لا يستهوي الشعراء في الحياة شيء قدر ما يستهويهم الجمال ولا تجذبهم إلا نظاهر السحر في الكون، ولا تلفت أنظارهم سوى ملامح الغموض بين مجالي الطبيعة. هكذا هم دائماً، وهكذا كانوا في كل العصور الماضية على نحو ما ترينا النصوص والآثار التي تركوها لنا. وأعجب من هذا أنهم يمتازون بحب الجانب الذي أغفله الناس جميعاً ويهتمون بالنواحي التي لا تشغل الكثيرين ولا تهم الغالبية العظمى من الأحياء. فتجدهم مثلاً يلتذون من الصمت المطبق حيث تنفرد النفس بذاتها وتأخذ في اجترار أفكارها وتحرص على الانسجام الداخلي الخالص. أو ترى بعضهم يتغذى بمشاهدة الغرابة والظلمة كما تتغذى الديدان، في باطن الأرض، بالطين والجذور. وعلى هذا النحو نستطيع أن نؤكد اتجاها لم يكن بالعادي في حياة الشعراء والأدباء من بين مخلوقات الله، وأن نسجل عليهم ضربا من الهواية الشاذة التي لا يحياها ولا يقبل عليها سوى من ألفت روحه الانزواء والعزلة واعتادت نفسه الغربة والوحشة وعانى قلبه خفقات اليأس والحرمان.
والحب من الظاهرات العادية التي تحصل في حياة كل إنسان؛ ولكنها عند الشاعر تأخذ رسالة أخرى وتتسم بطابع معين وتتشرب بمشرب خاص. وأستطيع أن أكشف لك عن الفارق الذي يميز حب الشاعر من حب الآخرين عن طريق حقيقة نعرفها عن الأديب، وهي أنه إنسان فردي أو إنسان لا يشترك في الحياة العامة إلا بقدر حتى يملك الوقت الكافي لتسطير مشاعره وتحبير آرائه. فالأديب - وهذا هو ما ينبغي له - لا يعمل إلا حيث يصير الزمن في خدمته ولا يقبل على الكتابة والتأليف إلا عندما يفارق الناس. ومهمة الأديب بطبيعتها تلزمه نوعاً من الحياة لا يشاركه فيها غيره ممن تقتضي أعمالهم مخالطة الناس والانصراف إلى قضاء الأمور تحت أنظار العامة. وبعبارة موجزة نقول عن الأديب أنه يحكم عمله يأخذ برأي نيتشه في ضرورة المحافظة على ما بنينه وبين الناس من أبعاد. فهو انعزالي بالضرورة ويستحيل أن يحيا كما يحيا سواه بين مظاهر المجتمع البغيضة وتحت رحمة الأوضاع القاسية. ومن هنا يحاول الشاعر أن يوجد لنفسه عالماً خاضاً وأن يخلق لذاته دنياً من الأوهام التي يسلط عليها ذكاءه وقدرته على الكذب والتخي حتى تتحول بمضي الأيام إلى واقع ملموس. وتصطبغ كل خطوة في هذا العالم أو كل حركة تصدر عنه بشيء من الرهبة والقداسة وتأخذ ألواناً قوية في عقله بحيث تصير موضع احترامه ومهابته
وهنا أهمس في أذن القارئ سراً لعله لا يعرفه حتى الآن. فأنا أرجو منه أن يشك كثيراً في حوادث الغرام التي اعتاد الشعراء أن يقصوها على ألسنتهم بمناسبة وبغير مناسبة. إن حياة الشاعر أو الأديب عموماً تكون من الفراغ والتفاهة من ناحية الوقائع الجارية بحيث تخلو من أية صفات الجرأة التي تصورها القصائد. وإذا حصل شيء من الأشياء العادية في حياته فإنه - مهما بلغت بساطته - يصير ذا أهمية لديه ويحسبه النعيم المقيم والفردوس الخالد تبعاً لما يعانيه من النقص في التجارب ومن الفقر في العلاقات. مثله في ذلك كمثل الطفل حين تهدي إليه لعبة فاخرة عند حلول المواسم والأعياد أو كمثل الجائع الذي تطعمه طعاما لذيذاً بعد أن ظل أياما طوالا غير قادر على امتلاك ما يسد رمقه أو يشفي نهمه. فالشاعر عندما يسبغ على الحادثة الطفيفة في حياته معاني القداسة وعندما يلقي على الأفعال العادية لديه ظلا من الروعة والبهاء؛ أو قل عندما يحاول أن يضفي على الذكرى البسيطة ضرباً من الانكشاف والبروز فهو يأتي ذلك بسبب ما نرى الآن فيه - كما قلنا - من التجربة القليلة والاختبار الشخصي الضئيل. ويجيء علماء النفس بعد ذلك ليقولوا عن الشعراء أو العباقرة إن من خصائصهم الكذب ومن طبيعتهم المبالغة في التصوير والتهويل عند سرد الوقائع. ولا يأتي هذا من المرض النفسي في الحقيقة - كما نرى نحن في تفسيرنا لهذه الظاهرة - وإنما يأتي من تلك الظاهرة التي أتينا عليها، وهي أن الأديب بحكم وجوده الخالي من الأحداث الجسام والأفعال العظام قد عوض نفسه بما يحكيه من صنوف الحكايات التي تري كبرياءه وتريح غروره.
