إذا كان أصل الشعر من الشعور. وإذا كان الشاعر هو الذي يشعر بما لا يشعر به غيره من عامة الناس، فليس في شعراء العرب من هو أعلى شاعرية من المتنبي، ولا أنبط قريحة، وأثقب ذهناً، وأدق فكراً، وأسرع خاطراً منه.
وقد اختص المتنبي في شعره بمميزات امتازها على غيره.
فمنها أنه أقدر الشعراء على جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ولذا نرى شعره في الغالب ريان بالمعنى وتكثر في شعره الأشطر المستقلة في اللفظ والمعنى حتى لا تكاد تجد له قصيدة تخلو من ذلك.
ومنها دقة معانيه وغموضها وإشاراته إلى بعض المعاني أحياناً من طرف خفي، ولذا ترى نفسك إذا قرأت قصيدة من قصائده المشهورة مضطراً إلى التوقف عند كل بيت من أبياتها لإعادة النظر فيه وتدبره جيداً.
على أنك لا ترجع بعد إعادة النظر فيه خائباً، بل كلما زدته نظراً زادك معنى.
ولهذا عني علماء الأدب بديوانه حتى شرحوه أكثر من أربعين شرحاً. ولم نسمع بشاعر عني الناس بشرح ديوانه أكثر من المتنبي.
ومنها أن له أسلوباً خاصاً به ممتازاً عند من مارس شعره على أساليب غيره من الشعراء.
ولا نقول: أن أسلوب المتنبي في شعره أرقى أسلوب.
بل نقول: كما كان للمتنبي سحنة وملامح يمتاز بها وجهه عن وجه غيره من الناس، كذلك كان له في شعره أسلوب خاص يمتاز به شعره عن أساليب غيره من الشعراء.
وهذا أكبر دليل على أن المتنبي مبتدع في صناعته لا متتبع وموجد في شعره ولا محتد، لا تجد في الشعراء من ابتدع له أسلوباً جرى عليه في شعره كالمتنبي، فعرف به، وامتاز على غيره إلا القليل منهم.
ولولا ضيق المقام لبحثنا بحثاً دقيقاً عما لهذا الأسلوب من العلامات الفارقة وعما أقامه فيه المتنبي لنفسه من الأعلام والصوى.
فإنها كثيرة تحتاج إلى بحث طويل، غير أن المعول عليه في معرفة ذلك هو الذوق الحاصل من طول الممارسة.
ونحن واثقون بأن من صحت قرائحهم وسلمت أذواقهم بممارسة الآداب العربية لا ينكرون علينا ما ندعيه للمتنبي في شعره من أسلوبه الخاص.
ولو كان المتنبي يعتني بألفاظه عنايته بمعانيه، لما جاز لأحد أن يتجشم الفكر في بيان أسباب تفضيله على الشعراء قاطبة؛ لأن تفضيله إذ ذاك كان يكون من البديهيات، بل من الضروريات. ولكن المتنبي كان جل عنايته بالمعاني دون الألفاظ، فلا يكترث إلا لها، ولا يعول إلا عليها.
ومن هنا قدر أعداؤه أن يجدوا فيه مطعناً، وإلا فهم كما قال هو:
وكم من عائب قولاً صحيحاً = وآفته من الفهم السقيم
وعندي أن المتنبي على علاته أرقى شاعرية من غيره، فهو في الشعر العربي هو الأول والآخر!!
وهو وإن كان أرقى شاعرية من أبي العلاء، إلا أنه أحط منزلة منه في نظري، أي أني أجل أبا العلاء أكثر منه، لتعاليه عما تنازل إليه المتنبي من قتو الملوك بشعره ومدحهم بالباطل، طمعاً في جائزة يتقاضاها، أو ولاية يتولاها.
ولعمري، إني كلما قرأت شعر المتنبي، حرّفت عليه الأرَّم غيظاً لإهانته ما آتاه الله من تلك القدرة البيانية العظمى بصرفها بغير مصرفها، ووضعها في غير موضعها، واتخاذه إليها آلة، لوقوفه بين يدي الملوك موقف السائل الصعلوك.
