عبد الإله شبار - الشعرية العربية وأثرها في النثر

هناك حكاية تداولتها مجموعة من الدراسات المهتمة بالشعر العربي المعاصر الأستاذ "العقاد "حين عرضت عليه "قصيدة" من "الشعر الحر" في إحدى المباريات الشعرية وقع تحتها "تحال على لجنة النثر للاختصاص" إن هذا التصور تبناه "العقاد" هو تمرة توجه شبه عام عرفته التفافة العربية ؛وكان يرمي إلى ترسيخ التمييز بين الشعر و النثر على أساس الوزن بشكل قد يدفع إلى الاعتقاد بأن الشعرية العربية تتلخص في هذا العنصر الذي وصفه "ابن رشيق" أعظم أركان حد الشعر ".(1) لكن إحساس بعض النقاد بهشاشة هذا الحد دفعهم إلى البحث عن فروق أخرى ركزت تارة على الأسلوب، وتارة على المواضيع والأغراض، وتارة على القيم الفنية المميزة لكل فن على حدة.
لكن الإسراف في رسم هذه الحدود والفروق إضافة إلى التناقضات المرتبطة بذلك يدعوان إلى تدبر هذه المحاولات التي قد تعطي – على كل حال- تصورا على الشعرية العربية كما تمثلها القدماء، وقد – نستطيع من خلال ذلك أيضا- أن نتتبع الأثر الذي ستمارسه هذه الشعرية عل النثر العربي باعتبار الطرف المقابل في هذا الموضوع. في هذا الإطار سنمهد أولا بتلك الآراء التي تحدثت عن صعوبة الجمع بين الصناعتين؛ قال سهل بن هارون: " اللسان البليغ الجيد لا يكادان يجتمعان في واحد، من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم".(2) هذه الفكرة التي نجدها في أكثر من مصدر(3) كانت محورا لمجموعة من المناقشات؛ من بينها "رسالة(4)
لأبي إسحاق ابراهيم بن هلال الصابي تناول فيها الفرق بين المترسل والشاعر، يقول في مطلعها: " كنت سألتني أدام الله عزك عن السبب في أن أكثر المترسلين البلغاء لا يفلقون في الشعر، وأكثر الشعراء الفحول لا يجيدون في التراسل". والقضية نفسها ناقشها "المرزوقي" في مقدمة شرحه " لديوان الحماسة".والمشكل هنا لا يرتبط بالسؤال بقدر ما يتعلق بالجواب الذي ساقه "الصابي" ليحل به هذه المعظلة،(5) إذ علل صعوبة الجمع بين الصناعتين بوجود فروق جوهرية بيمهما؛يقول:
"أن طريق اإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن أفخر الترسل هو ما وضح معناه فأعطاك غرضه في أول وهلة سماعه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مما طلت منه، وغوص منك عليه". وهذا يعني أن الفرق بيت الشعر والنثر – حسب " الصابي- يمكن في اعتماد الأول على "الغموض" واعتماد الثاني على "الوضوح".
