الأستاذ نجيب محفوظ - كما يعرفه قراء (الرسالة) الزاهرة - شاب أوتى خيالاً خصباً، وعيناً نافذة، وقلماً طيعاً، ومداداً وفيراً، فسخر هذه جميعاً في كتابة القصة وتصوير الحياة الواقعية بما تنطوي عليه من نزعات متضاربات.
ومن أحدث ما جاد به قلم الفتى كتاب (خان الخليلي) الذي أصابه فيه توفيق كبير. وقد نهج في كتابة قصته الضافية الذيول النهج الذي ألتزمه الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (إبراهيم الكاتب). فالكتاب مقسم إلى خمسين فصلا، كل منها صورة أحسن رسمها، فلم تغب في إحداها خفقة قلب أو طرفة عين أو حركة لسان أو بسمة شفتين أو زفرة نفس، لأن الأستاذ محفوظ سكب نفسه في كتابة كل منها سكباً، وعاش في روايته فعرف شخوصها معرفة قرب، وزامل أفرادها ففهم كلا منهم على حقيقته وأدرك ما انطوت عليه نفسه وما أسفر تعنه مظاهره. وربط بين فصولها بإحكام حتى لا ينفلت أحدها من القلادة المتعددة الحلقات التي وصلت بينها وأخرجت من مجموعها صور نابضة بالحياة تنطق صريحة سافرة بأحوال حي من أحياء القاهرة القديمة يتردد عليه الأجانب للمتعة والمصريون للتبرك (بالحسين).
إنها قصة عائلة مصرية متوسطة، فزعت من الغارات الجوية فانتقلت إلى حي خان الخليلي وأمضت فيه دورة كاملة من دورات الأرض حول الشمس، شهد أفرداها فيها عجباً. فالابن الكبير - أحمد عاكف - الذي كان يركن إلى مكتبته يقلب كتبها ويدرب نفسه عبثاً على درسها وهضمها؛ طابت له عشرة أهل الحي والسهر معهم في قهوة الزهرة، وخفق قلبه للحب وهو بعد كهل في الأربعين، ولكن المقادير شاءت ألا ينعم بالفتاة التي يهوى والأليف الذي أستحوذ على عواطفه وملك جنانه. ورشدي - الابن الأصغر - شاب حديث العهد بالتخرج في الجامعة ينقاد وراء دوافع بدنه فيغترف من اللذاذات غير عابئ بصحته التي ناءت بهذا الحمل وأخذت تتهالك تحت الضغط الشديد الذي يفرضه عليها. ولم يكتف بالحب الآثم، بل سولت له نفسه الفتية أن يسطو على الفتاة التي كادت أن تصبح من نصيب أخيه أحمد، ولكنه ظل سادراً في غيه، سائراً في طرق ضلاله، فأصيب بداء الدرن الرئوي وقضى نحبه - وهو الشاب المرح المفعم بالنشاط الدائب الحركة - ولم يستطع أبواه أو أخوه، ولم يفلح الطب أن يحفظ زهرة حياته التي ما شرعت تتفتح حتى قطفت من كمها وطمرت بين أطباق الثرى.
والقصة التي دبجها الأستاذ نجيب محفوظ تمتاز بميزتين عدا مزية الرواية نفسها. ففيها وصف رائع لليالي رمضان في حي خان الخليلي، وفيها وصف للغارات الجوية التي تعرضت لها قاهرة المعز من ثلاثة أعوام، وهي حقبة من الزمن لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الغابر، وعسى أن لا تكرر في ما يجئ من السنين. والمؤلف قدير على جلو المعاني، خبير بخوالج النفس، استطاع أن يجعل من كتابه تزاوجاً بين السخرية والتهكم من ناحية، والجد من ناحية أخرى. وجمع بين اللهو والمزاج والعبرة والدروس. وهو في هذا وذاك لا يخلو من فكاهة مستملحة ودعابة طريفة.
إنها الحياة في (خان الخليلي) كما هي بلا (رتوش).
15 - 10 - 1945
الرسالة 641
ومن أحدث ما جاد به قلم الفتى كتاب (خان الخليلي) الذي أصابه فيه توفيق كبير. وقد نهج في كتابة قصته الضافية الذيول النهج الذي ألتزمه الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (إبراهيم الكاتب). فالكتاب مقسم إلى خمسين فصلا، كل منها صورة أحسن رسمها، فلم تغب في إحداها خفقة قلب أو طرفة عين أو حركة لسان أو بسمة شفتين أو زفرة نفس، لأن الأستاذ محفوظ سكب نفسه في كتابة كل منها سكباً، وعاش في روايته فعرف شخوصها معرفة قرب، وزامل أفرادها ففهم كلا منهم على حقيقته وأدرك ما انطوت عليه نفسه وما أسفر تعنه مظاهره. وربط بين فصولها بإحكام حتى لا ينفلت أحدها من القلادة المتعددة الحلقات التي وصلت بينها وأخرجت من مجموعها صور نابضة بالحياة تنطق صريحة سافرة بأحوال حي من أحياء القاهرة القديمة يتردد عليه الأجانب للمتعة والمصريون للتبرك (بالحسين).
إنها قصة عائلة مصرية متوسطة، فزعت من الغارات الجوية فانتقلت إلى حي خان الخليلي وأمضت فيه دورة كاملة من دورات الأرض حول الشمس، شهد أفرداها فيها عجباً. فالابن الكبير - أحمد عاكف - الذي كان يركن إلى مكتبته يقلب كتبها ويدرب نفسه عبثاً على درسها وهضمها؛ طابت له عشرة أهل الحي والسهر معهم في قهوة الزهرة، وخفق قلبه للحب وهو بعد كهل في الأربعين، ولكن المقادير شاءت ألا ينعم بالفتاة التي يهوى والأليف الذي أستحوذ على عواطفه وملك جنانه. ورشدي - الابن الأصغر - شاب حديث العهد بالتخرج في الجامعة ينقاد وراء دوافع بدنه فيغترف من اللذاذات غير عابئ بصحته التي ناءت بهذا الحمل وأخذت تتهالك تحت الضغط الشديد الذي يفرضه عليها. ولم يكتف بالحب الآثم، بل سولت له نفسه الفتية أن يسطو على الفتاة التي كادت أن تصبح من نصيب أخيه أحمد، ولكنه ظل سادراً في غيه، سائراً في طرق ضلاله، فأصيب بداء الدرن الرئوي وقضى نحبه - وهو الشاب المرح المفعم بالنشاط الدائب الحركة - ولم يستطع أبواه أو أخوه، ولم يفلح الطب أن يحفظ زهرة حياته التي ما شرعت تتفتح حتى قطفت من كمها وطمرت بين أطباق الثرى.
والقصة التي دبجها الأستاذ نجيب محفوظ تمتاز بميزتين عدا مزية الرواية نفسها. ففيها وصف رائع لليالي رمضان في حي خان الخليلي، وفيها وصف للغارات الجوية التي تعرضت لها قاهرة المعز من ثلاثة أعوام، وهي حقبة من الزمن لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الغابر، وعسى أن لا تكرر في ما يجئ من السنين. والمؤلف قدير على جلو المعاني، خبير بخوالج النفس، استطاع أن يجعل من كتابه تزاوجاً بين السخرية والتهكم من ناحية، والجد من ناحية أخرى. وجمع بين اللهو والمزاج والعبرة والدروس. وهو في هذا وذاك لا يخلو من فكاهة مستملحة ودعابة طريفة.
إنها الحياة في (خان الخليلي) كما هي بلا (رتوش).
15 - 10 - 1945
الرسالة 641