ومن الغريب أننا نرى أكثر الذين ترجموا لنا المتنبي قالوا:
(إن علماء الأدب مختلفون، فمنهم من يرجحه على أبي تمام والبحتري، ومنهم من يرجحهما عليه).
سبحان الله!!
هبهم ترددوا بين المتنبي وأبي تمام، سائلين: أيهما أشعر؟ فاغتفر لهم ذلك، لأن أبا تمام شاعر كبير أيضاً، وإن كان دون المتنبي شاعرية في نفس الأمر. ولكن كيف يجوز لهم أن يترددوا بينه وبين البحتري؟ وهل هذا منهم إلا ضلال مبين؟ فإن البحتري ابن لبون، والمتنبي بازل قنعاس.
وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ = لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
أكثر الذين عابوا المتنبي في زمانه، وإما تعصباً للمألوف عندهم.
وهذا شأن أوساط الناس، ينكرون كل ما رأوه مخالفاً لما اعتادوه وألفوه، وما علموا أن المتنبي مبتدع في صناعته لا متبع، وإنه لا يتقيد بما قيدوا به أنفسهم، ولا يبالي بالخروج في شعره عن الطرق المعلومة عندهم، ولو أجمع كل الشعراء على سلوكها.
وهذه الحالة فيه هي أكبر مزية له على غيره، على يجب أن نقدر حق قدرها مهما كان شعره فليكن.
ومما أسقط أبا فراس الحمداني عن المروءة الأدبية قوله لسيف الدولة: (إنك تعطي هذا المتشدق ثلاثة آلاف دينار في السنة على ثلاث قصائد، ولو فرقت مائتي دينار على عشرين شاعراً لأتوك بما هو خير من شعره).
يا للعجب!!
أما والله ما أهين الشعر والأدب بأبشع من هذا الكلام. ولو كان صادراً عن غير شاعر، لما عجبنا.
ولكنه كلام أبي فراس الذي يعرف ما هو الشعر، والذي يجب أن يستقل دنانير ابن عمه الكثيرة في جنب كل غرة من غرر شعر المتنبي. ذلك الشعر الذي خلد لسيف الدولة على الأيام ذكراً لم يخلد له ملكه.
ولكن، قاتل الله الحسد، فإنه هو الذي أنطق أبا فراس بهذا الكلام.
كان الشعراء في زمن المتنبي وقبله إذا مدحوا صدروا مدائحهم بشيء من النسيب، وكانت هذه الطريقة مسلوكة عندهم لا يخرجون عنها ولا يحيدون، فخالفهم المتنبي، وكسر هذا القيد ولم يتقيد به، وانتقدهم عليه بقوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم = أكلُّ بليغ قال شعراً متيَّمُ
لحب ابن عبد الله أولى فإنه = به يبدأ الذكر الجميل ويُختَمُ
فانظر كيف ذكر طريقتهم في شطر، وانتقادها في شطر، وأوجد له طريقة أخرى في البيت الثاني.
ولكن حساده المتعصبين، لما ألفوه، قد حملوا ذلك منه على عجزه عن النسيب وتقصيره فيه، وقالوا أن المتنبي لا يجيد في الغزل والنسيب. وهو قول باطل، لأن ما تراه في شعره من الغزل على قلته يدل دلالة قاطعة على أنه من المبرزين في هذا الفن أيضاً.
ولعمري، أن من يقول:
أتراها لكثرة العشاق = تحسب الدمع خلقة في المآقي
ويقول:
وخصر تثبت الأبصار فيه = كأن عليه من حدقٍ نطاقا
ويقول:
أمَّلت ساعة ساروا كشف معصمها = ليلبث الركب دون السير حيرانا
قد كنت أشفق من دمعي على بصري = واليوم كل عزيزٍ بعدكم هانا
لا يجوز أن يعد في هذا الفن إلا من المجيدين المبرزين.