لكن هذا الفرق بهذا التعميم فين نظر، لأن الوضوح الذي يتحدث عنه "الصابي" هنا وينسبه إلى النثر هو وضوح يرتبط بوضع افتراضي مقرر لهذا الفن من حيث أغراضه وموضوعاته ، يقول: إنما المترسلين إنما يترسلون في جباية خراج أو سد ثغر أو عمارة بلاد أو صلاح فساد.. أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوب، والشعراء أنما أغراضهم وصف الديار،والآثار ، والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء".أن الوضوح المتحدث عنه هنا يرتبط "بالنثر النفعي" المقترن بدواوين الإنشاء. وكلنا يعلم أن النثر العربي تجاوز هذا الوضع بكثير حين ارتبط بالأغراض الإخوانية، وما يتصل بها من مواضيع أدخل في الأدب. أما الغموض المنسوب إلى الشعر فخاصية مقترنة بظروف التلقي لا بالشعر. ويفسر عبد القاهر الجرجاني في "أسرار البلاغة" هذه الظروف بقوله: "إن المعنى إذا أتاك ممثلا فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه، وما كان منه ألطف كان امتناعه عليك أكثر، أو الاشتياق إليه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف .(6)
وإذا كان حب الغموض يرتبط بظاهرة نفسية لدى المتلقي، فليس بضربة لازب أن يستحب في الشعر دون غيره من الفنون. وقد أدرك بعض النقاد القدماء أيضا هشاشة الآراء التي جاء بها "الصابي" فنقضوها من زاوية أخرى ، من بينهم "ابن سنان الخفاجي" الذي يروي أن من شروط الفصاحة والبلاغة أن يكون معنى الكلام واضحا ، سواء كان منظوما أو منثورا، وقد ذهب إلى أن الصابي غلط حين زعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة ، والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم، ولا فرق بينهما، ول شبهة تعترض المتأمل في ذلك".(7) وقد انتقد "ضياء الدين بن الأثير" آراء "الصابي" . ورفض الفصل بين الشعر والنثر على أساس اختلاف الموضوعات المتخصصة لكل منهما . وذهب إلا أن ذلك الفصل "تحكم محض لا يستند إلى شبهة فضلا عن بينة".(8) لكن " الصابي" لم يكتف بهذه الحدود، با ذهب إلى إعلان المفارقة التامة بين لبنثر الشعر؛ يقول: "قجميع ما يستحب في الأول يستكره في الثاني. وجميع ما يستحب في الثاني يستكره في الأول".
وتأخذها الحيرة إزاء هذا الكلام حين نضع بجانبه كلام مخالفا لناقد آخر. قال صاحب "نقد النثر" نعد أن ذكر عناصر الجودة والرداءة في الشعر:"فكل ما ذكرناه هناك من أوصاف حد الشعر، فاستعمله في الخطابة والترسل، وكل ما قلناه من معايبه فتجنبه ها هنا ".(9) ونخلص من هذا تاكلام إلى أن الفروق التي اجتهد "الصابي" في استخراجها وتفصيلها لم تصمد أمام تمحيص النقاد وإن كانت لقيت التأييد عند بعضهم؛ أمثال: "المرزوقي" و "عبد القاهر الجرجاني" و "ابن أبي حديد" .(10) لكن النظر الأصح إلى هذه القضية يدفعنا إلى القول مع "ابن الأثير" بأن "الصابي" على ذلاقة لسانه، وبلاغة بيانه، كان ناكبا عن الصواب في مناقشته لهذه القضية. والحديث عن "الصابي" في هذا الإطار هو من باب التمثيل فحسب، وإلا فإن فروقا وأغلاطا من هذا القبيل توجد في أكثر من مصدر. ومنبع هذا الخلل يعود في رأيي إلى أن أصحاب هذا التوجه لم ينطلقوا من واقع الحركة الأدبية. وإنما صدروا في آرائهم عن مجموعة من الأوضاع المفترضة التي ينبغي أن تكون عليها تلك الحركة. وقد نتبين بوضوح هذا المفارقة بين الواقع والمفترض من خلال ما صرح به "ابن خلدون" وهو بصدد الحديث عن الفنون الأدبية، يقول: "واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عن أهله، ول تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر والحمد والدعاء المختص بالخطيب.." إلى هذه الحدوث حديث"ابن خلدون" يتعلق بما ينبغي أن يكون. أما الواقع فيصفه بقوله:"وقد استعمل المؤرخون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفيه. وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفه ولم يفترقا إلا في الوزن".