في شهر كانون الثاني/يناير 1962 نشر مدير تحرير مجلة الهلال طاهر الطناحي مقالاً بعنوان "غرام لطفي السيد" محدثا ضجة في أرجاء مصر والوطن العربي. ما كان أحد يتوقع أن تكون أيقونة الأدب العربي ميّ زيادة (1886-1941) قد أسرت قلب الأديب الحكيم، والمفكر العظيم، أحمد لطفي السيد (1872-1963) مثلما فعلت مع نخبة من كبار الأدباء والمفكرين.
إعجاب من أوّل نظرة
في عام 1911، كان لطفي السيد يصطاف بلبنان. وبينا كان يتناول عشاءه في فندق بسول ببيروت رفقة صديقه خليل سركيس ووالده سيد باشا أبو علي، شاهد مي تتحدث مع قنصل فرنسا بمصر. أثارت اهتمامه، فسأل عنها صديقه، فابلغه أنها ماري زيادة ابنة الصحفي الكبير إلياس زيادة صاحب صحيفة "المحروسة".
مي زيادة لم تكن تتقن اللغة العربية!
كانت مي تتحدث مع القنصل الفرنسي بالفرنسية بطلاقة. وما كان ذلك مطلقا من باب الصدفة. فقد كانت ثقافتها ثقافة فرنسية حيث اطلعت على الأدب الفرنسي وسير نوابغه في المدرسة التي كانت الدراسة فيها بالفرنسية. "فلما شهد والدها إتقانها الفرنسية، وعدم إجادتها اللغة العربية وهي عربية المنبت، بدأ ينبهها ويحثها على ضرورة إجادة لغة قومها..." (مي زيادة سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر)
الحديث عن عدم إتقان مي زيادة لغةٍ كتبت بها قد يفاجئ الوطن العربي لكن ثمة ما يبرر ذلك إذا ما تأملنا ظروف نشأتها وثقافتها ومؤلفاتها. دفعني الفضول إلى إلقاء نظرة على إحدى روايتها وجدتها بالمصادفة، فقرأت في أولى صفحاتها: "لو عاشت ابنتنا لكانت بلغت إلى هذا العمر" (رجوع الموجة - ص9) فِعل "بلغ" متعدّى ينصبُ مفعولاً ولا يحتاج إلى حرف "إلى": "بلغ الشيءَ بلوغا: وصل إليه (معجم الوسيط) وهذا مثال بسيط يبرر مؤاخذات والدها ولطفي السيد معا.
لطفي آخذ مي زيادة على أخطائها اللغوية!
لم يكن والدها الوحيد الذي انتبه إلى ضعفها وعاتبها. فقد لاحظ ذلك لطفي السيد نفسه عندما بدأ يقرأ لها. فقد تجدد اللقاء بينهما بعد عودتهما من بيروت حيث أهدته نسخة من روايتها بعنوان (ابتسامات ودموع) التي ترجمتها من اللغة الألمانية.
وكانت مي زيادة تنشر مقالات بعنوان "يوميات فتاة" في صحيفة والدها. فراح لطفي السيد يتابعها باهتمام، فيشير إلى أخطائها ويبعث لها بملاحظاته ومؤاخذاته اللغوية.
من خصاله القدرة على التأثير
أخذ يلتقيها ويتحدث معها عن اللغة والأسلوب وينصحها بقراءة القرآن وكتب الأدب العربي لتحسين الأسلوب. ووفر لها كتبا عربية مثل ديوان محمود سامي البارودي. وأعانها على الاهتداء إلى مناهل الثقافة العربية. ومرن لسانها وقلمها على التعبير والقراءة وجعل القرآن سبيلها في تعلم البيان. فتمكنت بفضل تأثيره من إجادة العربية قراءة وكتابة وتحسين الأسلوب، وهو ما اعترفت به مي زيادة نفسها: “ابتدأت أفهم من لطفي السيد اتجاه الأسلوب العربي...".
من خصالها حسن الإصغاء، وتقبل الآراء
ومن صفات مي النبيلة حسن الإصغاء والظن، وتقبل النصح والنقد، وعدم التعصب. وهي من الصفات التي يفتقدها كثير من الأدباء، الذين لا يتقبلون نصائح، ولا آراء، ولا حتى نقد بناء من شأنه أن يعود عليهم بالفائدة. بل بلغت سعة صدرها حد تقبل اقتراحه تلاوة القرآن، ولم تكن مسلمة، للاستفادة من فصاحة أسلوبه، وبلاغة معانيه. فقالت: "ابتدأت أفهم من لطفي السيد ما في القرآن من روعة جذابة ساعدتني على تنسيق كتابتي، ورقي أسلوبي."