قال في (الصبح المنبي):
(كان لابن جني هوى في أبي الطيب، وكان كثير الإعجاب بشعره، وكان يسوؤه إطناب أبي علي الفارسي في الطعن عليه، واتفق أن قال أبو علي يوماً: اذكروا لنا بيتاً من الشعر نبحث فيه، فابتدر ابن جني وأنشد:
حللت دون المزار قاليوم لو زر = يت لحال النحول دون العناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى. فقال ابن جني: هو الذي يقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي = وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقال: والله، وهذا أحسن، فلمن هو؟ قال: للذي يقول:
أمضى إرادته فسوق له قد = واستقرب الأقصى فشمَّ له هنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال: لمن هذا؟ فقال: الذي يقول:
وضع الندى في موضع السيف بالعلى = مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
فقال: هذا والله أحسن، ولقد أطلت يا أبا الفتح، فمن هذا القائل؟
قال: هو الذي لا يزال يستثقله ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام الباب.
فقال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قال: نعم.
فقال: (والله لقد حببته إليّ، ونهض، ودخل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيب. ولما اجتاز به استنزله إليه، واستنشده، وكتب عنه أبياتاً من شعره) انتهى.
وأما شعره، فإذا قطعنا النظر عن كل من مفردات أبياته، ونظرنا إلى مجموعه نظراً عاماً، رأيناه متدرجاً إلى الكمال بحسب أدوار حياته الأربعة التي مر ذكرها.
فشعره في دوره الثاني، أو بعد اتصاله بسيف الدولة، أرقى من شعره قبل ذلك.
وشعره عند كافور، أي في الدور الثالث، أرقى من شعره في الدور الثاني. وكذلك هو في دوره الرابع، أي بعد مفارقته كافوراً، أرقى منه في أدواره السابقة.
وهذا التدرج إلى الكمال، محسوس في شعره، يدركه الذوق السليم عند أدنى تأمل فيه، خلافاً لما ادعاه بعض المتأخرين من شراح ديوانه من أن شعره عند سيف الدولة منحط عما قلبه، وأن شعره قبل اتصاله بسيف الدولة، أي في دوره الأول، وإن شعره بعد كافور، أي عند اتصاله بابن العميد وعضد الدولة، منحط أيضاً كشعره عند سيف الدولة.
ولعمري، إن هذا القول من الغرابة بمكان. فقد جعل لشعر المتنبي سيراً ذا تعاريج، وإذا شبهناه نظراً إلى هذا القول بأمر محسوس، قلنا: إن المتنبي كان قبل اتصاله بسيف الدولة ماشياً بصناعته الشعرية على قمة جبل عالٍ. فلما اتصل بسيف الدولة نزل بشعره من أعلى ذلك الجبل إلى مهواة عميقة. ثم لما ذهب إلى كافور، ارتقى بشعره من تلك المهواة إلى جبل عالٍ كالأول، حتى إذا جرى فوق هذا الجبل وشوطه، نزل إلى مهواة أعمق من السابقة، وذلك عند اتصاله بابن العميد وسيف الدولة. وهكذا نرى شاعرية المتنبي على هذا الرأي الأفين في صعود وهبوط، مترددة بين الأوج والحضيض.
واغرب من ذلك أن صاحب هذا الرأي قد علل هذه الحادثة الغريبة بعلل متناقضة، حيث قال: (وذلك أنه (يعني المتنبي) عند اتصاله بسيف الدولة وقف منه بباب حافل بالشعراء والعلماء من نقدة الشعر، فلم يكن له بد من حشد القريحة في سيف الدولة، والإكثار من التحري، والتنطس في ألفاظه ومعانيه، والإمعان في الاحتفال إلى ما وراء طبعه، حتى انقلبت قريحته صنعة وبادرته تكلفاً. ولما لم يكن كذلك عند كافور، عاد شعره إلى السهولة والرشاقة، فأشبه شعره قبل اتصاله بسيف الدولة.
قال: وشعره في ابن العميد متأخر عن شعره في كافور، لكنه أشبه بشعره في سيف الدولة، أي منحط، لأن ابن العميد كان من مشاهير العلماء والأدب وأمراء النقد. قال: وأما شعره في عضد الدولة، فأنزل رتبة من ذلك كله؛ لأنه كان يرسل الكلام فيه من فضل القريحة، لقلة المزاحمين والنقاد، فلم يكن يتوخى الاحتفال ولا الاختراع إلا ما ساقته القريحة عفواً).
