذا الأصل أيضاً جزأين: أحدهما خاص بعلم النفس - وكل هم المعتزلة في دراسة النفس هو البرهنة على حرية الإنسان في عمله؛ وهم يردون بكل حماس على الجبرية، في مذهبهم دور أخلاقي مهم يقوم به وهو التمييز بين ما هو خير وما هو شر بواسطة النظر. والجزء الثاني خصصناه للمسألة الأخلاقية. إنهم يقولون إن الخير خير في ذاته، وان الشر شر في ذاته، وليس بموجب إرادة خارجية حتى ولو كانت إرادة إلهية هذه النظرة سيكون لها أهميتها عند دانس سكوت والقديس توما والأكويني في القرن الثالث عشر، ورأى المعتزلة فيها هو رأى توماوي قبل القديس توما بحوالي ثلاثة قرون.
عندما يصل العقل إلى معرفة الشريعة يكون الإنسان حراً أن يفعل بمقتضاه أولاً يفعل. فحينئذ تظهر مسألة المعاصي والفسق، ولكن المعتزلة لا يبدون حكماً على الظواهر (أي أعمال الإنسان الخارجية) لأنها لا تدل على ما تكنه القلوب؛ لذلك يلزمون التحفظ في الحكم على أعمال الغير.
ولما كان الإنسان يأتي المعصية حراً فيمكنه أيضاً أن ينوب منها. ولكن المعتزلة يضعون شروطاً للتوبة حتى تكون مقبولة. فيقولون إنها لا تجوز إلا إذا ندم الإنسان على فعله وعزم على أن لا يأتي بمثله. ولكن ألا يمكن أن يتدارك الله الفاسق بلطف ويساعده حتى يصبح مؤمناً؟ إنها لمسألة دقيقة ولكن المعتزلة قالت: إذا وهب الله ذا الكبيرة أي فاسق لطفاً من عنده ليؤمن جاز أن يقول أنه يهيئ كفراً للمؤمنين لصيبح كافراً. ويزيدون على ذلك قائلين إن من آمن حراً فضله أكبر من فضل الذي وهب لطفاً ليؤمن. ومع ذلك لا ينكرون أن الله يهب أحياناً لطفه لبعض الناس ليؤمنوا ولكنها حالات شاذة.
بقي أخيراً مسألة الجزاء. فإن المعاصي تجلب حتماً العقاب، كما أن العمل الحسن يجلب حتماً الثواب. والعقل يدل على ذلك وبطلبه. ولكن في هذا العالم لا يوجد تكافؤ بين الأعمال وجزائها وعقابها فيجب أن يصير هذا التكافؤ في عالم آخر. وعليه فالجنة والنار لازمتان.
فها نحن أولاء بصدد فلسفة كاملة شاملة متماسكة الأجزاء: النقطة الأولى: الله متميز تام التمييز عن العالم - ليس بينه وبين العالم أي مشابه أو تمثيل.
العالم كان في حالة عدم - العالم لا يستمد من الله إلا الوجود
النقطة الثانية: المسالة الأخلاقية - في عالم خاضع لقوانين ثابتة لا يمكنه رد نظرية الجبر وجعل الإنسان مسئولاً عن أعماله إلا إذا كان حائزاً على ملكه خاصة تمكنه من تمييز الخير من الشر كما يجب أن يكون حراً في قصده وعمله.
لذلك سميت المعتزلة أهل توحيد وأهل عدل.
هذا المجهود الفكري مدة قرنين متتاليين فتح الطريق للفكر الإسلامي. وأثر المعتزلة سيكون بيناً واضحاً عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين أو اللاحقين لهم مثل الكندي والأشعري.
لذلك سميناهم فلاسفة الإسلام الأسبقيين.
البير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة
مجلة الرسالة - العدد 840
بتاريخ: 08 - 08 - 1949
بعد الأبحاث التي قام بها الغربيون والشرقيون، وبعدما كُتب عن المعتزلة بقى أن نبين طريقتهم الفلسفية وأن نستخرج الأصول التي بنيت عليها. هذا ما حاولنا نفعله في الرسالة الكبرى التي تقدمنا بها إلى أساتذة جامعة السريون بباريس وعنوانها فلسفة المعتزلة.