فالأديب إذا - أو الشاعر - بحكم ما يعانيه في الحياة من انزواء وبطبيعة ما تلزمه به أصول معيشته من الفردية والبقاء المستور قد امتلأت نفسه بحب الذكريات التي مرت به على الرغم مما فيها من هزال وما تتصف به من قلة الشأن. بينما قد لا يذكر سواه، من الناس الذين خاضوا في تجاربه هذه مئات المرات، شيئاً مر بهم لأنهم اعتادوا في كل الأحوال وفرة وكثرة وسمنة في كل الجوانب، ولو أنه صادف كل ما يصادفه الماجن العابث في أيامه الخوالي من متعة وانبساط في ملاقاة الغيد الأماليد وعشرة الغواني الملاح لما أحس في هذه الحركات بروزاً ولا وجد فيها غرابة ولا شعر بأنها موضوع للكلام والحديث
ولكن من الضروري في هذا المقام أن ننبه إلى شيء قد يفوت القارئ، وهو أن هذه الرغبة في الكذب وذلك الجنوح إلى التهويل والمبالغة لا يكونان عند الناقد الواعي محل شك وسوء ظن، لأن التجربة التي مر بها الشاعر كما وقعت في نفسه ومثلما ألقيت في روعه لا تختلف كثيراً عما يصوره لنا في وثائقه الأدبية. والصدق كل الصدق في الاتجاه الأدبي إنما يأتي من الوفاء عند تصوير الإحساس وعند محاولة الكشف عن سذاجته الأصلية بإزاء أحداث الوجود، فالشاعر لا يكذب عندما يغالي في سرد القصص ورواية التاريخ مهما خرج عن الحدود الحرفية لما جريات الأمور بمجرد العود إلى تذكرها من جديد، بل يصف وصفاً ممتازاً لطبيعته النفسية عند إسقاطه لمشاعره الخاصة على الواقع الخارجي الكالح. ونحن - من وجهة النظر النقدية الخالصة - لا نطالب الشاعر بأن يكون راوية أو مؤرخاً بقدر ما نطالبه بأن يكون مصوراً يأخذ بقواعد الفن حسبما تنزل الأشياء من نفسه وعلى نحو ما تصادف المظاهر من هواه
وننتهي من هذا كله إلى أن الفنان حينما يكذب يكون مضطراً تحت تأثير الفراغ الذي يجده في معاشه والتفاهة التي يلقاها طيلة أيامه والشذوذ الذي يتسم بن مزاجه. وإذا شئنا أن نتحرى الدقة في هذا الوصف فعلينا بأن نلاحظ مثلا كيف يفعل الشاعر؛ إذ يضطر بدافع من رغبة الناس في تصيد الملامح الخاصة بالعبقرية بين الأفراد، إلى أن يبدو في ملامح شاذة وإلى أن يظهر في الخارج ببعض الحركات والشيات التي تعبر عن جوه الداخلي ومما لا شك فيه أن دماغ الشاعر أو الأديب محتوية على الكثير مما يثبت نبوغه وجدارته، ولكن هذا النبوغ وهذه الجدارة لا يظهران للملأ على لافتة من اللافتات التي تعلن عما يكمن في ذاته وعما يختفي بين جوانحه، فيتجه بعضهم إلى التدخين مثلاً وقت الكتابة والتأليف حتى يشعر بالتكبير على هيئة الغيوم التي تتلبد في الهواء من حوله وحتى يشعر في عملية أخذ النفس ورد السيجارة - من حين إلى حين - بحركة تجسم عمله الذهني ومجهوده العقلي وتمثل اجتهاده في تصيد الأفكار ونظم الكلام.