(11) وهذا يعني أن المبالغة في رسم الحدود بين الشعر والنثر إنما تقوم على أساس نظري مفترض فقط، في حين ألغى التطبيق كل الفوارق اللهم فرقا واحدا هو الوزن. ولذلك وجد من بين النقاد العرب من آمن بالتقارب والتماهي بين الصناعتين،منهم:"أبو حيان التوحيدي" الذي وصف حقيقة هذا التماهي خير وصف حين قال: "ففي النثر ظل النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا، ولا طاب، ولا تحلى، وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت مواره ومصادره، ولا بحوره، ولا طرائقه".(12) وفال أيضا:"أحسن الكلم ما رق لفظه ومعناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته، بين نظم كأنه نثر،ونثر كأنه نظم".(13) "وقيل العتابي: بم قدرت على البلاغة؟ فقال: بحل معقود الكلام، فالشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر".(14)
إننا أمام تعارض صارخ بين تصورين في هذه القضية، لكن هذا التعارض يمازجه اتفاق تام حول فرق أساسي بين الشعر والنثر هو الوزن. لقد تمسك النقاد العرب كثيرا بالمزن كحد فاصل بين الصناعتين، وعضوا عليه بالنواجد بعد أن لاحظوا أن جل الفروق الأخرى التي رصودها تنفلت من بين أصابعهم عند أول اختبار، وهذا التمسك واضح بدءا من مصطلح نثر ، الذي لا يصف حقيقة هذا الفن بقدر ما يصف بالضد الشعر، ويحيل على لأهم خاصية فيه مهي "النظم". والتشبث بالوزن واضح أيضا من خلال جلل التعريفات التي وضعت للفنين. يقول صاحب "نقد النثر": "المنظوم هو الشعر والمنثور هو الكلام".(15) ويقول ابن خلدون في "حد الشعر": "وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي، فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل".(16) والعبارة الأخيرة من كلام "ابن خلدون" تشير بوضوح إلى شعرية النثر كانت موضع تساؤل أيضا؛ لكن الوزن كان هو الجواب الذي أوقف تداعي الأسئلة التي كان بالإمكان أن تعطي أبعادا أخرى للشعرية العربية. لكن، هل استطاع الون أن يفي بحقيقة هذه الشعرية؟ لقد أدرك النقاد العرب قصور التعريف الذي يكتفي بالوزن لتحديد الشعرية؛ لذلك أضافوا القصد، وأخرجوا المنظومات العلمية، بل وأشاروا إلى أمور أخرى أكثر دقة.
يقول ابن رشيق: "إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه... كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة، ولم يكن له إل فضل الوزن، وليس بفضل عندي على التقصير". (17) بناء على هذا الفهم أدخلت تعديلات وإضافات متعددة على "تعريف الشعر" لكن المشكل يكمن في كون هذه التعديلات وهذه الإضافات لا يمتنع توفرها في النثر أيضا. "فابن خلدون"- وأنا أستشهد "بابن خلدون" هنا لكونه كان أكثر جمعا للآراء السابقة عليه باعتبار تأخره زمنيا- ،فابن خلدون" حاول أن يقدم تعريفا أكثر إحاطة "بخصوصيات الشعر" يقول فيه: " الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به".(18) فالإضافة التي تستحق الذكر هنا هي إشارته إلى أساليب العرب المخصوصة به. وقد أوردنا له – آنفا – نصا يشير فيه إلى أن الكتاب استعملوا أساليب الشعر حتى صار نثرهم من باب الشعر إذا تأملته. وهذا يعني العودة إلى نقطة البداية، إذ يبقى الملمح المميز الوحيد بين الصناعتين هو الوزن، كما يقرر "ابن الأثير" بوضوح حين يقول: "الشعر هو كل لفظ موزون مقفى دل على معنى ، فالفرق بينهما يقع على الوزن لا غير".