- 5 -
ويهدف التشبيه في القرآن إلى ما يهدف إليه كل فن بلاغي فيه، من التأثير في العاطفة، فترغب أو ترهب، ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذي يزيد نفسيتهم وضوحاً، ويصور وقوع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
يصور لنا حالهم وقد استمعوا إلى دعوة الداعي فلم تثير فيهم تلك الدعوة رغبة في التفكير فيها لمعرفة ما قد تنطوي عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة وما أشبههم حينئذ بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئاً مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى فهو لا يرى الحق الواضح وبذلك شبههم بالقرآن، فقال: (ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقراً، فبشره بعذاب أليم) وقال: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي، فهم لا يعقلون).
أما ما يشعرون به عندما يسمعون دعوة الحق فضيق يملأ صدورهم، ويئودهم حمله، كهذا الضيق الذي يشعر به المصعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء، وهكذا صور الله ضيق صدورهم بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)
وما دام هؤلاء القوم لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، فقد وجد القرآن في الأنعام شبيها لهم يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات، فقال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)، وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوباً لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها وآذانا لا يسمعون بها. ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقاً إلى إنزالهم منزلة البهائم، فإذا ورد هذا التشبيه عليك، وجد في قلبك مكانا ولم تجد فيه بعداً ولا غرابة، بل يزل بهم حيناً عن درجة الأنعام فيراهم خشباً مسندة.
وحيناً يريد أن يصورهم، وقد وجدوا في الهرب والنفرة تلك الدعوة الجديدة فيقول: (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرة مستنفرة، فرت من قسورة)، وقد تحدثنا عن هذا التشبيه فيما مضى.
أما هذا آمن ثم كفر وأنسلخ عن الإيمان وأتبع هواه فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته. ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة مضطرب الفؤاد سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهث طردثه أو زجرته، أم تركته وأهملته، قال: (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فأقصص القصص لعلهم يتفكرون).
ولم ينس القرآن تصوير حيويتهم، واضطراب نفسيتهم في اضطرابهم صلة بينهم وبين من أستوقد ناراً ثم ذهب الله بنورهم وبين السائر تحت منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق.
وصور وهن ما يعتمد عليه من يتخذ من دون الله أولياء بوهن بيت العنكبوت، وحين أراد أن يتحدث عن أن هؤلاء الأولياء لن يستفيد منهم عابد وهم بشيء، رأى في هذا الذي كفيه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه شبيها لهم فقال: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وتعرض لأعمال الكفرة كما سبق أن ذكرنا ولصدقاتهم التي كان جديراً بها أن تثمر ونزهر، ويفيدوا منها لولا أن هبت عليهم ريح الشرك فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح، فيها صر، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم يظلمون).
وهناك طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة لجأ إليها القرآن للتصوير والتأثير معاً، فإذا أراد القرآن أن يبين قدرة الله على أن يأتي بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون لجأ إلى أسرع مما يراه الرائي، فأتخذه مثلا يؤدي إلى الهدف المراد، فيقول: (وله غيب السماوات والأرض، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب، إن الله على كل شيء قدير).
ويقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء خلق الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء فيقول: (كما بدأكم تعودون) وبتوجيه النظر إلى هذا السحاب الثقال يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض خرج الثمر منها يانعاً، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى، قال سبحانه: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقاه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
وإذا جاء يوم القيامة أستيقظ الناس لا يشعرون بأنه قد مضى عليهم حين من الدهر طويل منذ فارقوا حياتهم، ويورد القرآن من التشبيه ما يصور هذه الحالة النفسية العجيبة، فيقول (يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم، قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين)، وإذا نظرت إلى قوة التشبيه مقترنة بقوله: يتعارفون بينهم، أدركت مدى ما يستطيع أن يحدثه في النفس من أثر. وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر يريد أن يثبته في النفس ويؤكده فقال: (يسألونك عن الساعة إيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
هاهم أولاء قد بعثوا خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مدرها، وماذا يستطيع أن يرسم لك تلك الصورة، تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، أفضل من هذا التشبيه الذي أورده القرآن حين قال: (خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشرة، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر). وحينا يصورهم ضعافاً يتهافتون مسرعين إلى الداعي كي يحاسبهم فيجد في الفراش صورتهم، فيقول: (القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). ولا أخال أحداً لم ير الفراش يسرع إلى الضوء، ويتهافت عليه في ضعف وإلحاف معاً، ولقد تناول القرآن إسراعهم مرة أخرى، فشبههم بهؤلاء الذي كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصاباً مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق فيقول: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون).