فالعمل الفكري هو أبعد شيء عن الظهور وأرغب شيء عن روح الادعاء والرغبة في الإعلان. وهذا هو ما يبعث الغيظ في نفس الأديب، خصوصاً وأنه، من بين الناس جميعاً، يمتاز ببعض الهوس في طلب الشهرة وغير قليل من الغرور والتعالي بالنسبة إلى الآخرين. ولذلك يضطر إلى شيء من الذهاب بالنفس في الخيلاء إلى حد قد يبدو غريباً أمام الذين لا يعلمون شيئاً الأوار الذي يلهب صدره ويشعل كيانه من الداخل.
ومن هنا نريد أن نكون حريصين عندما نأخذ في دراسة الآثار التي تركها الأدباء والشعراء بخصوص المسائل القلبية والمشاعر المتصلة بالوجدان والعواطف التي تفرزها خيالاتهم وأوهامهم وإذا كانت من طبيعة الشاعر أن يجعل موضوع الحب محلا ً لعنايته واهتمامه، وأو إذا كان يتجه هذا الاتجاه بالفطرة فلسبب بسيط وهو أنه يعلم تمام العلم بنوع من البديهة أن الحب، من بين المظاهر الإنسانية جميعها، لا يكون موضع اشتراك ولا يحصل بطبيعته أمام أنظار الناس. ولذلك يسهل عليه تزوير قصصه والعبث بحكاياته والمداراة علة عيوبه فيه. فالحب تجربة فردية إلى أقصى درجة ولا يتم جوه إلا إذا خلصت الحياة لاثنين بالذات من بين الآدميين. ولذلك كان يستهوي الشعراء دائماً من هذه الناحية أيضاً، ويصير موضوعاً ممتازاً من موضوعات الاستغلال المعنوي والتعبير الذاتي.
فالحب يستهوي الشعراء ويكاد يكون موضوعاً لديهم جميعاً باستثناء القليلين لسببين تكلمنا عنهما حتى الآن وأعني بهما ما في الحب من طبيعة السحر والغموض والامتلاء بالأسرار ثم ما في الحب من مجال فسيح الإشباع رغبة الفنان عندما يحاول إعطاء حياته نوعاً من الأهمية وعندما يطمع في تغطية بعض الفراغ الذي يحيط به من كل جانب.
ثم هناك سبب ثالث وهو أن الحب مملوء بروح المأساة. وهذا في اعتقادي هو أهم الأسباب التي تدفع الشعراء نحو تصوير عواطفهم بإزاء من يحبون ومن يصطفون بين مخلوقات الله. قد يظن البعض أن المآسي تأتي بعد انتهاء مدة الحب وفترة التواصل ووقوع الفرقة. ولكن الشيء الصحيح في هذه الظاهرة هو أن المأساة التي هي من لوازم الحب الأصلية تملأ الشاعر بنوع من الميل وتجذبه جذباً بروائها وسحرها كما يجذب النور الأبيض فراش الليل الهائم بين أودية الظلام. فالشاعر ليس بالعالم الذي يطلب إليه ذكر الوقائع والتقيد بالأحداث، ولا يستطيع هو نفسه أن يستكفي بالحقائق يذكرها في غضون كلامه. ولذلك نراه مشوقاً إلى الكتابة التي لا تتقيد بالأشياء المضغوطة ولا يلتفت إلى المظاهر العامة وإنما ينتهز الفرصة كيما يستبيح لنفسه أن يقول ما يشاء وأن يأتي بالمعنى الذي يحشو به الألفاظ حسب هواه. وبناء على ما تقدم نراه ساعياً في الطريق إلى استقصاء التجربة القلبية حيث يمضي ولا قيد، ويسعى ولا رقيب، ثم يحكي ولا ضابط.