تعلق لطفي السيد بمي زيادة
وإن كان لطفي قد أثّر في مي زيادة إلى هذا الحد، فقد كان لقربها منه أثر في نفسه أيضاً، حتى أنه اشتاق إلى رؤيتها بعد أسبوع واحد من الفراق، فعبّر لها عن ذلك في رسالة 15 تموز/يوليو 1913 الشهيرة: ""سيدتي، مضى أسبوع كامل من يوم كنت عندكم أستأذن في السفر إلى الإسكندرية، وما كان من عادتي أن أغيب عنك أكثر من أسبوع. إذا مضى كان يدفعني الشوق إلى حديثك الحلو وأفكارك المتينة الممتعة، إلى زيارتك. فلا غرو أن أستعيض عن الزيارة غير المستطاعة بهذه الرسالة السهلة الكلفة، كتابي يلقى إليك في صحة وسلامة وصبر على هذا الحر الذى ربما شبهه بعض أصحابنا الشعراء بشوق المحبين، يقص عليك أنني أذكرك دائماً كلما هبت نسمات البحر، وقابلت بينها وبين لوافح القاهرة، وكلما تجلى علينا البدر يضيء البر والبحر على السواء، ويملأ العيون قرة، والقلوب رضا، وكلما جلست على شط البحر أتعشى وسط أصحابي كما كانت حالي وقت أن رأيتك لأول مرة، وسمعنا حديثك وأعجبت بك، أذكرك كلما خطر ببالي النظر في حال المرأة الشرقية ومستقبلها وعلى من نستطيع أن نعتمد في المساعدة على انتقالها إلى الأفق الذى نرجوه. وكلما قرأت من الشعر ومن النثر أفكاراً تتناسب مع أفكارك أو تختلف عنها...."
أمضى لطفي السيد ما يناهز شهرين في الإسكندرية ثم قفل إلى بلدته (برقين) حيث راسلته مي فردَّ عليها بخطاب أيلول/سبتمبر 1913، مما جاء فيه: "جاءني كتابك اليوم وأنا في الجنينة، جاءني ولا أكذبك أنى كنت في انتظاره فقرأته، ثم قرأته، وذكرت تلك الليلة التي لها في حياتي تاريخ ومركز خاص، وذكرت إذ استمتعت برؤيتك وتهولني قدرتك على هذا الشباب الغض"
وتواصلت رسائله إليها تفيض بمشاعر المودة والحنين. قال لها في إحداها بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1913: "ما أسعد حظ الشعراء. مازال طيفك يسرى معي، وكلانا تغمره أشعة القمر الباهتة، ويظرفه السكون الشامل حتى وصلت البيت، وكأن الطريق قد انطوى تحتي، فلم أحس طوله. والوقت قصر فلم أشعر بأجزائه، بل ندمت على أنى اتبعت الطريق المستقيم وكان أولى أن أقطع المسافة خطاً متكسراً يطول به وقت الائتناس بك. أشكرك، وأرجوك ألا تظني أن طيفك الرقيق الحاشية، الجريء القلب الذى ينزل علىّ ليسايرني وسط الخلاء المخيف في الليل، لا تظني أنه يغنى غناء قلمك فتتباطئين في رد كتابي كما عودتني بعض الأحيان."
الأكثر انسجاما:
من بين كل الأدباء والمفكرين المحليين المحيطين بمي زيادة ، انفرد أحمد لطفي بأنه الأكثر تحرراً. فقد عُرف باسم "أبو الليبرالية المصرية"، و"رائد حركة النهضة والتنوير في مصر". ولم يخطئ العقاد حينما لقبه "أفلاطون الأدب العربي". وكيف لا والرجل كان يقدس العقل. وكان متأثرا بمفكرين غرب من أمثال كونت وجان جاك روسو، مؤيدا الحضارة الغربية، ولم يكن متعصبا لأي معتقد.. وقد بلغ ولعه بالغرب حد رغبته في الحصول على الجنسية السويسرية. ومثلها، كان يحسن اللغة الفرنسية ومنها ترجم مؤلفات أرسطو إلى العربية. فكان بشخصيته هذه الأقرب إلى شخصية مي المتحررة والمنفتحة على الغرب مقارنة بمعجبين آخرين من كالعقاد والرافعي المحافظين..