ويتناول المجرمين، فيصور ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزي، ويرسم وجوههم وقد علتها الكآبة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعائهم فكأنما طعموا نحاساً ذائباً أو زيتاً ملتهباً، وإذا ما أشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوي وجوهه. قال تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) وقال سبحانه: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفاً وانزعاجا؟
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذي أصابه مس من الشيطان فه لا ينهض واقفاً حتى يسقط، ولا يقوم إلا ليقع، ذلك مثل آكل الربا (الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا).
ولعب التشبيه دوراً في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة النار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون (كالعهن المنفوش) وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجو ذا لون أحمر كالورد: (فإذا انشقت السماء، فكانت وردة كالدهان)، وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط، (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممداً في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح فيقول: (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضراً، وتقريب البعيد النائي حتى يصبح قريباً دانياً.
ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء فيصبح بهيجاً نضراً، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر ويبح هشيماً تذروه الرياح، يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة الدنيا، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه وأطنب، ليستقر معناه في النفوس ويحدث أثره في القلب، فقال مرة: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً). وقال مرة أخرى: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً). وقال مرة ثالثة (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأزينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلنا حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).
ولما كان للمال أثره في الحياة الاجتماعية لعب التشبيه دور في التأثير في النفس كي تسمح ببذله في سبيل تخفيف أعباء المجتمع فقرر، مضاعفة الثواب على ما يبذل في هذه الناحية فقال في موضع: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فأن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير). فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض ترتوي بما هي في حاجة إليه من ماء المطر وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها الماء حتى يتلفها كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفاً. وفي مرة أخرى رأى مضاعفة جزاء الحسنة كمضاعفة الثمرة لهذا الذي يبذر حبة قمح فتخرج عوداً يحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). وحاط القرآن هذه المضاعفة بشرط كون الإنفاق عن رياء. وهنا قف أمام هذا التشبيه القرآني الذي سيق تصويراً لمن يتصدق لا عن باعث نفسي، نتبين إيحاءاته، ونتلمس وجه اختياره، إذ يقول سبحانه: (يا أيها الذي آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق رثاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً، لا يقدرون على مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين)، أرأيت هذا الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب فخاله الرائي صالحاً للزرع والإنبات، لكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدأ الحجر على حقيقته صلداً لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب ولا تربة صالحة للزراعة؟ إلا ترى في اختيار كلمة الصفوان هنا ما يمثل لك هذا القلب الخالي من الشعور الإنساني النبيل، والعطف على أبناء جنسه عطفاً ينبع من شعور حي صادق، ولكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائي، قلباً ينبض بحب الإنسانية ويبني عليه كبار الآمال فيما سوف يقدمه للمجتمع من خير، ولكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيلا هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسياً صلباً لا يلين.
وتأتي الكاف في القرآن أحيانا لا لهذا التشبيه الفني الخالص، بل لإيقاع التساوي بين أمرين، ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى (وعد الله المنافقين والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالاً وأولادا، فاستمتعتوا بخلاقهم كما استمتعتم بخلاقكم. كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداًعليكم، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول، فأخذناه أخذاً وبيلاً)؛ فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم. وإلى هنا يقف تاركاً لهم أن يصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب، وإنها لطريقة مؤثرة في النفس حقاً أن تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
ومن كاف التساوي أيضا قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، وقد يلمح في ذلك الرغبة في إزالة الغرابة عن نفوس السامعين واستبعادهم نزول الوحي على الرسول، فالقرآن يقرنه بمن لا يشكون في رسالته، ليأنسوا بدعوة النبي؛ وقد يكون في هذا التساوي مثار للتهكم، كما في قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)؛ أو مثار للاستنكار، كما في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) فسر الاستنكار كما ترى هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله.
وقد تأتي الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هي وما بعده مقام المثال للقاعدة، وغير خاف ما للمثل يضرب من التأثير والإقناع؛ ومن ذلك قوله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)، فجاء بآل فرعون مثالا لأولئك الذين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. ومن كاف الإيضاح قوله سبحانه: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني).
