بدأت ثورتي على النظام قبل أن يثور الشعب عليه بسنوات، لا أقول هذا مدعاة للتفاخر أو تسجيلا لشرف وسبق أزعم أنني سعيت إليه، بل أنه واقع فُرض عليَّ أنا ومجموعة صغيرة من الناس قُدر لها أن تواجه النظام رغما عنها في معركة حياة أو موت، بدأت حكايتنا نحن السكان البسطاء لأحدى المناطق الفقيرة والعشوائية بخبر عابر وصلنا مصادفة، قيل لنا وقتها أن النظام يستهدف منطقتنا وغيرها من المناطق المماثلة ليقيم بها مشروعا من مشروعاته المشبوهة التي يتخذها أركانه كوسيلة للتربح غير المشروع والإثراء الفاحش، كنا نسمع قبلها أحيانا عن حكايات الفساد التي يتورط فيها الوزراء وكبار المسئولين، بل إن الأمر تعدى ذلك ليشمل الحاكم نفسه وأولاده وأقاربه وأصهاره، نسمع هذه الحكايات فنضحك مهمومين ونتخذها مادة للتسلية أحيانا أو لنتأسف على أحوال بلدنا في أحيان أخرى، لم يكن بأيدينا ما نفعله فقد اعتاد أركان النظام التعامل مع البلد كأنها ملكية خاصة لهم غير عابئين بمعاناة البسطاء من الناس أو مفترضين عدم وجودهم أصلا، ولأننا كغيرنا من غالبية الناس في بلدنا مشغولون بلقمة العيش وهم الأولاد، نصارع ضغوط الحياة وقهر النظام، فقد كنا عاجزين تماما عن أن نفعل شيئا يتجاوز الكلام، وعندما وصلنا أن حياتنا البائسة التي نكدح فيها نحن وأولادنا كي نظل فقط على قيد الحياة معرضة للضياع بسبب مؤامرة جديدة من مؤامراتهم المستفزة، ملأ الإحباط قلوبنا وشعرنا بهواننا وقلة حيلتنا، كانوا قد خططوا للأمر وعزموا على تنفيذه كأننا غثاء لا قيمة له، لكننا قررنا بعد تجاوز الصدمة الأولى أن ندافع عن حياتنا رغم كل ما فيها من بؤس وشقاء، فرغم كل مساوئها هي حياتنا التي نحياها كما نشاء ولا نملك لها بديلا، ولأن منطقتنا كانت من العشوائيات ذات الطبيعة الخاصة فقد كنا بعيدين إلى حد ما عن قبضة النظام وتحكماته، ولأن قدري أن أكون من القلة المتعلمة في تلك المنطقة، وأن يكون لي بعض الاتصالات والمعارف بحكم عملي واقترابي من جماعات متنوعة من الصحفيين والأدباء والفنانين وغيرهم، فقد جعلني هذا مكلفا بقيادة حملتنا الإعلامية ضد المشروع الذي يستهدفنا، استعنا بالعديد من الصحفيين والسياسيين، الشعراء والموسيقيين، بالإضافة إلى بعض المفكرين ورجال القانون، كانت رغبة بعضهم في مشاركتنا قضيتنا صادقة وفعالة، في حين كان للبعض منهم دوافع خاصة بهم إلا أننا قررنا الاستفادة من الجميع، تم الترويج لقضيتنا عبر صحف خاصة وقنوات فضائية عديدة، نظمنا احتفاليات ثقافية وفنية وأخرى ذات طابع سياسي للترويج لقضيتنا، سلكنا إلى جانب ذلك مسارا قانونيا للدفاع عن حياتنا لكن النظام لم يتراجع، شن على الفور حملة من المضايقات المتنوعة ضد أهالي المنطقة، بدأت بحرماننا من بعض الخدمات القليلة التي كنا نتمتع بها والتضييق علينا وعلى أولادنا في مصادر رزقنا ولقمة عيشنا، تبع ذلك تواجد شبه دائم لقوات الأمن حول المنطقة وتحرشها بالأهالي، ولم يسلم الأمر من اعتقال بعضنا لفترات متقطعة بحجج واهية، لم تردعنا المعاناة أو الخسائر التي تفوق قدراتنا البسيطة عن الاستمرار في خوض معركتنا الصغيرة ضد النظام لشهور متصلة، ورغم كل ما واجهناه من مخاطر ومصاعب كشف لي الاحتكاك المستمر مع بعض أركان النظام وجهازه الأمني تحديدا مدى هشاشته وضحالة فكره وافتقاره للخيال والإبداع، بدا لي النظام وجهازه الأمني بوضوح كديناصور ضخم يحركه عقل محدود متناهي الصغر، كانت الصورة المتضخمة لقدرته على القهر والتنكيل والفتك بالناس أكبر بالفعل من حقيقتها، لذلك لم يكن غريبا بعد شهور طويلة من المعاناة أن نكسب معركتنا الصغيرة ضد النظام، كسبناها إعلاميا قبل أن نكسبها قانونيا، أجبرنا النظام على التراجع مخذولا فتم إيقاف المشروع ثم إلغائه، مثل انسحاب قوات الأمن لحظة تاريخية ومناسبة احتفالية بالنسبة لنا، أيقنت لحظتها أن أيام النظام في الحكم قد قاربت على الانتهاء، وأنه رغم كل ما يبدو من سيطرته الكاملة على مقاليد الأمور وتحكمه في أوراق اللعبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا أنه بالفعل عاجز عن التمسك بهذه الأوراق، لذلك لم يكن غريبا أن يثور الشعب بعدها بشهور ضد النظام وأن يكتشف اضطرابه وعجزه عن التمسك بالحكم، ساعتها كنت بين الملايين من الناس أخوض معهم المعركة للمرة الثانية، لكنها هذه المرة كانت معركة على نطاق أوسع بكثير، لم تكن معركتي أنا وأهل منطقتي الصغيرة العشوائية لكنها كانت معركة الوطن بأكمله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مهداة إلى الفنان محمد عبلة وأهالي جزيرة القرصاية
نوفمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مهداة إلى الفنان محمد عبلة وأهالي جزيرة القرصاية
نوفمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"