فانظروا - يا رعاكم الله - إلى هذا التعليل المتناقض كيف جعل كثرة النقاد والمزاحمين من الشعراء والعلماء عند سيف الدولة سبباً لانحطاط شعر المتنبي فيه، لأن خوف النقد على زعمه قد حمل المتنبي على التحري والتنطس في شعره، لكي يكون شعره جيداً، فجاءت النتيجة معكوسة، وصار شعر المتنبي رديئاً منحطاً.
ولما لم يكن هذا الخوف موجوداً عند كافور، أخذ المتنبي بخشب الشعر خشناً من غير تروٍ ولا تنطس، فجاء شعره جيداً.
فيا للعجب العجيب!
كيف كان التروي والتنطس في الشعر من أسباب إرذاله؟ ومتى كان خشب الشعر خيراً من تنقيحه؟
وإذا كان وجود النقاد والمزاحمين عند سيف الدولة وعند ابن العميد سبباً لانحطاط شعر المتنبي فيهما، لزم أن يكون عدمهم وخلو الجو منهم سبباً للإجادة عند عضد الدولة كما قد أجاد المتنبي عند كافور لهذا السبب على زعم صاحب هذا الرأي.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف جعل عدم النقاد والمزاحمين سبباً لانحطاط شعره عند عضد الدولة؟ وهل تكون العلة الواحدة علة لأمرين متناقضين؟ فكيف كان خلو الجو من النقاد سبباً للإجادة عند كافور، وسبباً للإرذال عند عضد الدولة؟
إن هذا الرأي ظاهر الفساد. والحقيقة هي أن شعر المتنبي متدرج إلى الكمال بحسب أدوار حياته الأربعة. ولولا خوف الإطالة، لانتخبنا للقراء غرر شعره منذ أيام صباه إلى آخر حياته. والحمد لله رب العالمين.
معروف الرصافي
بغداد - الأربعاء 20 ربيع الأول 1342
31 تشرين الأول 1923
وقد اختص المتنبي في شعره بمميزات امتازها على غيره.
فمنها أنه أقدر الشعراء على جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ولذا نرى شعره في الغالب ريان بالمعنى وتكثر في شعره الأشطر المستقلة في اللفظ والمعنى حتى لا تكاد تجد له قصيدة تخلو من ذلك.
ومنها دقة معانيه وغموضها وإشاراته إلى بعض المعاني أحياناً من طرف خفي، ولذا ترى نفسك إذا قرأت قصيدة من قصائده المشهورة مضطراً إلى التوقف عند كل بيت من أبياتها لإعادة النظر فيه وتدبره جيداً.
على أنك لا ترجع بعد إعادة النظر فيه خائباً، بل كلما زدته نظراً زادك معنى.
ولهذا عني علماء الأدب بديوانه حتى شرحوه أكثر من أربعين شرحاً. ولم نسمع بشاعر عني الناس بشرح ديوانه أكثر من المتنبي.
ومنها أن له أسلوباً خاصاً به ممتازاً عند من مارس شعره على أساليب غيره من الشعراء.
ولا نقول: أن أسلوب المتنبي في شعره أرقى أسلوب.
بل نقول: كما كان للمتنبي سحنة وملامح يمتاز بها وجهه عن وجه غيره من الناس، كذلك كان له في شعره أسلوب خاص يمتاز به شعره عن أساليب غيره من الشعراء.
وهذا أكبر دليل على أن المتنبي مبتدع في صناعته لا متتبع وموجد في شعره ولا محتد، لا تجد في الشعراء من ابتدع له أسلوباً جرى عليه في شعره كالمتنبي، فعرف به، وامتاز على غيره إلا القليل منهم.
ولولا ضيق المقام لبحثنا بحثاً دقيقاً عما لهذا الأسلوب من العلامات الفارقة وعما أقامه فيه المتنبي لنفسه من الأعلام والصوى.
