البيان في لغة العرب، يجري في منازلها وأساليبها جرى الماء في فروع الدوحة. . ومن ذا الذي لا يحب ظل الدوح وثمره المتهدل الذي يملأ اليد والعين والقلب؟ ومن ذا الذي لا يحس طراوة العيش وبهجة الدنيا في نواحيها؟ ومن ذا الذي لا يحركه السحر الذي يتبرج في كل لون نضير؟
إن لكل لفظة ولكل أسلوب لوناً ولكل لون فتنة، وقد جمع أسلوب ابن المقفع بين الجزالة والسلاسة؛ وكانت كل لفظة منه تنحت من خير مقطع، ومن عجب أن هذه الألفاظ والتراكيب السهلة الممتنعة كان ينظمها ابن المقفع فيخدعك صفاؤها وانسجام نفعها وموسيقاها عما تكبده من تعب وجهد
وأسلوب ابن المقفع في الكتابة كأسلوب البحتري في الشعر: في كل منهما تتجلى روعة الفن والصقل والذوق
قال الطائر فنزة إلى الملك في كليلة ودمنة: (. . . أنا الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت عندكم من الحزن عبثا ثقيلا لا يحمله معي أحد. وأنا ذاهب فعليك مني السلام) وقال البحتري:
وقفة في العقيق أطرح ثقلاً ... من دموعي بوقفة في العقيق
وقال:
أعاتب الخل فيما جاء واحدةً ... ثم السلام عليه لا أعاتبه
هذا نثر منظوم وذاك شعر منثور ينتظمهما نفس واحد وموسيقى واحدة تتحد مع المعنى. . . الأول يطول نغمه ويمتد كموج البحر لأنه يدلل على ثقل العبء الذي يؤوده. . . (قد تزودت عندكم من الحزن عبئا ثقيلا) والثاني يقصر نغمه ويطرد لأنه يدلل على طرح الحمل. . . (وقفة في العقيق أطرح ثقلاً)
وإني أجتزئ اليوم بهذه المقارنة وأقول: إنه يخيل إلي أن إبن المقفع كان محزون النفس لأن وتر الحزن في كتابته يرن بين آونة وأخرى كلما ذكرت الصداقة وكلما ذكر الوطن. .
كانت الصداقة عنده كما كانت عند إسماعيل صبري ظلا يأوي إ ليه كلما كثر النهار. . .
جاء في باب الحمامة: (قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين. . فحدثني إن رأيت عن إخوان الصفاء، كيف يبتدأ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض. . .). . وجاء فيه أن المطوقة نادت الجرذ باسمه: (فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى)
(أنا خليلتك المطوقة). . . أظن كثيرين من القراء يعرفون قصص (لافونتين). . . ويذكرون باب (المطوقتين الراحلتين) وسؤال إحداهما للأخرى: (هل عند خليلتي الكفاف من الرزق والمأوى؟)
وجاء أيضاً في باب الحمامة المطوقة: (إنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم). وقالت السلحفاة ترّغب الظبي في الإقامة معها وصحبتها: (نحن نبذل لك ودنا ومكاننا، والماء والمرعى كثيران عندنا). ثم قالت: (لا عيش مع فراق الأحبة، وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده وخرم سروره وغشى بصره)
والأمثلة كثيرة في مقدور كل قارئ أن يهتدي إليها، والآن أنتقل إلى الوطن والوطنية، وأرجو أن نقف قليلا على باب (البوم والغربان) فإن فيه بلاغة وفيه دروسا نافعة
تتلخص هذه القصة في أن ملك البوم أغار في أصحابه على الغربان فقتل وسبى منها خلفا كثيرا، وكانت الغارة ليلا، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها وأخذت تتشاور معه في الأمر، فنصح اثنان منهما بالهرب فقال الملك: (لا أرى لكما ذلك راياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا فيه ولا ينبغي لنا ذلك، ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالا غير مراجعين فيه ولا مقصرين عنه، وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونا بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنا)
أبى ملك الغربان أن يستسلم للعدو المغير وأن يخلي له وطنه ودياره وأبى إلا أن يقاتل وأن (تلقى أطرافنا أطراف العدو. . .) وأفتى الثالث بالصلح مع العدو (على خراج نؤديه إليه في كل سنة ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا. . .) أو بعبارة أخرى كان يرى في البقاء في الوطن في ظل الاستعباد بعض الطمأنينة، وقد رد الرابع أنه لا يرى هذا الصلح رأيا (بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خير من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منا إلا بالشطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك ويضعف جندك وتذل نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس. . . إذا أملتها قليلا زاد ظلها وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل. . . وليس عدونا راضيا منا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. . .)
قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى؟ القتال أم الصلح؟ أم الجلاء عن الوطن؟. . .
قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه
وقد كان هذا الأخير أرجحهم عقلا لأنه خشي مغبة قتال القوى ومقاربته كل المقاربة والجلاء عن الوطن. . . ورأى أن يصيب أبناء جنسه حاجتهم من البوم بالرفق والحيلة قال: (وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة ويرتحل الملك وجنوده إلى مكان كذا فأرجو أني أصبر وأطلع على أحوالهم ومواضيع تحصينهم وأبوابهم فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم وننال منهم غرضنا إن شاء الله تعالى)
انطلت على البوم حيلة الغراب وأنست له حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة فأتى أصحابه وقال لهم: (إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب. وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع. ونحن مصيبون هناك نارا ونلقيها في أثقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضربا بأجنحتنا حتى تضطرم النار في الحطب فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه. ففعل الغربان ذلك فأهلكن البوم قاطبة ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات. . .)
لقد أرسل الله إلى البوم من يهلكها ويبيدها، لأنها ظلمت القرى والعباد، وإني لأتمثل الغربان وهن يتراوحن على النار ضربا بأجنحتهن حتى تضطرم في الحطب. . . تلك أجنحة ملائكة. . . ملائكة الرحمة والانتقام. . .
ويعجبني في هذه القصة حكاية الصفرد الذي طالت غيبته عن مكانه فجاءت أرنب فسكنته فلما عاد الصفرد تنازعا وقررا أن يحتكما إلى سنور متعبد بساحل البحر (يصوم النهار ويقوم الليل كله. . .) ما كادا يسألانه أن يقضي بينهما ويقصان عليه قصتهما حتى قال:
(قد بلغني الكبر وثقلت أذناي فادنوا منى فأسمعاني ما تقولان) فدنوا منه وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم. فقال:
(قد فهمت ما قلتما وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما فأنا آمركما بتقوى الله وألا تطلبا إلا الحق فإن طالب الحق هو الذي يفلج وإن قضي عليه. . .) قال صاحب كليلة ودمنة:
(ثم إن السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه حتى أنسا إليه وأقبلا عليه ودنوا منه ثم وثب عليهما فقتلهما)
تلك عاقبة المتنازعين الذين يحتكمون إلى القوي فيخدعهما برياء قوته وجبروته ناسين (أن العاقل لا يغتر بسكون الحقد إذا سكن. فإنما مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركا مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطبا فليس ينفك الحقد متطلعا إلى العلل كما تبتغي النار الحطب فإذا وجد علة استعر استعار النار) (باب الملك والطائر فنزة)
أنظر إلى كلمة (المكنون) التي يصف بها الجمر وكلمة (متطلعاَ) التي يصف بها الحقد وكلمة (تبتغي) في قوله (كما تبتغي النار الحطب)
هل رأيت أبلغ منها في مثل هذه المواطن؟
ثم أنظر إلى قوله في الحقد:
(فإذا وجد علة استعر استعار النار) تر من جمال التعبير ما يرقص له البيان. فإن الكلام كان يمشي وئيدا ثم اندفع كالنار في الجملة الأخيرة، وكذلك كان الشأن في قصة المطوقة:
(فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت أنا خليلتك المطوقة، فأقبل إليها الجرذ يسعى) فإن هذه الكلمات القصيرة المتتابعة (فأقبل، إليها، الجرذ، يسعى) تنم عن الحركة السريعة المطمئنة وتؤدي المعنى خير أداء، وإن من البيان لسحرا
د. محمد صبري
مجلة الرسالة - العدد 348
بتاريخ: 04 - 03 - 1940
إن لكل لفظة ولكل أسلوب لوناً ولكل لون فتنة، وقد جمع أسلوب ابن المقفع بين الجزالة والسلاسة؛ وكانت كل لفظة منه تنحت من خير مقطع، ومن عجب أن هذه الألفاظ والتراكيب السهلة الممتنعة كان ينظمها ابن المقفع فيخدعك صفاؤها وانسجام نفعها وموسيقاها عما تكبده من تعب وجهد
