لم تظفر قصيدة في شعر أبي فراس من الشهرة بما ظفرت به قصيدته الرّائية التي بدأها بقوله:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فهي أكثر قصائده دوراناً على الألسنة، وقد أغرت بعض الأدباء بتشطيرها حيناً، وتخميسها حينا آخر، ومعارضتها مرة أخرى.
وممن شطر هذه القصيدة الأستاذ الكناني الأبياري (سنة 986 هـ)، وليس في تطيره من جديد سوى زيادة عدد الأبيات، وكان عمل المشطر أن كرر المعنى، أو فصله بعض التفصيل، وهاك نموذجاً لما فعل:
قال أبو فراس:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
فشطره الكناني بقوله:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... إذا لم يكن عز فإن الردى خير
ومن يرتضي ردّ الردى بمعرة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وعلى هذا النسق يسير، لا يأتي بمعنى جديد، ولا يكمل معنى جاء به الشاعر الأول. ولا ريب أن ما جاء به الكناني شديد الضعف بموازنته بما جاء به أبو فراس. ثم عاد الكناني، فشرح الأصل والتشطير، يشرح الكلمات اللغوية أولاً، ثم يعود إلى الشرح الإجمالي، وسمى عمله (إيناس الجلاس، بتشطير وشرح قصيدة أبي فراس).
وخمس هذه الرائية الجنبيهي، المعاصر للكناني، وهذا التخميس أقلق قوة من تشطير معاصره، وقد أضعف القصيدة، وأنهك معناها، وكثيراً ما كان يتلمس الوصول إلى البيت بمعان ليست في الصميم، كما ترى في تخميس بيتي أبي فراس:
وإني لنزال بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة ألا بخل بها النصر
خمسها الجنبيهي بقوله:
وليس لها ما بين لين وعطفة ... وبين الجفا والصد أدنى مسافة
لذا صرت منها في ارتعاد ورجفة ... وإني لنزل بكل مخوفة
كثير إلى نزالها النظر الشزر
فيا سعد مهلاً، ليس نأيي لوحشة ... من الأهل، لا بل مزعجات محبة
وإني من قوم كرام أعزة ... وإني لجرار لكل كتيبة
معودة ألا يخل بها النصر
فأنت ترى ضعف التأليف، وكيف كان الشاعر يلتمس المعاني التي تصل به إلى البيت لأدنى ملابسة، وكيف إن الجمع بين الغزل والفخر أضعف كليهما، ولكنك تحس بقوة القصيدة منفردة عن التشطير والتخميس.
وعارض البارودي وهو في المنفى، تلك القصيدة الرائية التي أنشأها أبو فراس وهو في الأسر، وافتخر الشاعران في القصيدتين، وبدأهما بالغزل.
كانت طبيعة الغزل في القصيدتين مستمدة من موقف الشاعرين، فاقتبس الحديث عن الحب من ذلك الموقف مشاعره وإحساساته. أما أبو فراس فقد أنشأ قصيدته في أيام أسره الأولى، عندما كان الأمل يملأ قلبه في أن ابن عمه سيسرع إلى فدائه، وهو من أجل ذلك يبدي الجلد والصبر، وإن كان لا يستطيع بينه وبين نفسه أن يخفي اللوعة والأسى، فهو أمام الناس جلد صبور، حتى إذا جن الليل وانفرد، بكى ما شاء له البكاء.
