تقدمت بهذه الدراسة إلى أستاذي الفاضل الدكتور (إبراهيم بك سلامة أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم عام 1949 فظفرت منه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
وأنا أهديها أليه على صفحات الرسالة الغراء تحية تقدير ووفاء وتهنئة بظهور كتابه الجديد الخصب (تيارات أدبية بين الشرق والغرب).
(ع. ق)
تمهيد
هذا بحث تكلمت فيه عن أبي هلال - في كتابه (الصناعتين) بين النقد والبلاغة، وكان مما وجهني أليه وحفزني إلى الكتابة فيه أني قرأت كتاب الدكتور محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب) فهالني بل روعني أن يكون في القرن الرابع الهجري - وهو ألمع القرون وأحفلها بجلائل الأعمال في جميع أنواع المعرفة عند العرب - رجل بتلك الصفات وهذه النعوت التي أضافها أليه الدكتور، وقلت: ألا يمكن أن يكون في العرض من جانب الدكتور لأبي هلال ظلم للرجل وتحامل عليه؟ وعلى فرض أنه بهذا الفساد وذلك الانحراف ألا يمكن الاعتذار عنه!
وكان أن عولت على لقاء آبي هلال في كتابه والاستماع أليه ثم التحدث عنه بما يثبت حكم الدكتور آو ينقضه كم أذى من نفس قلقها وأراها إلى شيء من الاطمئنان.
وسيستبين القارئ منهجي في البحث: أما أجماله فهو قد جعلته ثلاث مراحل: الأولى: - تمهيد للقاء أبي هلال وذلك أني أحببت أو رأيت أنه لا ينبغي لمن يتصدى للقاء العفو أن يكون جاهلا بطبيعة عملهم ونواحي العبقرية والنبوغ غيرهم في هذا العمل 0 فكان هذه الإلمام السريع من جانبي بتلك البلاغة والنقد وتطورهما إلى عهده. ومنه وقفت على تشهيد نشأتيهما بل على وحدة الظروف التي خلقها؛ وإذاً فليس الغريب أن يلتقيا في تطورهما اكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيها على اختلاف في الميل إلى أحدهما آو زيادة في الاهتمام به. والمرحلة الثانية: - الاختلاف إلى أبي هلال والتردد عليه، بل مصاحبته مصاحب شديدة في أبواب الكتاب العشرة وفصوله الثلاثة والخمسون أستمع أليه فأفهم عنه وأعنون له. ولم أنس أني إنما سعيت لقائه لاحق حقا آو لأبطل باطل. فلم يغب عني وأنا في حضرة ما قاله: صاحب (النقد المنهجي) فيه. وكثيرا ما قررت كي صاحبي آو ترجمته موضحا عبارته، مستخلصا فكرته، وأضع إياها في ميزان النقد العام بها تثقل وترجح بينما مبين الدكتور قد شال بها وخف.
لهذا بعد أن فرغت من لقاء أبي هلال وودعته قمت بعملية تجميع للتهم التي وجهها إليه الدكتور مندور وناقشت واحدة واحدة وتلك كانت المرحلة الثالثة.
وكانت الخاتمة، فنبهت إلى أن أبا هلال وإن كان قد تأثر في البلاغة والنقد وجمعها بل ومزجها في كتاب فليس هو بدعا في هذا، لا في تاريخ النقد العربي ولا في تاريخ النقد العام
البلاغة والنقد ووظيفتهما
البلاغة بمعنى الكلام البليغ هي الأدب، وهي بهذا الاعتبار مادة البحث وموضوعة للبلاغة الإصلاحية والنقد الأدبي. ولن أتعرض لها هنا من الناحية، كما لن يكون من همي أن أتتبع تلك التعريفات التي أوردها أبو هلال في صدر كتابه وعلق عليها شارحا موضحا. بل يعنني من البلاغة ما كان يفهم قديما وما يفهم الآن من كلمة (البلاغة). أعني هذه القواعد وتلك التقاسيم آلت كونت هذا الثالوث الضخم (المعاني والبيان والبديع) ووظيفتهما: - أنها ترشنا إلى أحسن الوسائل التي تجعل كلامنا ممتعا نافعا مؤثرا. أما النقد الأدبي فهو من دراسة النصوص وتمييز الأساليب). ووظيفته (تقويم العمل الأدبي، وتحديد مكانه في خط سير الأدب) فكل منهما يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في النتاج الأدبي.