ومن ناحية أخرى يريد الشاعر - تبعاً لما لا حظناه عليه من طبيعة المغالاة - أن يسكب على وجوده معنى الألم وأن يكتشف في حياته طابع الاستشهاد وأن يقحم على كيانه بعض ما يشعره بالهم والمعاناة التي هي أصل في كل خلق فني والتي يصعب على الإنسان أن يحقق فكرة المرور بالتجربة من غيرها. فالدوحة عند الفنان نوع من الحث على العمل، وباعث إلى النشاط كما يبعث الجوع واحداً من الفقراء على القيام بالأشغال في مقابل الرزق الحلال. وإذا خلت حية الفنان من الأحداث المروعة فهو ملزم بأن يفتش بنفسه عن الارتياع حتى لا يجد مجالاً لإبراز مواهبه. وهذا يشبه تماماً سعي الأجير من أجل الحصول على العمل الذي يفتح أمام قواه سبيلا للأداء وطريقا للنفاذ. فالشاعر بطبيعة موقفه مضطر إلى أن يتطفل على حياة الآخرين حتى يجد وقوداً لفنه وحتى يجد مادة لشعره. وإذا صادف من يهيئ له أن يكون هو نفسه طرفاً في القضية وأن يشترك في التجربة مشاركة ذاتية أصيلة فأغلب الظن أنه لا يتردد، إن لم يندفع الدفاع الأهوج الطائش، في أداء دوره اللازم.
ولعلنا نذكر بهذه المناسبة ما جاء في قصيدة بودلير التي يسميها (ضميمة) من أبيات تصور هذه الحقيقة وترينا خطورة الصلة بين الألم والشاعر. فهو يقول:
كن عاقلا يا ألمي وتمسك بالهدوء أكثر من ذلك،
فها هو ذا الليل الذي تعلنه قد هبط.
على هيئة جو دامس يكسو وإلى الآخرين هماً.
وحينما تذهب الكثرة الخسيسة من أبناء الفناء،
تحت سوط اللذة. . .
ذلك الجلاد الذي لا يرحم. . .
لتجمع مباكت الضمير في الحفل المدنس، أعطني يدك يا ألمي، وابق إلى جانبي.
فالشاعر إذ يتجه إلى الحب فإنما يفعل ذلك تحت تأثير رغبته الجامحة في الحصول على الوقود الذي يشعل به نار فنه، ولكي يرضي في نفسه نزعة حامية من أجل التطلع إلى موضوع من موضوعات العمل الأدبي، وحتى يعثر في ذلك كله على الزيت الذي يستضيء به ذبالة روحه وتتفتح به جنبات فلبه وإذا شئنا أن ندرك عمله هنالك ففي مقدرتنا أن نمثله أو نشبهه بالعصفور الذي يبحث عن الأغصان في الغابة الفسيحة كيما يغني من فوقها أغنية القلب المحمل بالهموم والشعور المثقل بالمتاعب والفم الذي تخرج الأنات من شفتيه خرساء.
عبد الفتاح الريري
مجلة الرسالة - العدد 864
بتاريخ: 23 - 01 - 1950
والحب من الظاهرات العادية التي تحصل في حياة كل إنسان؛ ولكنها عند الشاعر تأخذ رسالة أخرى وتتسم بطابع معين وتتشرب بمشرب خاص. وأستطيع أن أكشف لك عن الفارق الذي يميز حب الشاعر من حب الآخرين عن طريق حقيقة نعرفها عن الأديب، وهي أنه إنسان فردي أو إنسان لا يشترك في الحياة العامة إلا بقدر حتى يملك الوقت الكافي لتسطير مشاعره وتحبير آرائه. فالأديب - وهذا هو ما ينبغي له - لا يعمل إلا حيث يصير الزمن في خدمته ولا يقبل على الكتابة والتأليف إلا عندما يفارق الناس. ومهمة الأديب بطبيعتها تلزمه نوعاً من الحياة لا يشاركه فيها غيره ممن تقتضي أعمالهم مخالطة الناس والانصراف إلى قضاء الأمور تحت أنظار العامة. وبعبارة موجزة نقول عن الأديب أنه يحكم عمله يأخذ برأي نيتشه في ضرورة المحافظة على ما بنينه وبين الناس من أبعاد. فهو انعزالي بالضرورة ويستحيل أن يحيا كما يحيا سواه بين مظاهر المجتمع البغيضة وتحت رحمة الأوضاع القاسية. ومن هنا يحاول الشاعر أن يوجد لنفسه عالماً خاضاً وأن يخلق لذاته دنياً من الأوهام التي يسلط عليها ذكاءه وقدرته على الكذب والتخي حتى تتحول بمضي الأيام إلى واقع ملموس. وتصطبغ كل خطوة في هذا العالم أو كل حركة تصدر عنه بشيء من الرهبة والقداسة وتأخذ ألواناً قوية في عقله بحيث تصير موضع احترامه ومهابته