هذا الخاطر الذي كان يملأ نفسه، هو الذي أوحى إليه بهذا الشعور عندما تحدث عن الحب فقال:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى، أنا مشتاق، وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وتستطيع أن ترى أثر موقفه في مبدأ الأسر جلياً في غزل هذه القصيدة، وأكاد ألمس فيها نوعاً من الرمز والإيماء، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف غنها عللّته بالوصل حيناً إذ يقول:
معلّلتي بالوصل، والموت دونه ... إذا مت ظمأنا، فلا نزل القطر
وكيف إنها تجاهلته حيناً آخر:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت، كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت أيهم؟ فهمو كثر
فقلت لها: لو شئت لم تتعّني ... ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
فقالت: لقد أزرى بك الدَّهر بعدنا ... فقلت: معاذ الله، بل أنت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك ... إلى القلب، لكن الهوى للبلا جسر
وينتقل أبو فراس بعدئذ انتقالاً طبيعياً إلى الفخر بنفسه إذ يقول:
فلا تنكريني يا ابنة العم، إنه ... ليعرف من أنكرته البدو والحضر
ولا تنكريني، إنني غير منكر ... إذا زلت الأقدام واستنزل النصر
وهنا وجد المجال فسيحاً للحديث عن خصاله الحربية، ومزاياه؛ فتحدث عن أنه ميمون الطالع، قائد مظفر، لا يخشى المعارك المخوفة، بل يخوض غمارها، حتى ترتوي البيض، وتشبع الذئاب والنسور، لا يغتال عدوه، ولا يفجؤه، بل يرسل إليه النذر تخيفه وتحذره، ثم يصور لك إقدامه في صورة بارعة إذ يقول:
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
فهذا حصن منيع قد وثق بنفسه، ولكن لم يلبث الفجر أن قاد إليه الهلاك عندما صعد إليه أبو فراس يحمل له الردى. وتحدث الشاعر عن احترامه للمرأة، حتى تستطيع شجاعته إلا أن تلقي بسلاحها أمامها، فيعفو عن قومها ويرد إليهم أسلابهم. ثم هو رجل لا يطغيه الغنى، ولا يثنيه الفقر عن الكرم، وهو في كل هذا الحديث قوي يشيع في أبياته روح الأمل.
وانتقل بعدئذ إلى حديث أسره، فلم ينسبه إلى ضعف بدر منه، بل قضاء غلاب، لا يستطيع امرؤ أن يفلت منه:
أسرت، وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر، ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: (الفرار أو الردى) ... فقلت: هما أمران، أحلاهما مر
ولكنني أمضي لمالا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولعل أبا فراس صغّر الأصحاب هنا تقليلاً لعددهم، وتحقيرا لشأنهم.
كان الأمل يملأ شعره في هذه القصيدة، ولهذا رأيناه يستقبل الأسر بصدر رحب، لإيمانه بأن قومه لا بد ذاكروه وفادوه. فليس عندهم من يملأ مكانه إذا غاب:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ويختم أبو فراس قصيدته مفتخراً بقومه الذين يحتلون في قومهم مركز الصدارة، ولا يقبلون دونه مكاناً ن ففي سبيله تهون نفوسهم، ويشتد شعور أبي فراس بهم وبعزتهم فيقول:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
أما البارودي فقد كان غزله كذلك مستمداً من موقفه، فإذا كان أبو فراس مؤملا يخفي آلامه، فإن البارودي - وقد جفت آماله - لا يجد بداً من أن يتحدث ببعض ما يشعر به من أسى وحزن، وإن كان يخفي في قلبه من اللوعة أكثر مما يبين، فتلون عزله بهذا اللون، فرأيناه يبوح بالحب لا ينهاه عن ذلك زجر ولا عتاب، وهو يرى الحب، وربما كان يرمز به إلى مصيره - أمراً مقدورا، ليس لامرئ فيه من نهي ولا أمر، وإنه ليقاسي من هذا الحب أعنف ما يقاسيه إنسان، ومع هذا لا يبدي كل ما يحمله صدره من الوجد، ولا يترك دموعه تهمي، لا صبراً في انتظار تحقيق أمل، ولكن حياء وكبراً، واستمع إليه يقول:
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة، مما يضن بها التجر
سريع هوى يلوي بي الشوق كلما ... تلألأ برق أو سرت ديم غزر
إذا مال ميزان النهار رأيتني ... على حسرات، لا يقاومها صبر
يقول أناس: إنه السحر ضلة ... وما هي إلا نظرة دونها السحر
فكيف يعيب الناس أمري، وليس لي ... ولا لامرئ في الحب نهي ولا أمر
ولو كان مما يستطاع دفاعه ... لألوت به البيض المباتير والسمر
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على أنني كاتمت صدري حرقة ... من الوجد لا يقوى على حملها صدر
وكفكفت دمعا لو أسلت شؤونه ... على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر
حياء وكبراً أن يقال: ترجحت ... به صبوة أو فل من غربه الهجر فأنت ترى الغزل مستمدا من حاله، ولو أنك جعلت ما يهواه وطنه، وأدرت عليه الحديث لم تبعد.