وأسلوب ابن المقفع في الكتابة كأسلوب البحتري في الشعر: في كل منهما تتجلى روعة الفن والصقل والذوق
قال الطائر فنزة إلى الملك في كليلة ودمنة: (. . . أنا الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت عندكم من الحزن عبثا ثقيلا لا يحمله معي أحد. وأنا ذاهب فعليك مني السلام) وقال البحتري:
وقفة في العقيق أطرح ثقلاً ... من دموعي بوقفة في العقيق
وقال:
أعاتب الخل فيما جاء واحدةً ... ثم السلام عليه لا أعاتبه
هذا نثر منظوم وذاك شعر منثور ينتظمهما نفس واحد وموسيقى واحدة تتحد مع المعنى. . . الأول يطول نغمه ويمتد كموج البحر لأنه يدلل على ثقل العبء الذي يؤوده. . . (قد تزودت عندكم من الحزن عبئا ثقيلا) والثاني يقصر نغمه ويطرد لأنه يدلل على طرح الحمل. . . (وقفة في العقيق أطرح ثقلاً)
وإني أجتزئ اليوم بهذه المقارنة وأقول: إنه يخيل إلي أن إبن المقفع كان محزون النفس لأن وتر الحزن في كتابته يرن بين آونة وأخرى كلما ذكرت الصداقة وكلما ذكر الوطن. .
كانت الصداقة عنده كما كانت عند إسماعيل صبري ظلا يأوي إ ليه كلما كثر النهار. . .
جاء في باب الحمامة: (قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين. . فحدثني إن رأيت عن إخوان الصفاء، كيف يبتدأ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض. . .). . وجاء فيه أن المطوقة نادت الجرذ باسمه: (فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى)
(أنا خليلتك المطوقة). . . أظن كثيرين من القراء يعرفون قصص (لافونتين). . . ويذكرون باب (المطوقتين الراحلتين) وسؤال إحداهما للأخرى: (هل عند خليلتي الكفاف من الرزق والمأوى؟)
وجاء أيضاً في باب الحمامة المطوقة: (إنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم). وقالت السلحفاة ترّغب الظبي في الإقامة معها وصحبتها: (نحن نبذل لك ودنا ومكاننا، والماء والمرعى كثيران عندنا). ثم قالت: (لا عيش مع فراق الأحبة، وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده وخرم سروره وغشى بصره)
والأمثلة كثيرة في مقدور كل قارئ أن يهتدي إليها، والآن أنتقل إلى الوطن والوطنية، وأرجو أن نقف قليلا على باب (البوم والغربان) فإن فيه بلاغة وفيه دروسا نافعة
تتلخص هذه القصة في أن ملك البوم أغار في أصحابه على الغربان فقتل وسبى منها خلفا كثيرا، وكانت الغارة ليلا، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها وأخذت تتشاور معه في الأمر، فنصح اثنان منهما بالهرب فقال الملك: (لا أرى لكما ذلك راياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا فيه ولا ينبغي لنا ذلك، ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالا غير مراجعين فيه ولا مقصرين عنه، وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونا بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنا)
أبى ملك الغربان أن يستسلم للعدو المغير وأن يخلي له وطنه ودياره وأبى إلا أن يقاتل وأن (تلقى أطرافنا أطراف العدو. . .) وأفتى الثالث بالصلح مع العدو (على خراج نؤديه إليه في كل سنة ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا. . .) أو بعبارة أخرى كان يرى في البقاء في الوطن في ظل الاستعباد بعض الطمأنينة، وقد رد الرابع أنه لا يرى هذا الصلح رأيا (بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خير من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منا إلا بالشطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك ويضعف جندك وتذل نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس. . . إذا أملتها قليلا زاد ظلها وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل. . . وليس عدونا راضيا منا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. . .)
قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى؟ القتال أم الصلح؟ أم الجلاء عن الوطن؟. . .
قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه
وقد كان هذا الأخير أرجحهم عقلا لأنه خشي مغبة قتال القوى ومقاربته كل المقاربة والجلاء عن الوطن. . . ورأى أن يصيب أبناء جنسه حاجتهم من البوم بالرفق والحيلة قال: (وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة ويرتحل الملك وجنوده إلى مكان كذا فأرجو أني أصبر وأطلع على أحوالهم ومواضيع تحصينهم وأبوابهم فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم وننال منهم غرضنا إن شاء الله تعالى)
انطلت على البوم حيلة الغراب وأنست له حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة فأتى أصحابه وقال لهم: (إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب. وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع. ونحن مصيبون هناك نارا ونلقيها في أثقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضربا بأجنحتنا حتى تضطرم النار في الحطب فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه. ففعل الغربان ذلك فأهلكن البوم قاطبة ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات. . .)
لقد أرسل الله إلى البوم من يهلكها ويبيدها، لأنها ظلمت القرى والعباد، وإني لأتمثل الغربان وهن يتراوحن على النار ضربا بأجنحتهن حتى تضطرم في الحطب. . . تلك أجنحة ملائكة. . . ملائكة الرحمة والانتقام. . .
ويعجبني في هذه القصة حكاية الصفرد الذي طالت غيبته عن مكانه فجاءت أرنب فسكنته فلما عاد الصفرد تنازعا وقررا أن يحتكما إلى سنور متعبد بساحل البحر (يصوم النهار ويقوم الليل كله. . .) ما كادا يسألانه أن يقضي بينهما ويقصان عليه قصتهما حتى قال:
(قد بلغني الكبر وثقلت أذناي فادنوا منى فأسمعاني ما تقولان) فدنوا منه وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم. فقال:
(قد فهمت ما قلتما وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما فأنا آمركما بتقوى الله وألا تطلبا إلا الحق فإن طالب الحق هو الذي يفلج وإن قضي عليه. . .) قال صاحب كليلة ودمنة:
(ثم إن السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه حتى أنسا إليه وأقبلا عليه ودنوا منه ثم وثب عليهما فقتلهما)
تلك عاقبة المتنازعين الذين يحتكمون إلى القوي فيخدعهما برياء قوته وجبروته ناسين (أن العاقل لا يغتر بسكون الحقد إذا سكن. فإنما مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركا مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطبا فليس ينفك الحقد متطلعا إلى العلل كما تبتغي النار الحطب فإذا وجد علة استعر استعار النار) (باب الملك والطائر فنزة)
أنظر إلى كلمة (المكنون) التي يصف بها الجمر وكلمة (متطلعاَ) التي يصف بها الحقد وكلمة (تبتغي) في قوله (كما تبتغي النار الحطب)
هل رأيت أبلغ منها في مثل هذه المواطن؟
ثم أنظر إلى قوله في الحقد:
(فإذا وجد علة استعر استعار النار) تر من جمال التعبير ما يرقص له البيان. فإن الكلام كان يمشي وئيدا ثم اندفع كالنار في الجملة الأخيرة، وكذلك كان الشأن في قصة المطوقة:
(فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت أنا خليلتك المطوقة، فأقبل إليها الجرذ يسعى) فإن هذه الكلمات القصيرة المتتابعة (فأقبل، إليها، الجرذ، يسعى) تنم عن الحركة السريعة المطمئنة وتؤدي المعنى خير أداء، وإن من البيان لسحرا
د. محمد صبري
مجلة الرسالة - العدد 348
بتاريخ: 04 - 03 - 1940