وهنا أهمس في أذن القارئ سراً لعله لا يعرفه حتى الآن. فأنا أرجو منه أن يشك كثيراً في حوادث الغرام التي اعتاد الشعراء أن يقصوها على ألسنتهم بمناسبة وبغير مناسبة. إن حياة الشاعر أو الأديب عموماً تكون من الفراغ والتفاهة من ناحية الوقائع الجارية بحيث تخلو من أية صفات الجرأة التي تصورها القصائد. وإذا حصل شيء من الأشياء العادية في حياته فإنه - مهما بلغت بساطته - يصير ذا أهمية لديه ويحسبه النعيم المقيم والفردوس الخالد تبعاً لما يعانيه من النقص في التجارب ومن الفقر في العلاقات. مثله في ذلك كمثل الطفل حين تهدي إليه لعبة فاخرة عند حلول المواسم والأعياد أو كمثل الجائع الذي تطعمه طعاما لذيذاً بعد أن ظل أياما طوالا غير قادر على امتلاك ما يسد رمقه أو يشفي نهمه. فالشاعر عندما يسبغ على الحادثة الطفيفة في حياته معاني القداسة وعندما يلقي على الأفعال العادية لديه ظلا من الروعة والبهاء؛ أو قل عندما يحاول أن يضفي على الذكرى البسيطة ضرباً من الانكشاف والبروز فهو يأتي ذلك بسبب ما نرى الآن فيه - كما قلنا - من التجربة القليلة والاختبار الشخصي الضئيل. ويجيء علماء النفس بعد ذلك ليقولوا عن الشعراء أو العباقرة إن من خصائصهم الكذب ومن طبيعتهم المبالغة في التصوير والتهويل عند سرد الوقائع. ولا يأتي هذا من المرض النفسي في الحقيقة - كما نرى نحن في تفسيرنا لهذه الظاهرة - وإنما يأتي من تلك الظاهرة التي أتينا عليها، وهي أن الأديب بحكم وجوده الخالي من الأحداث الجسام والأفعال العظام قد عوض نفسه بما يحكيه من صنوف الحكايات التي تري كبرياءه وتريح غروره.
فالأديب إذا - أو الشاعر - بحكم ما يعانيه في الحياة من انزواء وبطبيعة ما تلزمه به أصول معيشته من الفردية والبقاء المستور قد امتلأت نفسه بحب الذكريات التي مرت به على الرغم مما فيها من هزال وما تتصف به من قلة الشأن. بينما قد لا يذكر سواه، من الناس الذين خاضوا في تجاربه هذه مئات المرات، شيئاً مر بهم لأنهم اعتادوا في كل الأحوال وفرة وكثرة وسمنة في كل الجوانب، ولو أنه صادف كل ما يصادفه الماجن العابث في أيامه الخوالي من متعة وانبساط في ملاقاة الغيد الأماليد وعشرة الغواني الملاح لما أحس في هذه الحركات بروزاً ولا وجد فيها غرابة ولا شعر بأنها موضوع للكلام والحديث
ولكن من الضروري في هذا المقام أن ننبه إلى شيء قد يفوت القارئ، وهو أن هذه الرغبة في الكذب وذلك الجنوح إلى التهويل والمبالغة لا يكونان عند الناقد الواعي محل شك وسوء ظن، لأن التجربة التي مر بها الشاعر كما وقعت في نفسه ومثلما ألقيت في روعه لا تختلف كثيراً عما يصوره لنا في وثائقه الأدبية. والصدق كل الصدق في الاتجاه الأدبي إنما يأتي من الوفاء عند تصوير الإحساس وعند محاولة الكشف عن سذاجته الأصلية بإزاء أحداث الوجود، فالشاعر لا يكذب عندما يغالي في سرد القصص ورواية التاريخ مهما خرج عن الحدود الحرفية لما جريات الأمور بمجرد العود إلى تذكرها من جديد، بل يصف وصفاً ممتازاً لطبيعته النفسية عند إسقاطه لمشاعره الخاصة على الواقع الخارجي الكالح. ونحن - من وجهة النظر النقدية الخالصة - لا نطالب الشاعر بأن يكون راوية أو مؤرخاً بقدر ما نطالبه بأن يكون مصوراً يأخذ بقواعد الفن حسبما تنزل الأشياء من نفسه وعلى نحو ما تصادف المظاهر من هواه