فإنها كثيرة تحتاج إلى بحث طويل، غير أن المعول عليه في معرفة ذلك هو الذوق الحاصل من طول الممارسة.
ونحن واثقون بأن من صحت قرائحهم وسلمت أذواقهم بممارسة الآداب العربية لا ينكرون علينا ما ندعيه للمتنبي في شعره من أسلوبه الخاص.
ولو كان المتنبي يعتني بألفاظه عنايته بمعانيه، لما جاز لأحد أن يتجشم الفكر في بيان أسباب تفضيله على الشعراء قاطبة؛ لأن تفضيله إذ ذاك كان يكون من البديهيات، بل من الضروريات. ولكن المتنبي كان جل عنايته بالمعاني دون الألفاظ، فلا يكترث إلا لها، ولا يعول إلا عليها.
ومن هنا قدر أعداؤه أن يجدوا فيه مطعناً، وإلا فهم كما قال هو:
وكم من عائب قولاً صحيحاً = وآفته من الفهم السقيم
وعندي أن المتنبي على علاته أرقى شاعرية من غيره، فهو في الشعر العربي هو الأول والآخر!!
وهو وإن كان أرقى شاعرية من أبي العلاء، إلا أنه أحط منزلة منه في نظري، أي أني أجل أبا العلاء أكثر منه، لتعاليه عما تنازل إليه المتنبي من قتو الملوك بشعره ومدحهم بالباطل، طمعاً في جائزة يتقاضاها، أو ولاية يتولاها.
ولعمري، إني كلما قرأت شعر المتنبي، حرّفت عليه الأرَّم غيظاً لإهانته ما آتاه الله من تلك القدرة البيانية العظمى بصرفها بغير مصرفها، ووضعها في غير موضعها، واتخاذه إليها آلة، لوقوفه بين يدي الملوك موقف السائل الصعلوك.
ومن الغريب أننا نرى أكثر الذين ترجموا لنا المتنبي قالوا:
(إن علماء الأدب مختلفون، فمنهم من يرجحه على أبي تمام والبحتري، ومنهم من يرجحهما عليه).
سبحان الله!!
هبهم ترددوا بين المتنبي وأبي تمام، سائلين: أيهما أشعر؟ فاغتفر لهم ذلك، لأن أبا تمام شاعر كبير أيضاً، وإن كان دون المتنبي شاعرية في نفس الأمر. ولكن كيف يجوز لهم أن يترددوا بينه وبين البحتري؟ وهل هذا منهم إلا ضلال مبين؟ فإن البحتري ابن لبون، والمتنبي بازل قنعاس.
وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ = لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
أكثر الذين عابوا المتنبي في زمانه، وإما تعصباً للمألوف عندهم.
وهذا شأن أوساط الناس، ينكرون كل ما رأوه مخالفاً لما اعتادوه وألفوه، وما علموا أن المتنبي مبتدع في صناعته لا متبع، وإنه لا يتقيد بما قيدوا به أنفسهم، ولا يبالي بالخروج في شعره عن الطرق المعلومة عندهم، ولو أجمع كل الشعراء على سلوكها.
وهذه الحالة فيه هي أكبر مزية له على غيره، على يجب أن نقدر حق قدرها مهما كان شعره فليكن.
ومما أسقط أبا فراس الحمداني عن المروءة الأدبية قوله لسيف الدولة: (إنك تعطي هذا المتشدق ثلاثة آلاف دينار في السنة على ثلاث قصائد، ولو فرقت مائتي دينار على عشرين شاعراً لأتوك بما هو خير من شعره).
يا للعجب!!
أما والله ما أهين الشعر والأدب بأبشع من هذا الكلام. ولو كان صادراً عن غير شاعر، لما عجبنا.
ولكنه كلام أبي فراس الذي يعرف ما هو الشعر، والذي يجب أن يستقل دنانير ابن عمه الكثيرة في جنب كل غرة من غرر شعر المتنبي. ذلك الشعر الذي خلد لسيف الدولة على الأيام ذكراً لم يخلد له ملكه.