إن لم يكن أبديا فهو ليس حقيقيا:
لكن هل كان هذا التآلف كافيا لبناء صلة حب حقيقي دائم بينهما؟ الجواب يكون حتما بالسلب لجملة من الأسباب، نذكر منها:
. اختلاف الظروف الشخصية: ففي الوقت الذي كانت فيه مي زيادة عزباء متحررة من الأعباء الأسرية، كان أحمد لطفي السيد مرتبطا بأطفال. ولم يكن يبدو مهتماً بالتورط في علاقة مع امرأة ثانية بعد وفاة زوجته. ومعروف من سيرته أنه بقي أعزب بعد وفاة زوجته إلى آخر عمره.
. فارِق السن: اختلاف السن بينهما كان معتبراً، إذ كان لطفي يفوقها بنحو 14 سنة مقارنة بجبران (3 سنوات فحسب).
. الانشغال بالنشاط السياسي والفكري: كان لطفي منشغلا بعمله السياسي وقضية التحرر. فبعد ثورة 1919، سافر مع الوفد المصري إلى باريس للمشاركة في مؤتمر السلام المنعقد في فرساي. واشتغل مديرا لدار الكتب، ووكيلا للجامعة المصرية الأهلية، ولاحقا رئيسا لمجمع اللغة العربية حتى وفاته.
. تعلّق مي بجبران: التقت مي لطفي السيد سنة 1911. ومعروف أنه في تلك السنة بدأت المراسلات بينها وبين جبران. فقلبها كان متعلقا بالأديب المهجري الذي كان يحيا بعيداً عنها.
التوافق لا يعني التفوّق:
فلا شك أنَّ من بين كل الأدباء والمفكرين المعجبين بمي زيادة، انفرد أحمد لطفي السيد بأن يكون الأقرب إليها بشخصيته المتفتحة والمؤيدة للغرب والمتقبلة للأديان الأخرى والمدافعة عن حرية المرأة.
لكن هذا التوافق لم يكن كافيا ليفضي إلى علاقة حب حقيقي دائم لما كان بينهما من اختلافات في السن والظروف الشخصية، فضلاً عن ارتباط لطفي السيد بنشاطه السياسي وقضية التحرر، وتعلق مي زيادة بأديب آخر يحيا في مغارب الدنيا يدعى جبران، فلا نرى شيئا يذكر من مي يوحي بتعلقها به.
وإن تأملنا رسائل أحمد لطفي إليها وجدناها في مجملها تصب في مجرى المودة والاحترام والتقدير، وعلاقة المدرِّس بتلميذته، عدا القليل منها كرسالة 15 تموز/يوليو 1913 والتي بلا ريب تعبر عن مشاعر قوية لكن عابرة قد تستبد بأي رجل يجد نفسه بجوار فتاة ساحرة في مقام مي زيادة، والنفس البشرية ضعيفة، تتلاطم في أغوارها أمواج الأحاسيس والرغبات والفانتازيا. لكنّ لطفي السيد كان معروفا بنظرته العميقة الواقعية التي سرعان ما نبهته أنّ حياته المليئة بالمشاغل والمسؤوليات لا مكان فيها لامرأة اسمها مي زيادة، ولا لأي امرأة أخرى بعد وفاة زوجته، ما يفسر فتور مشاعره تجاهها لاحقا وتخليه عنها في ساعة الشدة عندما وجدت نفسها وحيدة محطمة في مستشفى العصفورية. وهو من بقي أعزب مدى الحياة.
مولود بن زادي - طيور مهاجرة حرّة - بريطانيا
إعجاب من أوّل نظرة
في عام 1911، كان لطفي السيد يصطاف بلبنان. وبينا كان يتناول عشاءه في فندق بسول ببيروت رفقة صديقه خليل سركيس ووالده سيد باشا أبو علي، شاهد مي تتحدث مع قنصل فرنسا بمصر. أثارت اهتمامه، فسأل عنها صديقه، فابلغه أنها ماري زيادة ابنة الصحفي الكبير إلياس زيادة صاحب صحيفة "المحروسة".
مي زيادة لم تكن تتقن اللغة العربية!