وننتهي من هذا كله إلى أن الفنان حينما يكذب يكون مضطراً تحت تأثير الفراغ الذي يجده في معاشه والتفاهة التي يلقاها طيلة أيامه والشذوذ الذي يتسم بن مزاجه. وإذا شئنا أن نتحرى الدقة في هذا الوصف فعلينا بأن نلاحظ مثلا كيف يفعل الشاعر؛ إذ يضطر بدافع من رغبة الناس في تصيد الملامح الخاصة بالعبقرية بين الأفراد، إلى أن يبدو في ملامح شاذة وإلى أن يظهر في الخارج ببعض الحركات والشيات التي تعبر عن جوه الداخلي ومما لا شك فيه أن دماغ الشاعر أو الأديب محتوية على الكثير مما يثبت نبوغه وجدارته، ولكن هذا النبوغ وهذه الجدارة لا يظهران للملأ على لافتة من اللافتات التي تعلن عما يكمن في ذاته وعما يختفي بين جوانحه، فيتجه بعضهم إلى التدخين مثلاً وقت الكتابة والتأليف حتى يشعر بالتكبير على هيئة الغيوم التي تتلبد في الهواء من حوله وحتى يشعر في عملية أخذ النفس ورد السيجارة - من حين إلى حين - بحركة تجسم عمله الذهني ومجهوده العقلي وتمثل اجتهاده في تصيد الأفكار ونظم الكلام.
فالعمل الفكري هو أبعد شيء عن الظهور وأرغب شيء عن روح الادعاء والرغبة في الإعلان. وهذا هو ما يبعث الغيظ في نفس الأديب، خصوصاً وأنه، من بين الناس جميعاً، يمتاز ببعض الهوس في طلب الشهرة وغير قليل من الغرور والتعالي بالنسبة إلى الآخرين. ولذلك يضطر إلى شيء من الذهاب بالنفس في الخيلاء إلى حد قد يبدو غريباً أمام الذين لا يعلمون شيئاً الأوار الذي يلهب صدره ويشعل كيانه من الداخل.
ومن هنا نريد أن نكون حريصين عندما نأخذ في دراسة الآثار التي تركها الأدباء والشعراء بخصوص المسائل القلبية والمشاعر المتصلة بالوجدان والعواطف التي تفرزها خيالاتهم وأوهامهم وإذا كانت من طبيعة الشاعر أن يجعل موضوع الحب محلا ً لعنايته واهتمامه، وأو إذا كان يتجه هذا الاتجاه بالفطرة فلسبب بسيط وهو أنه يعلم تمام العلم بنوع من البديهة أن الحب، من بين المظاهر الإنسانية جميعها، لا يكون موضع اشتراك ولا يحصل بطبيعته أمام أنظار الناس. ولذلك يسهل عليه تزوير قصصه والعبث بحكاياته والمداراة علة عيوبه فيه. فالحب تجربة فردية إلى أقصى درجة ولا يتم جوه إلا إذا خلصت الحياة لاثنين بالذات من بين الآدميين. ولذلك كان يستهوي الشعراء دائماً من هذه الناحية أيضاً، ويصير موضوعاً ممتازاً من موضوعات الاستغلال المعنوي والتعبير الذاتي.
فالحب يستهوي الشعراء ويكاد يكون موضوعاً لديهم جميعاً باستثناء القليلين لسببين تكلمنا عنهما حتى الآن وأعني بهما ما في الحب من طبيعة السحر والغموض والامتلاء بالأسرار ثم ما في الحب من مجال فسيح الإشباع رغبة الفنان عندما يحاول إعطاء حياته نوعاً من الأهمية وعندما يطمع في تغطية بعض الفراغ الذي يحيط به من كل جانب.