نشأة البلاغة وتطورها إلى عهد أبي هلال
من حسن فهم أبي هلال لطبيعة الأشياء هذا النص الذي نقله عن مجموعة التحفة البهية الدكتور زكي مبارك أن البلاغة ليست مقصورة على أمة دون أمة، ولا على ملك دون سوقة، ولا على لسان دون لسان. بل هي مقسومة على اكثر الألسنة. فهي موجودة في كلام اليونان وكلام الفرس وكلام الهند وغيرهم. ولكنها في العرب اكثر لكثرة تصرفها في النثر والنظم والخطب والكتب وهم أيضاً متفاوتون فيها. فقد يكون العبد بليغا ولا يكون سيده، وتكون الأمة بليغة ولا تكون ربتها فالبلاغة قد تكون في أعراب البادية دون ملوكها وقد يحسنها الصبي والمرأة)
والبلاغة التي يقصدها أبو هلال في هذا النص هي (الملكة) أي القدرة على تأليف الكلام البليغ وهي قديمة جدا قدم الأدب. ليست هذه الآداب إلا آثارها ودلائل وجودها ولقد وجدت الآداب منذ وجدت الجماعة. وكان لهذه الجماعة تحضر وتمدن وعقيدة.
أما الاتجاه إلى دراسة هذه الآداب بقصد نقدها واستنباط قواعد البلاغة منها فهذا ما تأخر ظهوره اختلفت مظاهره عند كل أمة وفي كل أدب حسب الظروف والملابسات. أما عند العرب فقد نزل القرآن بلغتهم الأدبية وفيه كثير من الأنواع البلاغية؛ لكنهم ما كانوا في فهمه وتذوقه إلى علم آو معلم أنهم بلغاء بالطبع لكن الدين قد انتشر ودخل فيه خلق كثير من غير العرب بدءوا يقرءون القرآن فيلقاهم منه من الكلمات والآيات ما يعجزهم فهمه ويعز عليهم تأويله. ولهذا رأينا منهم من يسعى إلى بعض علماء العربية (أبي عبيد سنة 206 هـ) يسأله في معنى قول الله (طلعها كأنه رؤوس الشيطان) فيجيبه بما هو من صميم العربية ومألوف استعمالها.
(هذا نظير قول أمرئ القيس): -
أيقتلني والشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولكن هذا العالم الجليل لا يدع الموضوع يمر دون التفات منه لحاجة الناس إلى بيان فيه فيؤلف كتابه (مجاز القرآن) وتكون هناك محاولات وابتداءات تظهر في شكل رسائل آو مقالات، وتنشط هذه الحركة وتنمو، ويزداد سلطان المعتزلة ظن ويترجم منطق أرسطو فيتصلون به والفلسفة اليونانية؛ ويعجب الفرس وغيرهم بهؤلاء المتكلمين الذين يحكمون العقل والمنطق في جدولهم وحوارهم فينحازون لهم وينضمون إليهم.
وتروج هذه الثقافة وتشيع فتزدهر البلاغة وتنموا حتى إذا جاء القرن الثالث، عرف بجمع المادة الأدبية وعرضها في أبواب تنقصها الطريقة العلمية ولكنها موصولة أليها فهذا (الجاحظ) (255) يبتدئ به البيان ويكتب فيه ويجمع له مادة غزيرة، متعقبا بعضها أحيانا بنقد يعتبر أساس للبلاغة وللنقد المنظم فهم يتحدث عن الفصيح وعن الفصاحة ويفرق بين الفصاحة بمعنى البيان وبين البلاغة بمعنى الوصول إلى الغرض؛ ثم يعرض لتعريفات عدة في البلاغة عند العرب، وعند غيرهم ممن لهم بالعرب اتصال جغرافي أو ثقافي.