(19) ويمكن القوا بأن هذا الفرق هو الخط الأحمر الذي لم يستطع أي ناقد عربي قديم تجاوزه؛ وهذا ممكن إذا توسع في "مفهوم الوزن" واعتبر ما يمكن أن يتفق مع للنثر من أشكال الوصف المختلفة. لكن هذه الإمكانية دونها ما تم حصره من أوزان مقررة تشترط الأطراد وغيره من القواعد الشكلية التي لا علاقة لها بالشعرية في شيء ، ومع ذلك اعتبرت تلك الأوزان من أعظم أركان الشعر. وننتهي من هذا الكلام إلى أن الرغبة الملحة في الفصل بين الصناعتين في الثقافة العربية إنما هي رغبة تحاول أن تخفي واقعا يشهد بالتقارب بينهما؛ وحتى الفكرة التي تحدثت عن صعوبة الجمع بين الصناعتين وندرة الأدباء الذين تأتى لهم هذا الجمع هي فكرة يمكن أن نقبل بها في المصادر الأولى حين كان النثر العربي لا يعدوا الخطابة الدينية والسياسية ، والكتابة الديوانية والعلمية. لكن ما لا يقبل هو أن تستمر المصادر اللاحقة في ترديد تلك الفكرة في عصر المعري، وابن شهيد، وابن زيدون، وابن خفاجة، وابن دراج، وابن برد الأصغر، وغيرهم كثير، ممن تملكوا زمام القول نثرا وشعرا. وكان من المفروض مباركة هذا التقارب بشكل لا يسمح بأي هيمنة مخلة، لكن ظروفا دينية وثقافية وتاريخية دفعت في اتجاه ترسيخ الفصل بين الشعر والنثر. وهذا ما سنوضحه من خلال العناصر التالية:

العنصر الأول: نفي الشعرية عن القرآن:
إن التمييز بين الشعر والنثر على أساس الوزن الذي ترسخ في ثقافتنا العربية إلى يومنا هذا قد يكون من الأهداف الأساسية لهذه القضية لأن مفهوم الشعر الذي يبدو واضحا في أذهاننا اليوم – على الأقل على المستوى الشكلي – لم يكن كذلك في العصر الجاهلي وإلى حدود عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. وكلنا نعلم أن كفار قريش ترددوا في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بين الشاعر والكاهن، وهو في الحقيقة تردد في نسب القرآن إلى الشعر أو إلى سجع الكهان؛ وهذا يعني أن الصورة النثرية للقرآن لم تكن كافية لتمييزه عن الشعر. الهدف إذن من هذه القضية – كما قد يبدو – هو نفي الشعرية عن القرآن، انطلاقا من تعيين الأوزان الخليلية بعينها كعنصر جوهري في الشعر، وهو ما لا يتوفر في القرآن وإن توفرت فيه أشكال أخرى من النظم بغير أطراد.ويمكن أن نفهم هذه المبادرة في إطار ذلك التوجه الإسلمي العام الذي كان يهدف إلى خلق الانسجام بين مكونات الثقافة الإسلمية عن طريق دفع كل ما من شأنه أن يشوش على العقيدة. ولذلك فإن الأوزان الخليلية – بما تقتضيه من اطراد – تشكل دليلا على أن القرآن ليس شعرا ، لكن لإذا تعارض شيء من هذه الأوزان مع هذا الوجه فإقصاء المتعارض وارد. قال ابن رشيق عن مشطور الرجز: "وقد رأى قوم أن مشطور الرجز ليس بشعر لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت (20)

العنصر الثاني: هو شكل من أشكال الصراع بين القدم والحداثة:
فالأشكال النثرية التي لأقرتها حركة التدوين تدور في معظمها حول الخطابة وبعض المراسلات النفعية المتسة بالإيجاز. ونرجح استعباد هذه الحركة لأشكال نثرية جاهلية أخرى أدخل في الأدب؛ استبعدتها تأثرا بموقف الرسول صلى الله عيه وسلم الرافض لسجع الجاهلية، وحين نعاين ما تبقى من السجع الجاهلي نلاحظ أن فواصله مقاربة لفواصل القرآن. من هنا نفهم أن رفض الأشكال النثرية كان ناتجا عن الخوف من اختلاطها بالقرآن. إذن "حركة التدوين" التي كانت مهووسة بخلق الانسجام بين مكونات الثقافة الإسلامية أقرت بعض الأشكال النثرية الخطابية ، والمراسلات النفعية، التي أصبحت فيما بعد تمثل جانب القديم أو الأصيل.لذلك كبن تناول النثر لأغراض الشعر المعروفة من وصف، وتشبيب، وغير ذلك، أمرا مرفوضا بمنطق المحافظة الذي يشكل الخلفية الساسية لحركة التدوين. لهذا قلنا قبل : إن النقاد العرب كانوا في تصورهم للنثر ينطلقون مما ينبغي أن يكون لا مما هو كائن. ومن ثم كان ذلك الفصل النظري بين الشعر والنثر على أساس اختصاص كل منهما بأغراض معينة ، ومن ثم كذلك كان تغييب المحاولات النثرية التي تعاملت مع أغراض الشعر.