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
بتاريخ: 11 - 09 - 1950
ويهدف التشبيه في القرآن إلى ما يهدف إليه كل فن بلاغي فيه، من التأثير في العاطفة، فترغب أو ترهب، ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذي يزيد نفسيتهم وضوحاً، ويصور وقوع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
يصور لنا حالهم وقد استمعوا إلى دعوة الداعي فلم تثير فيهم تلك الدعوة رغبة في التفكير فيها لمعرفة ما قد تنطوي عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة وما أشبههم حينئذ بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئاً مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى فهو لا يرى الحق الواضح وبذلك شبههم بالقرآن، فقال: (ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقراً، فبشره بعذاب أليم) وقال: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي، فهم لا يعقلون).
أما ما يشعرون به عندما يسمعون دعوة الحق فضيق يملأ صدورهم، ويئودهم حمله، كهذا الضيق الذي يشعر به المصعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء، وهكذا صور الله ضيق صدورهم بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)
وما دام هؤلاء القوم لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، فقد وجد القرآن في الأنعام شبيها لهم يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات، فقال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)، وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوباً لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها وآذانا لا يسمعون بها. ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقاً إلى إنزالهم منزلة البهائم، فإذا ورد هذا التشبيه عليك، وجد في قلبك مكانا ولم تجد فيه بعداً ولا غرابة، بل يزل بهم حيناً عن درجة الأنعام فيراهم خشباً مسندة.
وحيناً يريد أن يصورهم، وقد وجدوا في الهرب والنفرة تلك الدعوة الجديدة فيقول: (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرة مستنفرة، فرت من قسورة)، وقد تحدثنا عن هذا التشبيه فيما مضى.
أما هذا آمن ثم كفر وأنسلخ عن الإيمان وأتبع هواه فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته. ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة مضطرب الفؤاد سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهث طردثه أو زجرته، أم تركته وأهملته، قال: (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فأقصص القصص لعلهم يتفكرون).
ولم ينس القرآن تصوير حيويتهم، واضطراب نفسيتهم في اضطرابهم صلة بينهم وبين من أستوقد ناراً ثم ذهب الله بنورهم وبين السائر تحت منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق.
وصور وهن ما يعتمد عليه من يتخذ من دون الله أولياء بوهن بيت العنكبوت، وحين أراد أن يتحدث عن أن هؤلاء الأولياء لن يستفيد منهم عابد وهم بشيء، رأى في هذا الذي كفيه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه شبيها لهم فقال: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وتعرض لأعمال الكفرة كما سبق أن ذكرنا ولصدقاتهم التي كان جديراً بها أن تثمر ونزهر، ويفيدوا منها لولا أن هبت عليهم ريح الشرك فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح، فيها صر، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم يظلمون).
وهناك طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة لجأ إليها القرآن للتصوير والتأثير معاً، فإذا أراد القرآن أن يبين قدرة الله على أن يأتي بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون لجأ إلى أسرع مما يراه الرائي، فأتخذه مثلا يؤدي إلى الهدف المراد، فيقول: (وله غيب السماوات والأرض، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب، إن الله على كل شيء قدير).
ويقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء خلق الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء فيقول: (كما بدأكم تعودون) وبتوجيه النظر إلى هذا السحاب الثقال يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض خرج الثمر منها يانعاً، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى، قال سبحانه: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقاه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
وإذا جاء يوم القيامة أستيقظ الناس لا يشعرون بأنه قد مضى عليهم حين من الدهر طويل منذ فارقوا حياتهم، ويورد القرآن من التشبيه ما يصور هذه الحالة النفسية العجيبة، فيقول (يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم، قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين)، وإذا نظرت إلى قوة التشبيه مقترنة بقوله: يتعارفون بينهم، أدركت مدى ما يستطيع أن يحدثه في النفس من أثر. وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر يريد أن يثبته في النفس ويؤكده فقال: (يسألونك عن الساعة إيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
هاهم أولاء قد بعثوا خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مدرها، وماذا يستطيع أن يرسم لك تلك الصورة، تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، أفضل من هذا التشبيه الذي أورده القرآن حين قال: (خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشرة، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر). وحينا يصورهم ضعافاً يتهافتون مسرعين إلى الداعي كي يحاسبهم فيجد في الفراش صورتهم، فيقول: (القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). ولا أخال أحداً لم ير الفراش يسرع إلى الضوء، ويتهافت عليه في ضعف وإلحاف معاً، ولقد تناول القرآن إسراعهم مرة أخرى، فشبههم بهؤلاء الذي كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصاباً مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق فيقول: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون).
ويتناول المجرمين، فيصور ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزي، ويرسم وجوههم وقد علتها الكآبة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعائهم فكأنما طعموا نحاساً ذائباً أو زيتاً ملتهباً، وإذا ما أشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوي وجوهه. قال تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) وقال سبحانه: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفاً وانزعاجا؟
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذي أصابه مس من الشيطان فه لا ينهض واقفاً حتى يسقط، ولا يقوم إلا ليقع، ذلك مثل آكل الربا (الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا).
ولعب التشبيه دوراً في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة النار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون (كالعهن المنفوش) وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجو ذا لون أحمر كالورد: (فإذا انشقت السماء، فكانت وردة كالدهان)، وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط، (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممداً في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح فيقول: (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضراً، وتقريب البعيد النائي حتى يصبح قريباً دانياً.
ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء فيصبح بهيجاً نضراً، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر ويبح هشيماً تذروه الرياح، يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة الدنيا، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه وأطنب، ليستقر معناه في النفوس ويحدث أثره في القلب، فقال مرة: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً). وقال مرة أخرى: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً). وقال مرة ثالثة (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأزينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلنا حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).
ولما كان للمال أثره في الحياة الاجتماعية لعب التشبيه دور في التأثير في النفس كي تسمح ببذله في سبيل تخفيف أعباء المجتمع فقرر، مضاعفة الثواب على ما يبذل في هذه الناحية فقال في موضع: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فأن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير). فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض ترتوي بما هي في حاجة إليه من ماء المطر وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها الماء حتى يتلفها كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفاً. وفي مرة أخرى رأى مضاعفة جزاء الحسنة كمضاعفة الثمرة لهذا الذي يبذر حبة قمح فتخرج عوداً يحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). وحاط القرآن هذه المضاعفة بشرط كون الإنفاق عن رياء. وهنا قف أمام هذا التشبيه القرآني الذي سيق تصويراً لمن يتصدق لا عن باعث نفسي، نتبين إيحاءاته، ونتلمس وجه اختياره، إذ يقول سبحانه: (يا أيها الذي آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق رثاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً، لا يقدرون على مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين)، أرأيت هذا الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب فخاله الرائي صالحاً للزرع والإنبات، لكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدأ الحجر على حقيقته صلداً لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب ولا تربة صالحة للزراعة؟ إلا ترى في اختيار كلمة الصفوان هنا ما يمثل لك هذا القلب الخالي من الشعور الإنساني النبيل، والعطف على أبناء جنسه عطفاً ينبع من شعور حي صادق، ولكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائي، قلباً ينبض بحب الإنسانية ويبني عليه كبار الآمال فيما سوف يقدمه للمجتمع من خير، ولكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيلا هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسياً صلباً لا يلين.
وتأتي الكاف في القرآن أحيانا لا لهذا التشبيه الفني الخالص، بل لإيقاع التساوي بين أمرين، ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى (وعد الله المنافقين والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالاً وأولادا، فاستمتعتوا بخلاقهم كما استمتعتم بخلاقكم. كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداًعليكم، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول، فأخذناه أخذاً وبيلاً)؛ فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم. وإلى هنا يقف تاركاً لهم أن يصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب، وإنها لطريقة مؤثرة في النفس حقاً أن تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
ومن كاف التساوي أيضا قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، وقد يلمح في ذلك الرغبة في إزالة الغرابة عن نفوس السامعين واستبعادهم نزول الوحي على الرسول، فالقرآن يقرنه بمن لا يشكون في رسالته، ليأنسوا بدعوة النبي؛ وقد يكون في هذا التساوي مثار للتهكم، كما في قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)؛ أو مثار للاستنكار، كما في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) فسر الاستنكار كما ترى هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله.
وقد تأتي الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هي وما بعده مقام المثال للقاعدة، وغير خاف ما للمثل يضرب من التأثير والإقناع؛ ومن ذلك قوله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)، فجاء بآل فرعون مثالا لأولئك الذين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. ومن كاف الإيضاح قوله سبحانه: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني).
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
بتاريخ: 11 - 09 - 1950