ويعمل جهده في التدليل على أصالة البيان العربي وأنه للعرب خاصة، ويتكلم في الأسجاع ما يحس وقعه منه وما يسؤ مع التمثيل لهذا وذاك، ويطوف في بيانه وتبيانه على الشيء الكثير من الأنواع من البلاغة، وقد يؤرخ لها ويقارن بينها ضاربا الأمثال من القرآن والسنة والشعر القديم والشعر الحديث. ثم هو يعد صاحب المذهب الكلامي.
وبحق ما قيل من أنه أول باحث في البلاغة، ولكن أبحاثه لم تكن مبوبة ومرتبة، وإنما هي معلومات عابرة فتحت مغاليق هذا العالم.
وبموت الجاحظ حوالي منتصف القرن الثالث الهجري كانت البلاغة قد استقرت عند أوليات الأمور التي تبحث فيها وتفنن لها، وقد لخصها الدكتور طه حسين باشا آو عنوان لها بالأمور الآتية:
الكلام على صحة مخارج الحروف، ثم على العيوب التي سببها اللسان آو الأسنان آو ما قد يصيب الفم من التشوه.
الكلام على سلامة اللغة، والصلة بين الألفاظ بعضها ببعض، والعيوب الناشئة عن تنافر الحروف.
الكلام على الجملة والعلاقة بين اللفظ والمعنى، ثم على الوضوح والإيجاز والإطناب، والملاءمة بين الخطبة والسامعين لها، والملاءمة بين الخطبة وموضوعها.
الكلام على الخطيب.
أما النصف الثاني من القرن الثالث فقد ظهر فيه علمان من أعلام البلاغة، ترك كل منهما فيها من الآثار ما جعلها تنقسم إلى قسمين آو تسير في اتجاهين: أحدهما عربي صرف آو هو اقرب أن يكون عربيا صرفا، والثاني منطقي صرف آو هو اقرب أن يكون منطقيا صرفا: -
فأما أولهما: فهو عبد الله بن العتز (296 هـ) فهم ما قاله الجاحظ واهتدى بطريقته وجمع من فكرته مع زيادة علها ما ألفه وسماه (البديع) وجعل منها خمسة أنواع أصيلة عند العرب القدماء وليست مبتكرة، يرد بذلك على المتحدثين الذين ادعوا اختراعها والسبق أليها وهي: -
الاستعارة والتجنيس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي وتطغى هذه الأنواع على غيرها في كتابه، لأنه يبدأ بذكر الخاصية ثم يورد أمثلة لها من القرآن والحديث والشعر، ويعقب على هذا بذكر ما عيب من استعمالها.
ثم بعد ذلك يذكر بعض محاسن الكلام والشعر، وهي كثيرة يجتزئ منها بالآتي: الالتفات، الاعتراض، الرجوع: الخروج من معنى إلى معنى، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، هزل يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكتابة، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، إعنات الشاعر نفسه بالقوافي، حسن الابتداءات.
والناظر في موضوعات كتاب (البديع) يرى أن علوم البلاغة: (المعاني والبين والبديع) لم تنفصل بعضها عن بعض، ولم توضع لها حدود تميزها. فإن المؤلف ساق أيوب البيان الثلاثة وهي الاستعارة والكناية والتشبيه مساق الأنواع البديعية في كتابة وأما ثانيهما: فهو قدامة بن جعفر (275 - 337)، كان نصرانيا ثم أسلم، درس الفلسفة والمنطق، وألف كتابا سماه (نقد الشعر). يقول أستاذنا الكبير طه حسين باشا (إن هذا الكتاب قد استغله كل مؤلف جاء بعده، وعندما نقرأه نحس من أول فصل أننا إزاء روح جديدة لا عهد لنا بمثله من قبل).
وقد ألم قدامة في كتابه بعشرين نوعا من أنواع البديع، توارد مع ابن المعتز في سبعة منها وانفرد بثلاثة عشر.
ونلاحظ هنا ما لاحظناه سابقا، وهو أن العلوم الثلاثة لازالت مختلطة.
وهنا نجد أنفسنا بصدد أبي هلال العسكري وكتابه (الصناعتين). فلنعد الآن من حيث أتينا، ولنسر هذا الشوط مرة أخرى كي ما نؤرخ للنقد.