العنصر الثالث في قضية يرتبط أيضا بحركة التدوين وحصيلتها اللغوية بخواصها المفردة والمركبة:
فهذه الحركة كما هو معلوم أعطت الامتياز "للمتن الشعري" وأقامت نشاطها عليه؛ فهي بذلك أوجدت من جهة،لغة ذات طبيعة شعرية، وهي من جهة أخرى كرست استمرارية هذا الوضع حين جعلت "ديوان العرب" المرجع الرئيسي للكاتب والشاعر. يقول " ابن الأثير" في المثل السائر: "من أحب أن يكون كاتبا أو كان عند طبع مجيب، فعليه حفظ الدواوين ذوات العدد، ولا يقنع بالقليل من ذلك، ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظه.. وسبيله أن يكثر الإدمان ليل ونهارا.. حتى يصير له ملكة؛ فإذا كتب كتابا، أو خطب خطبة، تدفقت المعاني في أثناء كلامه، وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة".(21) وهذا يعني أن "النثر العربي " كان يقتات على لغة الشعر ومعانيه، ومن ثم ضعفت الفوارق بين الفنين. لهذا أمعن الشاعر العربي في قهر اللغة بالوزن والقافية، ورهن شاعريته بهما. ولعلنا نستطيع من خلال هذا الكلام أن نحدد "نقطتين أساسيتين" كانت لهما الكلمة الأخيرة في تحديد وتفسير طبيعة التأثير الذي تمارسه الشعرية العربية على النثر:
* النقطة الأولى: تتمثل في فكرة "ديوان العرب" التي أعطت الامتياز للشعب على حساب النثر.
* النقطة الثانية: تتمثل في التركيز على الوزن كعنصر حاسم في تحديد الشعرية.
من خلال هذه النقطتين نستطيع القول بأن النثر العربي خاض كفاحا لإثبات ذاته في أرض يحكمها "ديوان العرب" بخواصه المعنوية والشكلية؛ وقد نظر النثر إلى أغراض الشعر فوجدها ى تمتنع عليه: فمدح، وهجا، وشبب، وعاتب،بأساليب الشعر ومعانيه ، إلا أن ذلك لم يشفع له في شيء : فقرر أن يأتي الشعر من مكمنه، وليس هذا من بعد من فضل عليه إلا الوزن. من هنا نفهم لماذا استعمل المتأرخون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفيه ، أي أنهم استعملوا ذلك ترضية لأذواق لا تقبل بالكلمة إلا وهي ترسف في إسار الوزن والقافية. لهذا أقبل الكاتب على الازدواج والسجع، وكان الناقد في عونه يثمن هذا التوجه، ويجادل عنه : بقول "العسكري" في "الصناعتين": "لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجا، ول تكاد تجد لبليغ كلاما يخلو من الازدواج"(22) ويقول "ابن الأثير" في "المثل السائر": "ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه، وإن لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع".(23) ولربما وجد معترض لا يقنعه هذا الكلام ، فيجيبه "الكلاعي" في "الإحكام" بمنطق الذوق فيقول: "والذي عندي في هذا هو أن النثر،والنظم، أخوان، فكما لا يقدح في النظم تكلف الوزن والقافية. كذلك لا يقدح في النثر تكلف السجع".