ولكن، قاتل الله الحسد، فإنه هو الذي أنطق أبا فراس بهذا الكلام.
كان الشعراء في زمن المتنبي وقبله إذا مدحوا صدروا مدائحهم بشيء من النسيب، وكانت هذه الطريقة مسلوكة عندهم لا يخرجون عنها ولا يحيدون، فخالفهم المتنبي، وكسر هذا القيد ولم يتقيد به، وانتقدهم عليه بقوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم = أكلُّ بليغ قال شعراً متيَّمُ
لحب ابن عبد الله أولى فإنه = به يبدأ الذكر الجميل ويُختَمُ
فانظر كيف ذكر طريقتهم في شطر، وانتقادها في شطر، وأوجد له طريقة أخرى في البيت الثاني.
ولكن حساده المتعصبين، لما ألفوه، قد حملوا ذلك منه على عجزه عن النسيب وتقصيره فيه، وقالوا أن المتنبي لا يجيد في الغزل والنسيب. وهو قول باطل، لأن ما تراه في شعره من الغزل على قلته يدل دلالة قاطعة على أنه من المبرزين في هذا الفن أيضاً.
ولعمري، أن من يقول:
أتراها لكثرة العشاق = تحسب الدمع خلقة في المآقي
ويقول:
وخصر تثبت الأبصار فيه = كأن عليه من حدقٍ نطاقا
ويقول:
أمَّلت ساعة ساروا كشف معصمها = ليلبث الركب دون السير حيرانا
قد كنت أشفق من دمعي على بصري = واليوم كل عزيزٍ بعدكم هانا
لا يجوز أن يعد في هذا الفن إلا من المجيدين المبرزين.
قال في (الصبح المنبي):
(كان لابن جني هوى في أبي الطيب، وكان كثير الإعجاب بشعره، وكان يسوؤه إطناب أبي علي الفارسي في الطعن عليه، واتفق أن قال أبو علي يوماً: اذكروا لنا بيتاً من الشعر نبحث فيه، فابتدر ابن جني وأنشد:
حللت دون المزار قاليوم لو زر = يت لحال النحول دون العناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى. فقال ابن جني: هو الذي يقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي = وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقال: والله، وهذا أحسن، فلمن هو؟ قال: للذي يقول:
أمضى إرادته فسوق له قد = واستقرب الأقصى فشمَّ له هنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال: لمن هذا؟ فقال: الذي يقول:
وضع الندى في موضع السيف بالعلى = مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
فقال: هذا والله أحسن، ولقد أطلت يا أبا الفتح، فمن هذا القائل؟
قال: هو الذي لا يزال يستثقله ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام الباب.
فقال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قال: نعم.
فقال: (والله لقد حببته إليّ، ونهض، ودخل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيب. ولما اجتاز به استنزله إليه، واستنشده، وكتب عنه أبياتاً من شعره) انتهى.
وأما شعره، فإذا قطعنا النظر عن كل من مفردات أبياته، ونظرنا إلى مجموعه نظراً عاماً، رأيناه متدرجاً إلى الكمال بحسب أدوار حياته الأربعة التي مر ذكرها.
فشعره في دوره الثاني، أو بعد اتصاله بسيف الدولة، أرقى من شعره قبل ذلك.
وشعره عند كافور، أي في الدور الثالث، أرقى من شعره في الدور الثاني. وكذلك هو في دوره الرابع، أي بعد مفارقته كافوراً، أرقى منه في أدواره السابقة.
وهذا التدرج إلى الكمال، محسوس في شعره، يدركه الذوق السليم عند أدنى تأمل فيه، خلافاً لما ادعاه بعض المتأخرين من شراح ديوانه من أن شعره عند سيف الدولة منحط عما قلبه، وأن شعره قبل اتصاله بسيف الدولة، أي في دوره الأول، وإن شعره بعد كافور، أي عند اتصاله بابن العميد وعضد الدولة، منحط أيضاً كشعره عند سيف الدولة.