يتبع
عبد العزيز قلقيلة
مجلة الرسالة - العدد 995
بتاريخ: 28 - 07 - 1952
وأنا أهديها أليه على صفحات الرسالة الغراء تحية تقدير ووفاء وتهنئة بظهور كتابه الجديد الخصب (تيارات أدبية بين الشرق والغرب).
(ع. ق)
تمهيد
هذا بحث تكلمت فيه عن أبي هلال - في كتابه (الصناعتين) بين النقد والبلاغة، وكان مما وجهني أليه وحفزني إلى الكتابة فيه أني قرأت كتاب الدكتور محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب) فهالني بل روعني أن يكون في القرن الرابع الهجري - وهو ألمع القرون وأحفلها بجلائل الأعمال في جميع أنواع المعرفة عند العرب - رجل بتلك الصفات وهذه النعوت التي أضافها أليه الدكتور، وقلت: ألا يمكن أن يكون في العرض من جانب الدكتور لأبي هلال ظلم للرجل وتحامل عليه؟ وعلى فرض أنه بهذا الفساد وذلك الانحراف ألا يمكن الاعتذار عنه!
وكان أن عولت على لقاء آبي هلال في كتابه والاستماع أليه ثم التحدث عنه بما يثبت حكم الدكتور آو ينقضه كم أذى من نفس قلقها وأراها إلى شيء من الاطمئنان.
وسيستبين القارئ منهجي في البحث: أما أجماله فهو قد جعلته ثلاث مراحل: الأولى: - تمهيد للقاء أبي هلال وذلك أني أحببت أو رأيت أنه لا ينبغي لمن يتصدى للقاء العفو أن يكون جاهلا بطبيعة عملهم ونواحي العبقرية والنبوغ غيرهم في هذا العمل 0 فكان هذه الإلمام السريع من جانبي بتلك البلاغة والنقد وتطورهما إلى عهده. ومنه وقفت على تشهيد نشأتيهما بل على وحدة الظروف التي خلقها؛ وإذاً فليس الغريب أن يلتقيا في تطورهما اكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيها على اختلاف في الميل إلى أحدهما آو زيادة في الاهتمام به. والمرحلة الثانية: - الاختلاف إلى أبي هلال والتردد عليه، بل مصاحبته مصاحب شديدة في أبواب الكتاب العشرة وفصوله الثلاثة والخمسون أستمع أليه فأفهم عنه وأعنون له. ولم أنس أني إنما سعيت لقائه لاحق حقا آو لأبطل باطل. فلم يغب عني وأنا في حضرة ما قاله: صاحب (النقد المنهجي) فيه. وكثيرا ما قررت كي صاحبي آو ترجمته موضحا عبارته، مستخلصا فكرته، وأضع إياها في ميزان النقد العام بها تثقل وترجح بينما مبين الدكتور قد شال بها وخف.
لهذا بعد أن فرغت من لقاء أبي هلال وودعته قمت بعملية تجميع للتهم التي وجهها إليه الدكتور مندور وناقشت واحدة واحدة وتلك كانت المرحلة الثالثة.
وكانت الخاتمة، فنبهت إلى أن أبا هلال وإن كان قد تأثر في البلاغة والنقد وجمعها بل ومزجها في كتاب فليس هو بدعا في هذا، لا في تاريخ النقد العربي ولا في تاريخ النقد العام
البلاغة والنقد ووظيفتهما
البلاغة بمعنى الكلام البليغ هي الأدب، وهي بهذا الاعتبار مادة البحث وموضوعة للبلاغة الإصلاحية والنقد الأدبي. ولن أتعرض لها هنا من الناحية، كما لن يكون من همي أن أتتبع تلك التعريفات التي أوردها أبو هلال في صدر كتابه وعلق عليها شارحا موضحا. بل يعنني من البلاغة ما كان يفهم قديما وما يفهم الآن من كلمة (البلاغة). أعني هذه القواعد وتلك التقاسيم آلت كونت هذا الثالوث الضخم (المعاني والبيان والبديع) ووظيفتهما: - أنها ترشنا إلى أحسن الوسائل التي تجعل كلامنا ممتعا نافعا مؤثرا. أما النقد الأدبي فهو من دراسة النصوص وتمييز الأساليب). ووظيفته (تقويم العمل الأدبي، وتحديد مكانه في خط سير الأدب) فكل منهما يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في النتاج الأدبي.