(24) والطريف في الأمر هو أن هؤلاء النقاد صاروا يتحدثون عن "نظم النثر" ويستعملون في ذلك مصطلحات مرتبطة في أصل وضعها بالشعر كالوزن، والقافية،يقول"ابن الأثير" عن "الترصيع":"وكذلك نجعل في الكلام النثور من الأسجاع؛ وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن والقافية."(25) وفي هذا الإكار يشترك النثر والشعر في بعض الأحكام كقول "ابن الأثير" في موضوع القافية : "واعلم أنه يجب على الناظم والناثر أن يجتنبا ما يضيق به مجال الكلام في بعض الحروف كالتاء والذال، والحاء".(26) وستكثر الإشارات التي تعلق على هذا التداخل والتماهي بين الصناعتين. "فابن زيدون" الذي اتفقت له الإجادة في الفنين يصف "ابن بسام" نثره بأنه :" نثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني". وكانت رسائل "ابن زيدون" تصل إلى شرق الأندلس فيقال : "تأتي من إشبيلية كتب هي بالمنظوم أسبه بالمنثور".(27) وفي " التوابع والزوابع" "لابن شهيد": "إنك لخطيب لولا أنك مغرى بالسجع، فكلامك نظم لا نثر".(28) وبمناسبة ذكر "ابن شهيد" الذي أجاد في الصناعتين، ومارس هذا التداخل بينهما نجده قد أشار في رسالته "التوابع والزوابع" إلى فكرة جديدة في مجال النثر وهي: "شياطين الكتاب" على غرار فكرة "شياطين الشعراء" المعروفة في التراث العربي؛ وكأنه يلمح إلى أن الكتان مثل الشعراء هم أيضا في حاجة إلى مصدر للإلهام. ولعل هذا التوجه الرامي إلى إضعاف الفروق الإيقاعية بيت الشعر والنثر هو الذي أدى إلى ظهور ما يسمى "بالبند" في العراق ومنطقة الخليج، وهو نوع شعري يقوم على أساس التفعيلة، ولا يتقيد بنظام الشطرين، ويبنى على بحر الهرج ، والرمل،وقد وصفه "الزهاوي" بأنه الحلقة الوسطى بين النظم والنثر.(29) وليس غريبا أن تكثر الحلقات الوسطى في هذا المراحل ، فالموح الذي ازدهر عند المتأرخين خاصة، ولم يعتف به كشعر؛هذا الموشح وصفه أيضا "ابن سناء الملك" في " دار الطراز" بأنه "نظم تشهد العين أنه نثر ونثر يشهد الذوق أنه نظم".(30) نخلص من خلال هذا الحديث إلى أن الظروف التاريخية والثقافية التي أضعفت الفروق الأسلوبية بين الشعر والنثر قديما حين أمدت المبدع العربي بلغة ذات طبيعة شعرية هي نفسها الظروف التي أدت إلى الفصل بينهما على أساس تميز الشعر بالأوزان الخليلية. لقد أراد "النثر العربي" عنادا منه أن يكسر هذا الحاجز، فبالغ في اجتلاب تقنيات الرصف إلى الحد الذي أوصله إلى الجمود والتحجز ؛ وهذه عاقبة التقليد والتبعية ، عاقبة كان الأدبي العربي يتوقعها لكنه فضل الانسياق مع الذوق العام إرضاء له." فابن شهيد" حين عيب عليه استعمال السجع أجاب: "ليس هذا – أعزك الله – مني جهلا بأمر السجع.. لكني عدمت ببلدي فرسان الكلام ، ودهيت بغباوة أهل الزمان وبالحرا أنهم أحركهم بالازدواج". فقال العائب:" إنا لله ، ذهبت العرب وكلامها، إرمهم يل هذا بسجع الكهان، فعسى أن ينفعك عندهم".(31)

المصادر
1 - إحكام صنعة الكلام للكلاعي،تح:الداية،دار الثقافة،بيروت 1966.