ولعمري، إن هذا القول من الغرابة بمكان. فقد جعل لشعر المتنبي سيراً ذا تعاريج، وإذا شبهناه نظراً إلى هذا القول بأمر محسوس، قلنا: إن المتنبي كان قبل اتصاله بسيف الدولة ماشياً بصناعته الشعرية على قمة جبل عالٍ. فلما اتصل بسيف الدولة نزل بشعره من أعلى ذلك الجبل إلى مهواة عميقة. ثم لما ذهب إلى كافور، ارتقى بشعره من تلك المهواة إلى جبل عالٍ كالأول، حتى إذا جرى فوق هذا الجبل وشوطه، نزل إلى مهواة أعمق من السابقة، وذلك عند اتصاله بابن العميد وسيف الدولة. وهكذا نرى شاعرية المتنبي على هذا الرأي الأفين في صعود وهبوط، مترددة بين الأوج والحضيض.
واغرب من ذلك أن صاحب هذا الرأي قد علل هذه الحادثة الغريبة بعلل متناقضة، حيث قال: (وذلك أنه (يعني المتنبي) عند اتصاله بسيف الدولة وقف منه بباب حافل بالشعراء والعلماء من نقدة الشعر، فلم يكن له بد من حشد القريحة في سيف الدولة، والإكثار من التحري، والتنطس في ألفاظه ومعانيه، والإمعان في الاحتفال إلى ما وراء طبعه، حتى انقلبت قريحته صنعة وبادرته تكلفاً. ولما لم يكن كذلك عند كافور، عاد شعره إلى السهولة والرشاقة، فأشبه شعره قبل اتصاله بسيف الدولة.
قال: وشعره في ابن العميد متأخر عن شعره في كافور، لكنه أشبه بشعره في سيف الدولة، أي منحط، لأن ابن العميد كان من مشاهير العلماء والأدب وأمراء النقد. قال: وأما شعره في عضد الدولة، فأنزل رتبة من ذلك كله؛ لأنه كان يرسل الكلام فيه من فضل القريحة، لقلة المزاحمين والنقاد، فلم يكن يتوخى الاحتفال ولا الاختراع إلا ما ساقته القريحة عفواً).
فانظروا - يا رعاكم الله - إلى هذا التعليل المتناقض كيف جعل كثرة النقاد والمزاحمين من الشعراء والعلماء عند سيف الدولة سبباً لانحطاط شعر المتنبي فيه، لأن خوف النقد على زعمه قد حمل المتنبي على التحري والتنطس في شعره، لكي يكون شعره جيداً، فجاءت النتيجة معكوسة، وصار شعر المتنبي رديئاً منحطاً.
ولما لم يكن هذا الخوف موجوداً عند كافور، أخذ المتنبي بخشب الشعر خشناً من غير تروٍ ولا تنطس، فجاء شعره جيداً.
فيا للعجب العجيب!
كيف كان التروي والتنطس في الشعر من أسباب إرذاله؟ ومتى كان خشب الشعر خيراً من تنقيحه؟
وإذا كان وجود النقاد والمزاحمين عند سيف الدولة وعند ابن العميد سبباً لانحطاط شعر المتنبي فيهما، لزم أن يكون عدمهم وخلو الجو منهم سبباً للإجادة عند عضد الدولة كما قد أجاد المتنبي عند كافور لهذا السبب على زعم صاحب هذا الرأي.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف جعل عدم النقاد والمزاحمين سبباً لانحطاط شعره عند عضد الدولة؟ وهل تكون العلة الواحدة علة لأمرين متناقضين؟ فكيف كان خلو الجو من النقاد سبباً للإجادة عند كافور، وسبباً للإرذال عند عضد الدولة؟
إن هذا الرأي ظاهر الفساد. والحقيقة هي أن شعر المتنبي متدرج إلى الكمال بحسب أدوار حياته الأربعة. ولولا خوف الإطالة، لانتخبنا للقراء غرر شعره منذ أيام صباه إلى آخر حياته. والحمد لله رب العالمين.
معروف الرصافي
بغداد - الأربعاء 20 ربيع الأول 1342
31 تشرين الأول 1923