نشأة البلاغة وتطورها إلى عهد أبي هلال
من حسن فهم أبي هلال لطبيعة الأشياء هذا النص الذي نقله عن مجموعة التحفة البهية الدكتور زكي مبارك أن البلاغة ليست مقصورة على أمة دون أمة، ولا على ملك دون سوقة، ولا على لسان دون لسان. بل هي مقسومة على اكثر الألسنة. فهي موجودة في كلام اليونان وكلام الفرس وكلام الهند وغيرهم. ولكنها في العرب اكثر لكثرة تصرفها في النثر والنظم والخطب والكتب وهم أيضاً متفاوتون فيها. فقد يكون العبد بليغا ولا يكون سيده، وتكون الأمة بليغة ولا تكون ربتها فالبلاغة قد تكون في أعراب البادية دون ملوكها وقد يحسنها الصبي والمرأة)
والبلاغة التي يقصدها أبو هلال في هذا النص هي (الملكة) أي القدرة على تأليف الكلام البليغ وهي قديمة جدا قدم الأدب. ليست هذه الآداب إلا آثارها ودلائل وجودها ولقد وجدت الآداب منذ وجدت الجماعة. وكان لهذه الجماعة تحضر وتمدن وعقيدة.
أما الاتجاه إلى دراسة هذه الآداب بقصد نقدها واستنباط قواعد البلاغة منها فهذا ما تأخر ظهوره اختلفت مظاهره عند كل أمة وفي كل أدب حسب الظروف والملابسات. أما عند العرب فقد نزل القرآن بلغتهم الأدبية وفيه كثير من الأنواع البلاغية؛ لكنهم ما كانوا في فهمه وتذوقه إلى علم آو معلم أنهم بلغاء بالطبع لكن الدين قد انتشر ودخل فيه خلق كثير من غير العرب بدءوا يقرءون القرآن فيلقاهم منه من الكلمات والآيات ما يعجزهم فهمه ويعز عليهم تأويله. ولهذا رأينا منهم من يسعى إلى بعض علماء العربية (أبي عبيد سنة 206 هـ) يسأله في معنى قول الله (طلعها كأنه رؤوس الشيطان) فيجيبه بما هو من صميم العربية ومألوف استعمالها.
(هذا نظير قول أمرئ القيس): -
أيقتلني والشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولكن هذا العالم الجليل لا يدع الموضوع يمر دون التفات منه لحاجة الناس إلى بيان فيه فيؤلف كتابه (مجاز القرآن) وتكون هناك محاولات وابتداءات تظهر في شكل رسائل آو مقالات، وتنشط هذه الحركة وتنمو، ويزداد سلطان المعتزلة ظن ويترجم منطق أرسطو فيتصلون به والفلسفة اليونانية؛ ويعجب الفرس وغيرهم بهؤلاء المتكلمين الذين يحكمون العقل والمنطق في جدولهم وحوارهم فينحازون لهم وينضمون إليهم.
وتروج هذه الثقافة وتشيع فتزدهر البلاغة وتنموا حتى إذا جاء القرن الثالث، عرف بجمع المادة الأدبية وعرضها في أبواب تنقصها الطريقة العلمية ولكنها موصولة أليها فهذا (الجاحظ) (255) يبتدئ به البيان ويكتب فيه ويجمع له مادة غزيرة، متعقبا بعضها أحيانا بنقد يعتبر أساس للبلاغة وللنقد المنظم فهم يتحدث عن الفصيح وعن الفصاحة ويفرق بين الفصاحة بمعنى البيان وبين البلاغة بمعنى الوصول إلى الغرض؛ ثم يعرض لتعريفات عدة في البلاغة عند العرب، وعند غيرهم ممن لهم بالعرب اتصال جغرافي أو ثقافي.