لم يطل البارودي بعدئذ في الحديث عن نفسه كما فعل أبو فراس، بل اكتفى ببيت واحد يحمل خيبة الآمال، إذ قال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر
وكان المجال أمامه فسيحا لتعداد مواقفه في الحرب والسياسة، ولكن يبدو أن يأسه ساعتئذ قد تغلب عليه، فصرفه عن الحديث ماض لا سبيل إلى استئنافه، على عكس أبي فراس، القوي الأمل في أن يعود - كما كان - البطل المفدى. وكان المجال فسيحاً كذلك أمام البارودي للحديث عن نفسه، والدفاع عن نفسه، كما تحدث أبو فراس عن أسره، ولكنه لم يفعل، ولعله اكتفى في ذلك بما تحدث به في قصائد أخرى كثيرة.
أما الذي أطال الحديث فيه حتى استغرق معظم قصيدته على عكس أبي فراس، فحديثه عن آبائه. وقد ذكروا أنه ينحدر من المماليك الشركية، فاتخذ من ذكراهم وسيلة يشبع بها عاطفته في الفخر، ويسلي نفسه بمصايرهم، وسجل لهؤلاء الأسلاف شجاعتهم وكرمهم، وهنا يستعير خيالاً بدوياً إذ يقول:
لهم عمد مرفوعة، ومعاقل ... وألوية حمرن وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعرى ويلثمها الغفر
وختم قصيدته ختاماً يائساً حزيناً، رثى فيه قومه وقد مضوا، وسوف يمضي على أثرهم:
لعمرك ما حي وإن طال سيره ... يعد طليقاً والمنون له أسر
وما هذه الأيام إلا منازل ... يحل بها سفرن ويتركها سفر
فلا تحسين المرء فيها بخالد ... ولكنه يسعى، وغايته العمر
أما أبو فراس فقد ختم قصيدته مالئاً شدقيه من الفخر بقومه الذين كانوا يومئذ قابضين على الملك والسلطان.
هذا، وقد ظفرت قصيدة أبي فراس بشهرة في العالم العربي الحديث، كما رأينا، وغنت أم كلثوم بعض غزلها، وسارت على الألسنة بعض أبياتها كقوله: ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقوله:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقوله: (ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر).
وأما قصيدة البارودي فلم تظفر من الشهرة بنصيب.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
مجلة الرسالة - العدد 853
بتاريخ: 07 - 11 - 1949
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فهي أكثر قصائده دوراناً على الألسنة، وقد أغرت بعض الأدباء بتشطيرها حيناً، وتخميسها حينا آخر، ومعارضتها مرة أخرى.
وممن شطر هذه القصيدة الأستاذ الكناني الأبياري (سنة 986 هـ)، وليس في تطيره من جديد سوى زيادة عدد الأبيات، وكان عمل المشطر أن كرر المعنى، أو فصله بعض التفصيل، وهاك نموذجاً لما فعل:
قال أبو فراس:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
فشطره الكناني بقوله:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... إذا لم يكن عز فإن الردى خير
ومن يرتضي ردّ الردى بمعرة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وعلى هذا النسق يسير، لا يأتي بمعنى جديد، ولا يكمل معنى جاء به الشاعر الأول. ولا ريب أن ما جاء به الكناني شديد الضعف بموازنته بما جاء به أبو فراس. ثم عاد الكناني، فشرح الأصل والتشطير، يشرح الكلمات اللغوية أولاً، ثم يعود إلى الشرح الإجمالي، وسمى عمله (إيناس الجلاس، بتشطير وشرح قصيدة أبي فراس).
وخمس هذه الرائية الجنبيهي، المعاصر للكناني، وهذا التخميس أقلق قوة من تشطير معاصره، وقد أضعف القصيدة، وأنهك معناها، وكثيراً ما كان يتلمس الوصول إلى البيت بمعان ليست في الصميم، كما ترى في تخميس بيتي أبي فراس:
وإني لنزال بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة ألا بخل بها النصر
خمسها الجنبيهي بقوله:
وليس لها ما بين لين وعطفة ... وبين الجفا والصد أدنى مسافة
لذا صرت منها في ارتعاد ورجفة ... وإني لنزل بكل مخوفة
كثير إلى نزالها النظر الشزر
فيا سعد مهلاً، ليس نأيي لوحشة ... من الأهل، لا بل مزعجات محبة
وإني من قوم كرام أعزة ... وإني لجرار لكل كتيبة
معودة ألا يخل بها النصر
فأنت ترى ضعف التأليف، وكيف كان الشاعر يلتمس المعاني التي تصل به إلى البيت لأدنى ملابسة، وكيف إن الجمع بين الغزل والفخر أضعف كليهما، ولكنك تحس بقوة القصيدة منفردة عن التشطير والتخميس.