ثم هناك سبب ثالث وهو أن الحب مملوء بروح المأساة. وهذا في اعتقادي هو أهم الأسباب التي تدفع الشعراء نحو تصوير عواطفهم بإزاء من يحبون ومن يصطفون بين مخلوقات الله. قد يظن البعض أن المآسي تأتي بعد انتهاء مدة الحب وفترة التواصل ووقوع الفرقة. ولكن الشيء الصحيح في هذه الظاهرة هو أن المأساة التي هي من لوازم الحب الأصلية تملأ الشاعر بنوع من الميل وتجذبه جذباً بروائها وسحرها كما يجذب النور الأبيض فراش الليل الهائم بين أودية الظلام. فالشاعر ليس بالعالم الذي يطلب إليه ذكر الوقائع والتقيد بالأحداث، ولا يستطيع هو نفسه أن يستكفي بالحقائق يذكرها في غضون كلامه. ولذلك نراه مشوقاً إلى الكتابة التي لا تتقيد بالأشياء المضغوطة ولا يلتفت إلى المظاهر العامة وإنما ينتهز الفرصة كيما يستبيح لنفسه أن يقول ما يشاء وأن يأتي بالمعنى الذي يحشو به الألفاظ حسب هواه. وبناء على ما تقدم نراه ساعياً في الطريق إلى استقصاء التجربة القلبية حيث يمضي ولا قيد، ويسعى ولا رقيب، ثم يحكي ولا ضابط.
ومن ناحية أخرى يريد الشاعر - تبعاً لما لا حظناه عليه من طبيعة المغالاة - أن يسكب على وجوده معنى الألم وأن يكتشف في حياته طابع الاستشهاد وأن يقحم على كيانه بعض ما يشعره بالهم والمعاناة التي هي أصل في كل خلق فني والتي يصعب على الإنسان أن يحقق فكرة المرور بالتجربة من غيرها. فالدوحة عند الفنان نوع من الحث على العمل، وباعث إلى النشاط كما يبعث الجوع واحداً من الفقراء على القيام بالأشغال في مقابل الرزق الحلال. وإذا خلت حية الفنان من الأحداث المروعة فهو ملزم بأن يفتش بنفسه عن الارتياع حتى لا يجد مجالاً لإبراز مواهبه. وهذا يشبه تماماً سعي الأجير من أجل الحصول على العمل الذي يفتح أمام قواه سبيلا للأداء وطريقا للنفاذ. فالشاعر بطبيعة موقفه مضطر إلى أن يتطفل على حياة الآخرين حتى يجد وقوداً لفنه وحتى يجد مادة لشعره. وإذا صادف من يهيئ له أن يكون هو نفسه طرفاً في القضية وأن يشترك في التجربة مشاركة ذاتية أصيلة فأغلب الظن أنه لا يتردد، إن لم يندفع الدفاع الأهوج الطائش، في أداء دوره اللازم.
ولعلنا نذكر بهذه المناسبة ما جاء في قصيدة بودلير التي يسميها (ضميمة) من أبيات تصور هذه الحقيقة وترينا خطورة الصلة بين الألم والشاعر. فهو يقول:
كن عاقلا يا ألمي وتمسك بالهدوء أكثر من ذلك،
فها هو ذا الليل الذي تعلنه قد هبط.
على هيئة جو دامس يكسو وإلى الآخرين هماً.
وحينما تذهب الكثرة الخسيسة من أبناء الفناء،
تحت سوط اللذة. . .
ذلك الجلاد الذي لا يرحم. . .
لتجمع مباكت الضمير في الحفل المدنس، أعطني يدك يا ألمي، وابق إلى جانبي.
فالشاعر إذ يتجه إلى الحب فإنما يفعل ذلك تحت تأثير رغبته الجامحة في الحصول على الوقود الذي يشعل به نار فنه، ولكي يرضي في نفسه نزعة حامية من أجل التطلع إلى موضوع من موضوعات العمل الأدبي، وحتى يعثر في ذلك كله على الزيت الذي يستضيء به ذبالة روحه وتتفتح به جنبات فلبه وإذا شئنا أن ندرك عمله هنالك ففي مقدرتنا أن نمثله أو نشبهه بالعصفور الذي يبحث عن الأغصان في الغابة الفسيحة كيما يغني من فوقها أغنية القلب المحمل بالهموم والشعور المثقل بالمتاعب والفم الذي تخرج الأنات من شفتيه خرساء.
عبد الفتاح الريري
مجلة الرسالة - العدد 864
بتاريخ: 23 - 01 - 1950