ويعمل جهده في التدليل على أصالة البيان العربي وأنه للعرب خاصة، ويتكلم في الأسجاع ما يحس وقعه منه وما يسؤ مع التمثيل لهذا وذاك، ويطوف في بيانه وتبيانه على الشيء الكثير من الأنواع من البلاغة، وقد يؤرخ لها ويقارن بينها ضاربا الأمثال من القرآن والسنة والشعر القديم والشعر الحديث. ثم هو يعد صاحب المذهب الكلامي.
وبحق ما قيل من أنه أول باحث في البلاغة، ولكن أبحاثه لم تكن مبوبة ومرتبة، وإنما هي معلومات عابرة فتحت مغاليق هذا العالم.
وبموت الجاحظ حوالي منتصف القرن الثالث الهجري كانت البلاغة قد استقرت عند أوليات الأمور التي تبحث فيها وتفنن لها، وقد لخصها الدكتور طه حسين باشا آو عنوان لها بالأمور الآتية:
الكلام على صحة مخارج الحروف، ثم على العيوب التي سببها اللسان آو الأسنان آو ما قد يصيب الفم من التشوه.
الكلام على سلامة اللغة، والصلة بين الألفاظ بعضها ببعض، والعيوب الناشئة عن تنافر الحروف.
الكلام على الجملة والعلاقة بين اللفظ والمعنى، ثم على الوضوح والإيجاز والإطناب، والملاءمة بين الخطبة والسامعين لها، والملاءمة بين الخطبة وموضوعها.
الكلام على الخطيب.
أما النصف الثاني من القرن الثالث فقد ظهر فيه علمان من أعلام البلاغة، ترك كل منهما فيها من الآثار ما جعلها تنقسم إلى قسمين آو تسير في اتجاهين: أحدهما عربي صرف آو هو اقرب أن يكون عربيا صرفا، والثاني منطقي صرف آو هو اقرب أن يكون منطقيا صرفا: -
فأما أولهما: فهو عبد الله بن العتز (296 هـ) فهم ما قاله الجاحظ واهتدى بطريقته وجمع من فكرته مع زيادة علها ما ألفه وسماه (البديع) وجعل منها خمسة أنواع أصيلة عند العرب القدماء وليست مبتكرة، يرد بذلك على المتحدثين الذين ادعوا اختراعها والسبق أليها وهي: -
الاستعارة والتجنيس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي وتطغى هذه الأنواع على غيرها في كتابه، لأنه يبدأ بذكر الخاصية ثم يورد أمثلة لها من القرآن والحديث والشعر، ويعقب على هذا بذكر ما عيب من استعمالها.
ثم بعد ذلك يذكر بعض محاسن الكلام والشعر، وهي كثيرة يجتزئ منها بالآتي: الالتفات، الاعتراض، الرجوع: الخروج من معنى إلى معنى، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، هزل يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكتابة، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، إعنات الشاعر نفسه بالقوافي، حسن الابتداءات.
والناظر في موضوعات كتاب (البديع) يرى أن علوم البلاغة: (المعاني والبين والبديع) لم تنفصل بعضها عن بعض، ولم توضع لها حدود تميزها. فإن المؤلف ساق أيوب البيان الثلاثة وهي الاستعارة والكناية والتشبيه مساق الأنواع البديعية في كتابة وأما ثانيهما: فهو قدامة بن جعفر (275 - 337)، كان نصرانيا ثم أسلم، درس الفلسفة والمنطق، وألف كتابا سماه (نقد الشعر). يقول أستاذنا الكبير طه حسين باشا (إن هذا الكتاب قد استغله كل مؤلف جاء بعده، وعندما نقرأه نحس من أول فصل أننا إزاء روح جديدة لا عهد لنا بمثله من قبل).
وقد ألم قدامة في كتابه بعشرين نوعا من أنواع البديع، توارد مع ابن المعتز في سبعة منها وانفرد بثلاثة عشر.
ونلاحظ هنا ما لاحظناه سابقا، وهو أن العلوم الثلاثة لازالت مختلطة.
وهنا نجد أنفسنا بصدد أبي هلال العسكري وكتابه (الصناعتين). فلنعد الآن من حيث أتينا، ولنسر هذا الشوط مرة أخرى كي ما نؤرخ للنقد.
يتبع
عبد العزيز قلقيلة
مجلة الرسالة - العدد 995
بتاريخ: 28 - 07 - 1952