وعارض البارودي وهو في المنفى، تلك القصيدة الرائية التي أنشأها أبو فراس وهو في الأسر، وافتخر الشاعران في القصيدتين، وبدأهما بالغزل.
كانت طبيعة الغزل في القصيدتين مستمدة من موقف الشاعرين، فاقتبس الحديث عن الحب من ذلك الموقف مشاعره وإحساساته. أما أبو فراس فقد أنشأ قصيدته في أيام أسره الأولى، عندما كان الأمل يملأ قلبه في أن ابن عمه سيسرع إلى فدائه، وهو من أجل ذلك يبدي الجلد والصبر، وإن كان لا يستطيع بينه وبين نفسه أن يخفي اللوعة والأسى، فهو أمام الناس جلد صبور، حتى إذا جن الليل وانفرد، بكى ما شاء له البكاء.
هذا الخاطر الذي كان يملأ نفسه، هو الذي أوحى إليه بهذا الشعور عندما تحدث عن الحب فقال:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى، أنا مشتاق، وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وتستطيع أن ترى أثر موقفه في مبدأ الأسر جلياً في غزل هذه القصيدة، وأكاد ألمس فيها نوعاً من الرمز والإيماء، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف غنها عللّته بالوصل حيناً إذ يقول:
معلّلتي بالوصل، والموت دونه ... إذا مت ظمأنا، فلا نزل القطر
وكيف إنها تجاهلته حيناً آخر:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت، كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت أيهم؟ فهمو كثر
فقلت لها: لو شئت لم تتعّني ... ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
فقالت: لقد أزرى بك الدَّهر بعدنا ... فقلت: معاذ الله، بل أنت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك ... إلى القلب، لكن الهوى للبلا جسر
وينتقل أبو فراس بعدئذ انتقالاً طبيعياً إلى الفخر بنفسه إذ يقول:
فلا تنكريني يا ابنة العم، إنه ... ليعرف من أنكرته البدو والحضر
ولا تنكريني، إنني غير منكر ... إذا زلت الأقدام واستنزل النصر
وهنا وجد المجال فسيحاً للحديث عن خصاله الحربية، ومزاياه؛ فتحدث عن أنه ميمون الطالع، قائد مظفر، لا يخشى المعارك المخوفة، بل يخوض غمارها، حتى ترتوي البيض، وتشبع الذئاب والنسور، لا يغتال عدوه، ولا يفجؤه، بل يرسل إليه النذر تخيفه وتحذره، ثم يصور لك إقدامه في صورة بارعة إذ يقول:
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
فهذا حصن منيع قد وثق بنفسه، ولكن لم يلبث الفجر أن قاد إليه الهلاك عندما صعد إليه أبو فراس يحمل له الردى. وتحدث الشاعر عن احترامه للمرأة، حتى تستطيع شجاعته إلا أن تلقي بسلاحها أمامها، فيعفو عن قومها ويرد إليهم أسلابهم. ثم هو رجل لا يطغيه الغنى، ولا يثنيه الفقر عن الكرم، وهو في كل هذا الحديث قوي يشيع في أبياته روح الأمل.
وانتقل بعدئذ إلى حديث أسره، فلم ينسبه إلى ضعف بدر منه، بل قضاء غلاب، لا يستطيع امرؤ أن يفلت منه:
أسرت، وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر، ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: (الفرار أو الردى) ... فقلت: هما أمران، أحلاهما مر
ولكنني أمضي لمالا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولعل أبا فراس صغّر الأصحاب هنا تقليلاً لعددهم، وتحقيرا لشأنهم.
كان الأمل يملأ شعره في هذه القصيدة، ولهذا رأيناه يستقبل الأسر بصدر رحب، لإيمانه بأن قومه لا بد ذاكروه وفادوه. فليس عندهم من يملأ مكانه إذا غاب:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ويختم أبو فراس قصيدته مفتخراً بقومه الذين يحتلون في قومهم مركز الصدارة، ولا يقبلون دونه مكاناً ن ففي سبيله تهون نفوسهم، ويشتد شعور أبي فراس بهم وبعزتهم فيقول:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
أما البارودي فقد كان غزله كذلك مستمداً من موقفه، فإذا كان أبو فراس مؤملا يخفي آلامه، فإن البارودي - وقد جفت آماله - لا يجد بداً من أن يتحدث ببعض ما يشعر به من أسى وحزن، وإن كان يخفي في قلبه من اللوعة أكثر مما يبين، فتلون عزله بهذا اللون، فرأيناه يبوح بالحب لا ينهاه عن ذلك زجر ولا عتاب، وهو يرى الحب، وربما كان يرمز به إلى مصيره - أمراً مقدورا، ليس لامرئ فيه من نهي ولا أمر، وإنه ليقاسي من هذا الحب أعنف ما يقاسيه إنسان، ومع هذا لا يبدي كل ما يحمله صدره من الوجد، ولا يترك دموعه تهمي، لا صبراً في انتظار تحقيق أمل، ولكن حياء وكبراً، واستمع إليه يقول:
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة، مما يضن بها التجر
سريع هوى يلوي بي الشوق كلما ... تلألأ برق أو سرت ديم غزر
إذا مال ميزان النهار رأيتني ... على حسرات، لا يقاومها صبر
يقول أناس: إنه السحر ضلة ... وما هي إلا نظرة دونها السحر
فكيف يعيب الناس أمري، وليس لي ... ولا لامرئ في الحب نهي ولا أمر
ولو كان مما يستطاع دفاعه ... لألوت به البيض المباتير والسمر
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على أنني كاتمت صدري حرقة ... من الوجد لا يقوى على حملها صدر
وكفكفت دمعا لو أسلت شؤونه ... على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر
حياء وكبراً أن يقال: ترجحت ... به صبوة أو فل من غربه الهجر فأنت ترى الغزل مستمدا من حاله، ولو أنك جعلت ما يهواه وطنه، وأدرت عليه الحديث لم تبعد.
لم يطل البارودي بعدئذ في الحديث عن نفسه كما فعل أبو فراس، بل اكتفى ببيت واحد يحمل خيبة الآمال، إذ قال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر
وكان المجال أمامه فسيحا لتعداد مواقفه في الحرب والسياسة، ولكن يبدو أن يأسه ساعتئذ قد تغلب عليه، فصرفه عن الحديث ماض لا سبيل إلى استئنافه، على عكس أبي فراس، القوي الأمل في أن يعود - كما كان - البطل المفدى. وكان المجال فسيحاً كذلك أمام البارودي للحديث عن نفسه، والدفاع عن نفسه، كما تحدث أبو فراس عن أسره، ولكنه لم يفعل، ولعله اكتفى في ذلك بما تحدث به في قصائد أخرى كثيرة.
أما الذي أطال الحديث فيه حتى استغرق معظم قصيدته على عكس أبي فراس، فحديثه عن آبائه. وقد ذكروا أنه ينحدر من المماليك الشركية، فاتخذ من ذكراهم وسيلة يشبع بها عاطفته في الفخر، ويسلي نفسه بمصايرهم، وسجل لهؤلاء الأسلاف شجاعتهم وكرمهم، وهنا يستعير خيالاً بدوياً إذ يقول:
لهم عمد مرفوعة، ومعاقل ... وألوية حمرن وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعرى ويلثمها الغفر
وختم قصيدته ختاماً يائساً حزيناً، رثى فيه قومه وقد مضوا، وسوف يمضي على أثرهم:
لعمرك ما حي وإن طال سيره ... يعد طليقاً والمنون له أسر
وما هذه الأيام إلا منازل ... يحل بها سفرن ويتركها سفر
فلا تحسين المرء فيها بخالد ... ولكنه يسعى، وغايته العمر
أما أبو فراس فقد ختم قصيدته مالئاً شدقيه من الفخر بقومه الذين كانوا يومئذ قابضين على الملك والسلطان.
هذا، وقد ظفرت قصيدة أبي فراس بشهرة في العالم العربي الحديث، كما رأينا، وغنت أم كلثوم بعض غزلها، وسارت على الألسنة بعض أبياتها كقوله: ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقوله:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقوله: (ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر).
وأما قصيدة البارودي فلم تظفر من الشهرة بنصيب.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
مجلة الرسالة - العدد 853
بتاريخ: 07 - 11 - 1949