2 – أسرار البلاغة، لعبد القاهر الجرجاني،تح:هـ ريتر، استنابول 1954.
3 – البيان والتبيين،للجاحظ ،تح: عبد السلام هارون، دار الفكر ،بيروت 1990.
5 – الجديد في العروض، لعلي حميد خضير، مكتبة النهضة العربية، بيروت 1986.
6 – دار الطراز،لابن سناء الملك، تح: جودت الركابي، دار الفكر، دمشق 1980.
7 – الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام،تح:إحسان عباس، دار الثقافة،بيروت 1979.
8 – رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر،للصابي، منشورة في كتاب النادي الأدبي بجدة،عدد:59 سنة 1990.
9 – سر الفصاحة،لابن سنان الخفاجي، تصحيح عبد المتعال الصعيدي، القاهرة 1969.
10- شرح ديوان الحماسة،تح: أحمد أمين وعبد السلام هارون،لجنة التأليف، القاهرة 1967.
11- الصناعتين، للعسكري، تح: البجاوي وأبو الفضل إبراهيم، المكتبة المصرية 1986.
12 – العمدة لبن رشيق،تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجليل،بيروت 1981.
13 – عيار الشعر، لبن طباطبا، ح: عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت 1982.
14 – المثل الساتر، لابن الأثير ،تح: محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية 1990.
15- المقابسات، لأبي حيان التوحيدي ،تح: حسن السندوبي، القاهرة 1929.
16- مقدمة ابن خلدون، دار الفكر ، بيروت.
17- نقد النثر، منسوب لقدامة بن جعفر، المكتبة العلمية بيروت 1980.


1) العمدة:1/.134
2) البيان التبيين:1/243.
3) البيان:1/208- 209-243، شرح ديوان الحماسة الرزوقي1/4 إحكام صنعة الكلام: للكلاعي:ض:93-
4)الرسالة منشورة في "كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة" عدد:59/1990 بتقديم وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الرحمان الهدلق/الصفحة: 581 وما بعدها.
5) تعرض الجاحظ أيضا لهذه القضية وفسرها باختلاف الطبع؛ إذ هناك من له طبع في الرسائل وليس له طبع في الشعر؛ مع ذلك فقد ذكر جملة ممن جمعوا بين الفنين. انظر البيان والتبيين 1/45/208
6) أسرار البلاغة:ص:126/127.
7) سر الفصاحة:ص: 212.
8) المثل السائر: 1/9.
9) نقد النثر:ص:94.
10) انظر تعليق محقق "رسالة الصابي" في "كتاب النادي الأدبي بجدة" عدد950.
11) مقدمة ابن خلدون:ص: 567.
12) المقابسات ص: 245.
13) الإمتناع والمؤانسة :2/145.
14) عيار الشعر:ص:81."وانظر التداخل بين الشعر والنثر في الصناعتين" للعسكري/ص:183- 156،"والعمدة" 2/106.
15) نقد النثر:ص:74.
16) المقدمة:ص:573.
17) العمدة:1/116.
18) المقدمة:ص:573.
19) النثل السائر:2/324.
20) العمدة :1/.185
21) المثل السائر:1/98.
22) الصناعتين:ص 260.
23) المثل السائر: 1/340.
24) إحكام صنعة الكلام :ص: 228.
25) المثل السائر :1/258.
26) نفسه :1/181.
27) الذخيرة :1/1 ص: 336.
28) نفسه :1/1 ص: 268.
29) نقلا عن كتاب "الجديد في العروض" :لعلي عبد الحميد حضير/ص:35.
30) دارالطراز :ص:30.
31) الدخيرة: 1/1 ص: 268- 269.



دعوة الحق
العدد 337 ربيع 2-جمادى1 1419/ غشت شتنبر 1998

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى