تكلمنا قبل هذا عن الحرية في الوجودية من وجهة النظر المتانيزيقية. ونحاول الآن أن نحدد خصائصها على نحو واقعي في المذهب الأخلاقي الوجودي إن صح أن للوجودية أخلاقا بمعنى الكلمة. والذي يتبين لنا من أول الأمر أن المذاهب جميعاً في فرنسا - وليست الوجودية فحسب - تحاول أن تقدم للناس في هذه الفترة الحديثة نظريات أخلاقية مختلفة بالإضافة إلى ما تقدمه من التفسيرات الفلسفية والفكرية وما يحلو لها أن تذيعه من الأصور والآراء. بل إن الجانب الأخلاقي يطغي على كل ما عداه من الجوانب الأخرى في فلسفات الفرنسيين المحدثين، ويظهر تشكل واضح بين الأنظار الكثيرة حتى لتحسبه الأوحد من بينها في الأهمية والخطورة. ولعل الحياة الفرنسية اليوم هي التي تتطلب هذا كله وتقتضي من كل مذهب فكري أن ينحرف في هذا الاتجاه تبعاً للحاجة الأصلية في نفسية الأمة والعوز الروحي في تكوينها الحضاري. أو لعل الصلة القوية التي يحس بها الفرنسيون بين حياتهم المادية وأنظارهم العقلية، أو بين وجودهم ومعرفتهم، على حد تعبير الفلاسفة، هي التي تلج عليهم وتدفعهم دفعاً إلى إنكار مجموعة من القواعد الوضعية التي تلائم ما في نفوسهم من ثورة وما في قلوبهم من ارتياع.
وتأتي الحاجة إلى مثل هذا الاتجاه في نفسية الأمة الفرنسية من أنها ظلت أمداً طويلاً تمثل الأمة المفكرة وتقوم بدور الشعب الفيلسوف وتخسر في سبيل ذلك كله غير قليل من الجاه والسطوة العمليين في الحياة: فكما أن الأديب الذي يشغل نفسه بمسائل الفن ويملأ عقله بالتأملات الروحية بعيد كل البعد عن نطاق الواقع المحدود وآفاق العمل اليومي، بقيت فرنسا - وهي دولة الفكر الأولى - غارقة في التخيل والنظر العقلي، زاهدة في الأفعال الواقعية المنتجة، مدفونة بين صحائف الشعر وسكرات الليل وظلمات القبور. وجاءت الهزات متتالية في الميدان السياسي، وتدخلت الظروف على أسوء نحو في المعيشة الفرنسية فجعلتها ضرباً من المأساة التي يعاني صاحبها أكثر مما يعاني العائم بين أشواك الورد. وتطلع الناس من جراء هذه الخيبة المتكررة في حياتهم إلى نوع من الخلاص ك يقول المسيحيون أو نوع من النجاة كما يقول المسلمون. وتبين هذا العوز في محاولاتهم المتكررة لإيجاد ناموس أخلاقي يعين على رفع الظلمة ويساعد في كشف الغمة، وظهر عملهم واضحاً في جملة التأليف الفكرية التي اتخذت موقفاً وضعياً قبل كل شيء.
ونحن المصريين محتاجون إلى غير قليل من هذا ألاتجاه. فأخلاقنا تنبني في أصلها النظري على الأديان السماوية حتى اليوم، وانشغل الكثيرون عن الدين إلى أشياء أخرى وتطورت الحياة تطوراً ملموساً فضاعت الأخلاق النظرية والعملية معاً. إذ أن الرجل المتدين يأتي كثيراً من السخافات اعتماداً على رضى الله وتوفيقه على تأييده له على طول الخط. وأستطيع أن أقول على شكل ملاحظة بسيطة أن معظم الأفعال البعيدة عن الجد والوقار والخارجة عن نطاق الفضيلة الصحيحة إنما يأتيها قوم متدينون غاية التدين ومؤمنون غاية الإيمان، أما غير المتدين فقد أهمل القواعد الروحية ولم يستطع أن يجد سنداً في حياته العملية فصار على نحو من الضيعة والاختلال لا تؤهلانه لمعيشة طبيعية كريمة. فلابد لنا من محاولة تماشي ظروف المجتمع ومن أخلاق جديدة تساير ركب الزمن وتجعلنا نواجه المناسبات المختلفة في غير خوف ولا تردد ولا جبن بازاء الأحداث.
وقد يخطر على بالنا أن نسأل الآن عن هذه الرابطة التي تجعلنا نفكر في الحرية وفي الأخلاق معا، فلا يكاد واحد من الباحثين يتعرض لموضوع من موضوعات الأخلاق بغير أن يتعرض لفكرة الحرية بالدراسات والتحليل، وهذا الاقتران في أذهان العلماء والفلاسفة غريب إذا نظرنا إلى الأخلاق نظرة اجتماعية خالصة أو إذا جعلنا رضوان الناس وآراء الجماعات مقياساً للأفعال العادية، أو إذا اعتبرنا الأخلاق حسب مقدرة الأفراد على الانسجام والتأدب والرضوخ؛ ولكنه معقول غاية المعقولية إذا بحثنا في الأخلاق من زاوية خاصة هي التي تحاول أن تحتفظ للفردية بقوتها عن معارضتها للحياة اليومية وعند تنافرها مع الآخرين، فالحرية تدخل ضمن أبحاث الفلاسفة الأخلاقيين عندما تراعى أن الأخلاق لا تكون في إخماد الروح الفردية بقدر ما تكون في عهدها ورعايتها وتهيئتها كما يلزم بالنسبة إلى الظروف المتباينة.
فالأخلاق على هذا النحو إنكار للأخلاق؛ بمعنى أنها تعمل على هدم القانون ورفع الضرورة التي تأتي بها نظريات الباحثين. الأخلاق التي تأخذ بالحرية على الطريقة التي تريدها الوجودية ليست أخلاقا وإنما هي معارضة للأخلاق. والحق أن الأخلاق نفسها لا تصير أخلاقا إلا إذا أكدت الحرية، إذ أن الأخلاق شيء آخر غير إطاعة الأوامر وتحقيق الفروض، ولعلها تتوفر في الثورة والرفض أكثر مما تتمثل في مظاهر الطاعة والرضوخ، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه لا توجد هناك أوامر ولا تتوفر لدينا أصول ولا يمكن أن يصح ما نشعر به، عند مواجهة قاعدة ما، من القداسة والضرورة، فعالمنا الأرضي خال تماماً من اللوازم، وإذا تكشفت بمضي الأيام صفة اللزوم في شيء ما فاعلم أنها من ابتكارنا وخلقنا. إن الإنسان هو الذي يضع الأخلاق وأحكامها بما يأتيه من الأفعال كلما تقدم به الزمن، والفعل الأخلاقي - كما ينبغي لنا أن نفهمه - فعل إبداعي لا يراعي القيم، ولا يماشي أصولا، بل يخلق - هو نفسه - الأصول
وبذلك يخلو الفعل الأخلاقي من التقليد والاحتذاء ولا يقتصر على كونه عملية من عمليات المراجعة ولا تظهر عليه أعراض الرتابة، فالوجوب صفة غريبة كل الغرابة عن المعنى الأخلاقي للأحكام العامة. فنحن - أي الناس - متروكون في الأرض بغير علامات تكشف لنا طريق أو القواعد تنظم بيننا العلاقات أو إله يبذل لنا من لدنه الهداية والرشد. هذا هو الأصل الذي تحاول الوجودية أن تقيم عليه بنيانا مذهبياً في الأخلاق. وقد يكون هذا الأصل داعياً إلى الفوضى أكثر مما هو داع إلى النظام على نحو ما جاه على لسان دستويفسكي حينما قال: (إنه إذا لم يكن الله موجوداً فسيكون كل شيء مباحا) ولكن الوجودية تنظر إلى هذه النقطة بالذات على أنها موضع الانفصال أو محل الاختلاف بين فلسفتهم وفلسفة الآخرين من الفوضويين أو الأبيقوريين، فعلى الرغم من أن الوجودية تبدأ بدء يصعب على الكثيرين أن يطرقوه أو يحلوا أية مشكلة على أساسه، فهي تجرؤ على القول بأنها قد أتت بشيء. إنها قد اعترفت بالوضع الحقيقي أولا ثم حاولت بعد ذلك أن تنظر في الأمر.
فماذا فعلت؟ إنها وقد أنكرت من أول الأمر كل معنى في الحياة واعترضت على كل دلالة في الوجود وآمنت بالتفاهة والعبث من وراء الكون الظاهر ومن خلفه، أرادت أن تضع الثقة في النفوس وأن توجد الدوافع لدى الأفراد. إن الحياة عبث فلنجعل لها معنى، والأيام ضائعة فلنحقق لها الغاية. ولا تكون الغاليات والمعاني مستمدة - كما هو حاصل حتى الآن - من عالم غير هذا العالم، ومن كائنات وهمية، وإنما مبعثها فعل الإنسان بريئاً من التقليد خالياً من الأسانيد. فالإنسان وهو يفعل، ستوحي الحرية ويضع القيمة ويحدد المشروع من غير المشروع ويعين اللائق من غير اللائق. أو قل إن الإنسان يضع نفسه عن طريق الفعل.
ولا يأتي التنكر البادي في أعمالهم لفكرة الوجوب أو الضرورة التي تتصف بها القواعد والأحكام الأخلاقية من محاولتهم إبراز فلسفة لا تستند إلى فكرة الله (المزعوم في رأيهم) وإنما يصدرون في اتجاههم هذا عن أصل مذهبي كامل في لفظتين معروفتين عند الباحثين وهما: الوجود والماهية فالوجود بالنسبة إلى الإنسان - كما نعلم - عبارة عن سلسلة الأحداث التي تطرأ عليه وتشكل تاريخه. والماهية هي جملة الخصائص المميزة له من سواه والطبائع التي تجعله هو هو. ومن الأسس النظرية الأولى في الفلسفة الوجودية أن الوجود سابق على الماهية، بمعنى أن وجود الأشياء ووجود الإنسان ذاته يسبق ظهور الخصائص والصفات التي نستخلصها بشأن هذا الوجود، فليس هناك فكرة أزلية ترسم الأشياء بإرادتها وتمتثل الموجودات لمشيئتها، وليس هناك تقدير سابق لما يصير واقعاً، بل كل ما هنالك أن الأشياء تتمثل وأن الحقائق تقع ثم تأخذ صفات معينة وتتطبع بطباع خاصة
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان. فهو يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذاك. وعلى هذا فليس هناك طبيعة إنسانية كما يقول سارتر تبعاً لعدم وجود إله يرعى الإنسان (فالإنسان ليس شيئاً آخر - وبالتالي - غير ما يفعله) والخصائص أو الصفات التي تتحدد بها ماهية الإنسان في وجوده هي نتيجة لجملة الأفعال التي يأتيها. أو بعبارة أخرى الإنسان هو صاحب الأمر في تشكيل ماهيته الخاصة. إذن فمرجع الإنسان دائماً إلى نفسه في تطوينه وعند إيجاد ما يهمه وخلق الصفات التي تلحقه. ومن هنا بنى سارتر حكمه على الماهية الإنسانية بأنها متعلقة بحريته ومتوقفة على إرادته، وهذا صحيح بالنسبة إلى منطق التفكير الوجودي.
فالوجودية فلسفة تنبع من صميم الذات الإنسانية وتصدر عن نزعة فردية واضحة. وتؤمن بالوجودية فضلاً عن ذلك بأن التاريخ لا يحصل من جراه إرادة اجتماعية أو لأن التاريخ ينساق إلى شيء معين وإنما بسبب رغبة الأفراد في كذا وكذا. إن التاريخ حسب الفهم الوجودي ليس شيئاً موجوداً نمر به، وليس شريطاً قائماً نخطو عليه، وإنما هو شيء يوجد في كل لحظة زمنية بإرادة الناس ويتشكل حسب هوى الأفراد بل ويدخل في دائرة الحياة بناء على الأفعال التي يصدرها البشر في اللحظة الآنية لا يوجد شيء وإنما يوجد شيء في تلك اللحظة بعد أن تصير حاضراً ثم ينعدم في التو على صورة ماض. إن الإنسان العادي ينظر في الحياة وكأنها تمضي بغير ما تقطع ولا توقف، أمام الفيلسوف - الوجودي خصوصاً - فيشعر بمشكلة الصيرورة على أوضح نحو في العدم الذي يتمثله وفي الحاضر الذي يخلقه وفي الوجود الذي يتسلسل به من غير ضرورة تحتم عليه الكينونة أو عدم الكينونة. حقاً هناك إمكانيات في الحياة تصير على هيئة معينة إذا جاء المستقبل بحكم النمو الحاصل في المظاهر الأرض1ية، ولكن هذا لا يعني أنها موجودة وجوداً كلياً عاماً في الماضي والحاضر والمستقبل وإنما يعني أنها الوجود يتقدم بنا في العماء الذي لا ترتيب فيه ولا تصميم له بغير خطه ثابتة وبغير علامات أكيدة.
وعلى ذلك فإن الإنسان إذ فعل شيئاً فإنما يفعله وهو يقوم بدور الخالق، فالحرية التي في يده بالضرورة لا تكون مجرد حقيقة للأفعال بل تعد، على هذا النحو، منبعاً تنبثق عنه كل الدلالات وكل القيم، وشرطاً أصيلا لكل تحقق في الوجود كما تقول سيمون دي بوفوان في كتابها عن أخلاق التناقض. ولذلك لا حظنا دائماً إحساس الإنسان بالقلق عند مواجهة المستقبل ما دام لا يجد تحت يديه ركناً يستند إليه ولا خطة يهتدي بها ولا مثلا يحتذيه. إن القلق ظاهرة لازمة الحدوث في حياة الإنسان بسبب المتاهة المفزعة التي يمضي فيها والمفازة المخيفة التي يخترقها بغير ما تجربة سابقة ولا عماد ثابت. حتى القلق نفسه وجملة الاحساسات الأخرى والمظاهر النفسية التي يبدو فيها الإنسان ليست عبارة عن صفات معدة إعداداً سابقاً بالنسبة إلينا وإنما هي طريقة من طرائقنا في العمل والحركة داخل نطاق الوجود. فليس هناك ألصق بمعاشنا ولا أكثر ظهوراً في حياتنا من صفات الحس والذكاء والغضب والحيوية، ومع ذلك فهذه كلها ليست ضرورة من ضرورات وجودنا بقدر ما هي وسيلة من وسائل اكتشافنا للوجود ونحو من أنحاء انتقالنا من الحاضر إلى الماضي.
فوجودنا إذن يحصل ثم نجعل نحن من هذا الوجود موضوعاً للكلام فتستخلص منه صفات معينة ونلاحظ عليه ملامح بالذات. هذه الصفات وتلك الملامح هي ما تسميه بالماهية.
ولكننا مع كثرة التكرار والتردد للمظاهر المتشابهة في حياتنا حسبنا هذه الماهية أزلية تنتقض على طول الزمن في صورة أشكال من هذا الطراز أو ذاك. ولكن الواقع أن هذه الأشياء إنما تحدث في كل مرة لأول مرة وتأني مع اطراد الأحداث بغير تقدير ممهد ولا خطة قبلية. وبذلك ينمحي طابع الجمود والتردد في الحياة ويتدخل عنصر الفن بشياته المتباينة. ولا شك أن الفنان وحده هو الذي يستطيع أن يدرك مدى الرهبة التي تصيب الإنسان في تقدمه خلال السحب القائمة من فوقه وهي لا تنفأ تنذره من حين إلى حين بالمطر الغزير. فالإنسان وسط الحياة ليس غريباً عن مثل هذا الموقف عندما يحس في قرارة نفسه بأنه متروك في الوحدة المفزعة بغير سند إلا من اختياره ورأيه وهواه.
ومن هنا تتدخل المسئولية في اعتبار الوجودية. وذلك طبيعي جداً ما دام مرجع الإنسان في معاشه إلى ذاته وما دام هو نفسه ابن نفسه ووليد أفعاله. ويقول سارتر (عندما نقول عن الانسال أنه مسئول عنه نفسه، لسنا نعني أن الإنسان مسئول عن شخصيته المحددة ولكننا نعني أنه مسئول عن كل الناس.) وهذه هي النتيجة الطبيعية لما سبق أن قلناه. فالإنسان تبعاً لما يأتيه في وجوده من الأفعال الحرة مسئول عن العالم وعن نفسه طالما كان طريقة من طرق الوجود، وأنموذجاً من نماذج الكينونة والمسئولية هنا مأخوذة بمعناها العادي في الشعور بأنه الفرد يؤلف لحادثة أو لموضوع من غير اعتراض عليه ومن غير تعد على حريته. فما يحدث لي - كما يقول سارتر. . . يحدث لي عن نفسي ويستحيل أن يجري في الأرض فعل غير إنساني مهما كان الأمر. والمسئولية تأتي من هذه الناحية، ناحية الإنسانية التي تتصف بها الأفعال والوقائع وماجريات الأمور، ومن هنا لم يكن هناك محل للاعتذار أو الأسف أو الشكوى بعد إتيان أمر من الأمور.
إن فسلفة في الأخلاق على هذا النحو لا تغلق الباب أمام الرجاء ولا تصدر عن اليأس كما قال الكثيرون عنها، وإنما على العكس من هذا توجد فسحة للأمل وتضع غير قليل من الإيمان والقوة في نفس الإنسان كيما يفعل وكيما يأتي فعله عن عقيدة وحساب ويكفي أن يعلم الإنسان عن نفسه بأنه حر وأنه بهذه الحرية يقرر وجوده الخاص كما يحقق وجود الإنسانية جمعاء، وأنه يبدأ من لا شيء ليصير شيئاً في النهاية؛ حتى يدرك خطورة موقفه حتى يدرك خطورة موقفه وحتى يعمل بكل قواه في العالم المضطرب الغامض من أجل الوقوف على بر السلام والوصول إلى أرض البراءة والخلاص.
عبد الفتاح الديدي
مجلة الرسالة - العدد 865
بتاريخ: 30 - 01 - 1950
وتأتي الحاجة إلى مثل هذا الاتجاه في نفسية الأمة الفرنسية من أنها ظلت أمداً طويلاً تمثل الأمة المفكرة وتقوم بدور الشعب الفيلسوف وتخسر في سبيل ذلك كله غير قليل من الجاه والسطوة العمليين في الحياة: فكما أن الأديب الذي يشغل نفسه بمسائل الفن ويملأ عقله بالتأملات الروحية بعيد كل البعد عن نطاق الواقع المحدود وآفاق العمل اليومي، بقيت فرنسا - وهي دولة الفكر الأولى - غارقة في التخيل والنظر العقلي، زاهدة في الأفعال الواقعية المنتجة، مدفونة بين صحائف الشعر وسكرات الليل وظلمات القبور. وجاءت الهزات متتالية في الميدان السياسي، وتدخلت الظروف على أسوء نحو في المعيشة الفرنسية فجعلتها ضرباً من المأساة التي يعاني صاحبها أكثر مما يعاني العائم بين أشواك الورد. وتطلع الناس من جراء هذه الخيبة المتكررة في حياتهم إلى نوع من الخلاص ك يقول المسيحيون أو نوع من النجاة كما يقول المسلمون. وتبين هذا العوز في محاولاتهم المتكررة لإيجاد ناموس أخلاقي يعين على رفع الظلمة ويساعد في كشف الغمة، وظهر عملهم واضحاً في جملة التأليف الفكرية التي اتخذت موقفاً وضعياً قبل كل شيء.
ونحن المصريين محتاجون إلى غير قليل من هذا ألاتجاه. فأخلاقنا تنبني في أصلها النظري على الأديان السماوية حتى اليوم، وانشغل الكثيرون عن الدين إلى أشياء أخرى وتطورت الحياة تطوراً ملموساً فضاعت الأخلاق النظرية والعملية معاً. إذ أن الرجل المتدين يأتي كثيراً من السخافات اعتماداً على رضى الله وتوفيقه على تأييده له على طول الخط. وأستطيع أن أقول على شكل ملاحظة بسيطة أن معظم الأفعال البعيدة عن الجد والوقار والخارجة عن نطاق الفضيلة الصحيحة إنما يأتيها قوم متدينون غاية التدين ومؤمنون غاية الإيمان، أما غير المتدين فقد أهمل القواعد الروحية ولم يستطع أن يجد سنداً في حياته العملية فصار على نحو من الضيعة والاختلال لا تؤهلانه لمعيشة طبيعية كريمة. فلابد لنا من محاولة تماشي ظروف المجتمع ومن أخلاق جديدة تساير ركب الزمن وتجعلنا نواجه المناسبات المختلفة في غير خوف ولا تردد ولا جبن بازاء الأحداث.
وقد يخطر على بالنا أن نسأل الآن عن هذه الرابطة التي تجعلنا نفكر في الحرية وفي الأخلاق معا، فلا يكاد واحد من الباحثين يتعرض لموضوع من موضوعات الأخلاق بغير أن يتعرض لفكرة الحرية بالدراسات والتحليل، وهذا الاقتران في أذهان العلماء والفلاسفة غريب إذا نظرنا إلى الأخلاق نظرة اجتماعية خالصة أو إذا جعلنا رضوان الناس وآراء الجماعات مقياساً للأفعال العادية، أو إذا اعتبرنا الأخلاق حسب مقدرة الأفراد على الانسجام والتأدب والرضوخ؛ ولكنه معقول غاية المعقولية إذا بحثنا في الأخلاق من زاوية خاصة هي التي تحاول أن تحتفظ للفردية بقوتها عن معارضتها للحياة اليومية وعند تنافرها مع الآخرين، فالحرية تدخل ضمن أبحاث الفلاسفة الأخلاقيين عندما تراعى أن الأخلاق لا تكون في إخماد الروح الفردية بقدر ما تكون في عهدها ورعايتها وتهيئتها كما يلزم بالنسبة إلى الظروف المتباينة.
فالأخلاق على هذا النحو إنكار للأخلاق؛ بمعنى أنها تعمل على هدم القانون ورفع الضرورة التي تأتي بها نظريات الباحثين. الأخلاق التي تأخذ بالحرية على الطريقة التي تريدها الوجودية ليست أخلاقا وإنما هي معارضة للأخلاق. والحق أن الأخلاق نفسها لا تصير أخلاقا إلا إذا أكدت الحرية، إذ أن الأخلاق شيء آخر غير إطاعة الأوامر وتحقيق الفروض، ولعلها تتوفر في الثورة والرفض أكثر مما تتمثل في مظاهر الطاعة والرضوخ، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه لا توجد هناك أوامر ولا تتوفر لدينا أصول ولا يمكن أن يصح ما نشعر به، عند مواجهة قاعدة ما، من القداسة والضرورة، فعالمنا الأرضي خال تماماً من اللوازم، وإذا تكشفت بمضي الأيام صفة اللزوم في شيء ما فاعلم أنها من ابتكارنا وخلقنا. إن الإنسان هو الذي يضع الأخلاق وأحكامها بما يأتيه من الأفعال كلما تقدم به الزمن، والفعل الأخلاقي - كما ينبغي لنا أن نفهمه - فعل إبداعي لا يراعي القيم، ولا يماشي أصولا، بل يخلق - هو نفسه - الأصول
وبذلك يخلو الفعل الأخلاقي من التقليد والاحتذاء ولا يقتصر على كونه عملية من عمليات المراجعة ولا تظهر عليه أعراض الرتابة، فالوجوب صفة غريبة كل الغرابة عن المعنى الأخلاقي للأحكام العامة. فنحن - أي الناس - متروكون في الأرض بغير علامات تكشف لنا طريق أو القواعد تنظم بيننا العلاقات أو إله يبذل لنا من لدنه الهداية والرشد. هذا هو الأصل الذي تحاول الوجودية أن تقيم عليه بنيانا مذهبياً في الأخلاق. وقد يكون هذا الأصل داعياً إلى الفوضى أكثر مما هو داع إلى النظام على نحو ما جاه على لسان دستويفسكي حينما قال: (إنه إذا لم يكن الله موجوداً فسيكون كل شيء مباحا) ولكن الوجودية تنظر إلى هذه النقطة بالذات على أنها موضع الانفصال أو محل الاختلاف بين فلسفتهم وفلسفة الآخرين من الفوضويين أو الأبيقوريين، فعلى الرغم من أن الوجودية تبدأ بدء يصعب على الكثيرين أن يطرقوه أو يحلوا أية مشكلة على أساسه، فهي تجرؤ على القول بأنها قد أتت بشيء. إنها قد اعترفت بالوضع الحقيقي أولا ثم حاولت بعد ذلك أن تنظر في الأمر.
فماذا فعلت؟ إنها وقد أنكرت من أول الأمر كل معنى في الحياة واعترضت على كل دلالة في الوجود وآمنت بالتفاهة والعبث من وراء الكون الظاهر ومن خلفه، أرادت أن تضع الثقة في النفوس وأن توجد الدوافع لدى الأفراد. إن الحياة عبث فلنجعل لها معنى، والأيام ضائعة فلنحقق لها الغاية. ولا تكون الغاليات والمعاني مستمدة - كما هو حاصل حتى الآن - من عالم غير هذا العالم، ومن كائنات وهمية، وإنما مبعثها فعل الإنسان بريئاً من التقليد خالياً من الأسانيد. فالإنسان وهو يفعل، ستوحي الحرية ويضع القيمة ويحدد المشروع من غير المشروع ويعين اللائق من غير اللائق. أو قل إن الإنسان يضع نفسه عن طريق الفعل.
ولا يأتي التنكر البادي في أعمالهم لفكرة الوجوب أو الضرورة التي تتصف بها القواعد والأحكام الأخلاقية من محاولتهم إبراز فلسفة لا تستند إلى فكرة الله (المزعوم في رأيهم) وإنما يصدرون في اتجاههم هذا عن أصل مذهبي كامل في لفظتين معروفتين عند الباحثين وهما: الوجود والماهية فالوجود بالنسبة إلى الإنسان - كما نعلم - عبارة عن سلسلة الأحداث التي تطرأ عليه وتشكل تاريخه. والماهية هي جملة الخصائص المميزة له من سواه والطبائع التي تجعله هو هو. ومن الأسس النظرية الأولى في الفلسفة الوجودية أن الوجود سابق على الماهية، بمعنى أن وجود الأشياء ووجود الإنسان ذاته يسبق ظهور الخصائص والصفات التي نستخلصها بشأن هذا الوجود، فليس هناك فكرة أزلية ترسم الأشياء بإرادتها وتمتثل الموجودات لمشيئتها، وليس هناك تقدير سابق لما يصير واقعاً، بل كل ما هنالك أن الأشياء تتمثل وأن الحقائق تقع ثم تأخذ صفات معينة وتتطبع بطباع خاصة
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان. فهو يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذاك. وعلى هذا فليس هناك طبيعة إنسانية كما يقول سارتر تبعاً لعدم وجود إله يرعى الإنسان (فالإنسان ليس شيئاً آخر - وبالتالي - غير ما يفعله) والخصائص أو الصفات التي تتحدد بها ماهية الإنسان في وجوده هي نتيجة لجملة الأفعال التي يأتيها. أو بعبارة أخرى الإنسان هو صاحب الأمر في تشكيل ماهيته الخاصة. إذن فمرجع الإنسان دائماً إلى نفسه في تطوينه وعند إيجاد ما يهمه وخلق الصفات التي تلحقه. ومن هنا بنى سارتر حكمه على الماهية الإنسانية بأنها متعلقة بحريته ومتوقفة على إرادته، وهذا صحيح بالنسبة إلى منطق التفكير الوجودي.
فالوجودية فلسفة تنبع من صميم الذات الإنسانية وتصدر عن نزعة فردية واضحة. وتؤمن بالوجودية فضلاً عن ذلك بأن التاريخ لا يحصل من جراه إرادة اجتماعية أو لأن التاريخ ينساق إلى شيء معين وإنما بسبب رغبة الأفراد في كذا وكذا. إن التاريخ حسب الفهم الوجودي ليس شيئاً موجوداً نمر به، وليس شريطاً قائماً نخطو عليه، وإنما هو شيء يوجد في كل لحظة زمنية بإرادة الناس ويتشكل حسب هوى الأفراد بل ويدخل في دائرة الحياة بناء على الأفعال التي يصدرها البشر في اللحظة الآنية لا يوجد شيء وإنما يوجد شيء في تلك اللحظة بعد أن تصير حاضراً ثم ينعدم في التو على صورة ماض. إن الإنسان العادي ينظر في الحياة وكأنها تمضي بغير ما تقطع ولا توقف، أمام الفيلسوف - الوجودي خصوصاً - فيشعر بمشكلة الصيرورة على أوضح نحو في العدم الذي يتمثله وفي الحاضر الذي يخلقه وفي الوجود الذي يتسلسل به من غير ضرورة تحتم عليه الكينونة أو عدم الكينونة. حقاً هناك إمكانيات في الحياة تصير على هيئة معينة إذا جاء المستقبل بحكم النمو الحاصل في المظاهر الأرض1ية، ولكن هذا لا يعني أنها موجودة وجوداً كلياً عاماً في الماضي والحاضر والمستقبل وإنما يعني أنها الوجود يتقدم بنا في العماء الذي لا ترتيب فيه ولا تصميم له بغير خطه ثابتة وبغير علامات أكيدة.