الأصل الأول والعام لهذه الفرقة التي توصلنا إليه بعد كل ما طالعناه من مراجع، هو أن العقل البشري عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يتوصل إلى الحقائق الكبرى الأول وهي:
أولاً: أن وجود العالم يدل حتماً على وجود كائن أسمى متعال منح العالم هذا الوجود.
ثانياً: أن الإنسان يفعل حراً وهو مسئول عن أعماله محاسب عليه.
لذلك قسمنا الرسالة إلى قسمين كبيرين: أحدهما خاص بالتوحيد وما يتعلق به من مسألة الخلق، والآخر خاص بالحرية عند الإنسان وما يتوقف عليها.
في القسم الأول بينا أن المعتزلة لا تقول بأي مشابهة أو تمثيل بين الله والعالم من جهة، ومن جهة أخرى هم يقولون بالمذهب الوجودي، فلا نعرف عن الله سوى حقيقة واحدة هو أنه موجود، ولكن ماهيته لا يمكننا إدراكها لأنه غير متناه ونحن متناهون. ثم أن ماهيته هي علمه وقدرته وإرادته. وإذا ما تكلمنا عن صفاته تعالى فهذه الصفات لا توجد حقيقة بل هي اعتبارات ذهنية نلجأ إليها لضعف عقلنا. ونتيجة لمنع المشابهة بين الله والعالم المخلوق قالت المعتزلة إن الله لم يخلق ماهية العالم بل إنه وهب الوجود فقط لماهية كانت في حالة العدم. وحسب قولهم هذا يصبح المعدوم شيئاً وذاتاً وعيناً ينقصها الوجود فقط. وهذه نتيجة منطقية لقولهم بالمذهب الوجودي ومؤداه أن لكل فكرة مقابل في الحقيقة ففكرة المعدوم نقابلها حقيقة.
ذهبت المعتزلة إلى هذه النتيجة لأنهم كانوا يريدون أن يصونوا فكرة التوحيد من كل شرك ومن كل مذهب حلولي؛ وهو يفتخرون بأنهم أهل توحيد - وقولهم إن العالم لا يستمد ماهيته من الله بل يستمد منه وجوده فقط يدلنا على أنهم تأثروا بعض التأثر بالفلسفة الأربسطوطالية ولا سيما فيما يختص بفكرة الهيولي، وهي عند أريسطو المادة الأولى التي لا صورة لها والتي يقول عنها إنها قديمة وأنها الماهية الأولى للعالم. وفي هذه المناسبة تقول إن القسط الأكبر من مؤلفات الفلاسفة والطبيعيين اليونانيين ترجمت إلى السريانية والعربية في عهد المعتزلة؛ ويكفينا أن نذكر (دار الحكمة) في عهد الخليفة المأمون وعلى رأسه حنين بن إسحق.
إن المعتزلة متفقون على تفسير خلق العالم هذا التفسير وهو أصل أساسي في مذهبهم؛ ولكن هناك مسائل تعد ثانوية في نظرهم تختلف آراؤهم فيها. إذ بينما نرى مثلاً أبا الهذيل العلاف يقول بالجوهر الفرد أي الذرة، نجد النظام يقول إنه لا جزء وإن تقسيمه جائز ولو بالوهم. وبناء على هذا القول كان النظام أول من قال بالطفرة في الفلسفة الإسلامية؛ ومعناها أن الجسم يمكنه أن يمر من مكان أول إلى مكان ثالث أو رابع بينها أجزاء غير متناهية في القسمة وذلك بأن يطفر من الأول إلى الثالث أو الرابع.
الأصل الثاني في فلسفة المعتزلة هو الحرية عند الإنسان. فهم يقولون إن العقل عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يصل إلى إدراك الحقائق الأولى التي يسترشد بها الإنسان في أعماله، وذلك قبل أي تنزيل. ثم إن الإنسان حر أن يعمل بمقتضاها أولاً. فإذا معرفة الخير والشر وما يترتب عن الإعمال من مسئولية وجزاء كلها مسائل يدركها العقل المكتمل. وإذا ما جاء تنزيل فلا يجوز أن يناقض ما يدركه العقل في هذا المضمار بل يجب أن يقويه ويتممه.