وعلى ذلك فإن الإنسان إذ فعل شيئاً فإنما يفعله وهو يقوم بدور الخالق، فالحرية التي في يده بالضرورة لا تكون مجرد حقيقة للأفعال بل تعد، على هذا النحو، منبعاً تنبثق عنه كل الدلالات وكل القيم، وشرطاً أصيلا لكل تحقق في الوجود كما تقول سيمون دي بوفوان في كتابها عن أخلاق التناقض. ولذلك لا حظنا دائماً إحساس الإنسان بالقلق عند مواجهة المستقبل ما دام لا يجد تحت يديه ركناً يستند إليه ولا خطة يهتدي بها ولا مثلا يحتذيه. إن القلق ظاهرة لازمة الحدوث في حياة الإنسان بسبب المتاهة المفزعة التي يمضي فيها والمفازة المخيفة التي يخترقها بغير ما تجربة سابقة ولا عماد ثابت. حتى القلق نفسه وجملة الاحساسات الأخرى والمظاهر النفسية التي يبدو فيها الإنسان ليست عبارة عن صفات معدة إعداداً سابقاً بالنسبة إلينا وإنما هي طريقة من طرائقنا في العمل والحركة داخل نطاق الوجود. فليس هناك ألصق بمعاشنا ولا أكثر ظهوراً في حياتنا من صفات الحس والذكاء والغضب والحيوية، ومع ذلك فهذه كلها ليست ضرورة من ضرورات وجودنا بقدر ما هي وسيلة من وسائل اكتشافنا للوجود ونحو من أنحاء انتقالنا من الحاضر إلى الماضي.
فوجودنا إذن يحصل ثم نجعل نحن من هذا الوجود موضوعاً للكلام فتستخلص منه صفات معينة ونلاحظ عليه ملامح بالذات. هذه الصفات وتلك الملامح هي ما تسميه بالماهية.
ولكننا مع كثرة التكرار والتردد للمظاهر المتشابهة في حياتنا حسبنا هذه الماهية أزلية تنتقض على طول الزمن في صورة أشكال من هذا الطراز أو ذاك. ولكن الواقع أن هذه الأشياء إنما تحدث في كل مرة لأول مرة وتأني مع اطراد الأحداث بغير تقدير ممهد ولا خطة قبلية. وبذلك ينمحي طابع الجمود والتردد في الحياة ويتدخل عنصر الفن بشياته المتباينة. ولا شك أن الفنان وحده هو الذي يستطيع أن يدرك مدى الرهبة التي تصيب الإنسان في تقدمه خلال السحب القائمة من فوقه وهي لا تنفأ تنذره من حين إلى حين بالمطر الغزير. فالإنسان وسط الحياة ليس غريباً عن مثل هذا الموقف عندما يحس في قرارة نفسه بأنه متروك في الوحدة المفزعة بغير سند إلا من اختياره ورأيه وهواه.
ومن هنا تتدخل المسئولية في اعتبار الوجودية. وذلك طبيعي جداً ما دام مرجع الإنسان في معاشه إلى ذاته وما دام هو نفسه ابن نفسه ووليد أفعاله. ويقول سارتر (عندما نقول عن الانسال أنه مسئول عنه نفسه، لسنا نعني أن الإنسان مسئول عن شخصيته المحددة ولكننا نعني أنه مسئول عن كل الناس.) وهذه هي النتيجة الطبيعية لما سبق أن قلناه. فالإنسان تبعاً لما يأتيه في وجوده من الأفعال الحرة مسئول عن العالم وعن نفسه طالما كان طريقة من طرق الوجود، وأنموذجاً من نماذج الكينونة والمسئولية هنا مأخوذة بمعناها العادي في الشعور بأنه الفرد يؤلف لحادثة أو لموضوع من غير اعتراض عليه ومن غير تعد على حريته. فما يحدث لي - كما يقول سارتر. . . يحدث لي عن نفسي ويستحيل أن يجري في الأرض فعل غير إنساني مهما كان الأمر. والمسئولية تأتي من هذه الناحية، ناحية الإنسانية التي تتصف بها الأفعال والوقائع وماجريات الأمور، ومن هنا لم يكن هناك محل للاعتذار أو الأسف أو الشكوى بعد إتيان أمر من الأمور.
إن فسلفة في الأخلاق على هذا النحو لا تغلق الباب أمام الرجاء ولا تصدر عن اليأس كما قال الكثيرون عنها، وإنما على العكس من هذا توجد فسحة للأمل وتضع غير قليل من الإيمان والقوة في نفس الإنسان كيما يفعل وكيما يأتي فعله عن عقيدة وحساب ويكفي أن يعلم الإنسان عن نفسه بأنه حر وأنه بهذه الحرية يقرر وجوده الخاص كما يحقق وجود الإنسانية جمعاء، وأنه يبدأ من لا شيء ليصير شيئاً في النهاية؛ حتى يدرك خطورة موقفه حتى يدرك خطورة موقفه وحتى يعمل بكل قواه في العالم المضطرب الغامض من أجل الوقوف على بر السلام والوصول إلى أرض البراءة والخلاص.
عبد الفتاح الديدي
مجلة الرسالة - العدد 865
بتاريخ: 30 - 01 - 1950