جزأنا هذا الأصل أيضاً جزأين: أحدهما خاص بعلم النفس - وكل هم المعتزلة في دراسة النفس هو البرهنة على حرية الإنسان في عمله؛ وهم يردون بكل حماس على الجبرية، في مذهبهم دور أخلاقي مهم يقوم به وهو التمييز بين ما هو خير وما هو شر بواسطة النظر. والجزء الثاني خصصناه للمسألة الأخلاقية. إنهم يقولون إن الخير خير في ذاته، وان الشر شر في ذاته، وليس بموجب إرادة خارجية حتى ولو كانت إرادة إلهية هذه النظرة سيكون لها أهميتها عند دانس سكوت والقديس توما والأكويني في القرن الثالث عشر، ورأى المعتزلة فيها هو رأى توماوي قبل القديس توما بحوالي ثلاثة قرون.
عندما يصل العقل إلى معرفة الشريعة يكون الإنسان حراً أن يفعل بمقتضاه أولاً يفعل. فحينئذ تظهر مسألة المعاصي والفسق، ولكن المعتزلة لا يبدون حكماً على الظواهر (أي أعمال الإنسان الخارجية) لأنها لا تدل على ما تكنه القلوب؛ لذلك يلزمون التحفظ في الحكم على أعمال الغير.
ولما كان الإنسان يأتي المعصية حراً فيمكنه أيضاً أن ينوب منها. ولكن المعتزلة يضعون شروطاً للتوبة حتى تكون مقبولة. فيقولون إنها لا تجوز إلا إذا ندم الإنسان على فعله وعزم على أن لا يأتي بمثله. ولكن ألا يمكن أن يتدارك الله الفاسق بلطف ويساعده حتى يصبح مؤمناً؟ إنها لمسألة دقيقة ولكن المعتزلة قالت: إذا وهب الله ذا الكبيرة أي فاسق لطفاً من عنده ليؤمن جاز أن يقول أنه يهيئ كفراً للمؤمنين لصيبح كافراً. ويزيدون على ذلك قائلين إن من آمن حراً فضله أكبر من فضل الذي وهب لطفاً ليؤمن. ومع ذلك لا ينكرون أن الله يهب أحياناً لطفه لبعض الناس ليؤمنوا ولكنها حالات شاذة.
بقي أخيراً مسألة الجزاء. فإن المعاصي تجلب حتماً العقاب، كما أن العمل الحسن يجلب حتماً الثواب. والعقل يدل على ذلك وبطلبه. ولكن في هذا العالم لا يوجد تكافؤ بين الأعمال وجزائها وعقابها فيجب أن يصير هذا التكافؤ في عالم آخر. وعليه فالجنة والنار لازمتان.
فها نحن أولاء بصدد فلسفة كاملة شاملة متماسكة الأجزاء: النقطة الأولى: الله متميز تام التمييز عن العالم - ليس بينه وبين العالم أي مشابه أو تمثيل.
العالم كان في حالة عدم - العالم لا يستمد من الله إلا الوجود
النقطة الثانية: المسالة الأخلاقية - في عالم خاضع لقوانين ثابتة لا يمكنه رد نظرية الجبر وجعل الإنسان مسئولاً عن أعماله إلا إذا كان حائزاً على ملكه خاصة تمكنه من تمييز الخير من الشر كما يجب أن يكون حراً في قصده وعمله.
لذلك سميت المعتزلة أهل توحيد وأهل عدل.
هذا المجهود الفكري مدة قرنين متتاليين فتح الطريق للفكر الإسلامي. وأثر المعتزلة سيكون بيناً واضحاً عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين أو اللاحقين لهم مثل الكندي والأشعري.
لذلك سميناهم فلاسفة الإسلام الأسبقيين.
البير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة
مجلة الرسالة - العدد 840
بتاريخ: 08 - 08 - 1949