كانت مي تتحدث مع القنصل الفرنسي بالفرنسية بطلاقة. وما كان ذلك مطلقا من باب الصدفة. فقد كانت ثقافتها ثقافة فرنسية حيث اطلعت على الأدب الفرنسي وسير نوابغه في المدرسة التي كانت الدراسة فيها بالفرنسية. "فلما شهد والدها إتقانها الفرنسية، وعدم إجادتها اللغة العربية وهي عربية المنبت، بدأ ينبهها ويحثها على ضرورة إجادة لغة قومها..." (مي زيادة سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر)
الحديث عن عدم إتقان مي زيادة لغةٍ كتبت بها قد يفاجئ الوطن العربي لكن ثمة ما يبرر ذلك إذا ما تأملنا ظروف نشأتها وثقافتها ومؤلفاتها. دفعني الفضول إلى إلقاء نظرة على إحدى روايتها وجدتها بالمصادفة، فقرأت في أولى صفحاتها: "لو عاشت ابنتنا لكانت بلغت إلى هذا العمر" (رجوع الموجة - ص9) فِعل "بلغ" متعدّى ينصبُ مفعولاً ولا يحتاج إلى حرف "إلى": "بلغ الشيءَ بلوغا: وصل إليه (معجم الوسيط) وهذا مثال بسيط يبرر مؤاخذات والدها ولطفي السيد معا.
لطفي آخذ مي زيادة على أخطائها اللغوية!
لم يكن والدها الوحيد الذي انتبه إلى ضعفها وعاتبها. فقد لاحظ ذلك لطفي السيد نفسه عندما بدأ يقرأ لها. فقد تجدد اللقاء بينهما بعد عودتهما من بيروت حيث أهدته نسخة من روايتها بعنوان (ابتسامات ودموع) التي ترجمتها من اللغة الألمانية.
وكانت مي زيادة تنشر مقالات بعنوان "يوميات فتاة" في صحيفة والدها. فراح لطفي السيد يتابعها باهتمام، فيشير إلى أخطائها ويبعث لها بملاحظاته ومؤاخذاته اللغوية.
من خصاله القدرة على التأثير
أخذ يلتقيها ويتحدث معها عن اللغة والأسلوب وينصحها بقراءة القرآن وكتب الأدب العربي لتحسين الأسلوب. ووفر لها كتبا عربية مثل ديوان محمود سامي البارودي. وأعانها على الاهتداء إلى مناهل الثقافة العربية. ومرن لسانها وقلمها على التعبير والقراءة وجعل القرآن سبيلها في تعلم البيان. فتمكنت بفضل تأثيره من إجادة العربية قراءة وكتابة وتحسين الأسلوب، وهو ما اعترفت به مي زيادة نفسها: “ابتدأت أفهم من لطفي السيد اتجاه الأسلوب العربي...".
من خصالها حسن الإصغاء، وتقبل الآراء
ومن صفات مي النبيلة حسن الإصغاء والظن، وتقبل النصح والنقد، وعدم التعصب. وهي من الصفات التي يفتقدها كثير من الأدباء، الذين لا يتقبلون نصائح، ولا آراء، ولا حتى نقد بناء من شأنه أن يعود عليهم بالفائدة. بل بلغت سعة صدرها حد تقبل اقتراحه تلاوة القرآن، ولم تكن مسلمة، للاستفادة من فصاحة أسلوبه، وبلاغة معانيه. فقالت: "ابتدأت أفهم من لطفي السيد ما في القرآن من روعة جذابة ساعدتني على تنسيق كتابتي، ورقي أسلوبي."
تعلق لطفي السيد بمي زيادة
وإن كان لطفي قد أثّر في مي زيادة إلى هذا الحد، فقد كان لقربها منه أثر في نفسه أيضاً، حتى أنه اشتاق إلى رؤيتها بعد أسبوع واحد من الفراق، فعبّر لها عن ذلك في رسالة 15 تموز/يوليو 1913 الشهيرة: ""سيدتي، مضى أسبوع كامل من يوم كنت عندكم أستأذن في السفر إلى الإسكندرية، وما كان من عادتي أن أغيب عنك أكثر من أسبوع. إذا مضى كان يدفعني الشوق إلى حديثك الحلو وأفكارك المتينة الممتعة، إلى زيارتك. فلا غرو أن أستعيض عن الزيارة غير المستطاعة بهذه الرسالة السهلة الكلفة، كتابي يلقى إليك في صحة وسلامة وصبر على هذا الحر الذى ربما شبهه بعض أصحابنا الشعراء بشوق المحبين، يقص عليك أنني أذكرك دائماً كلما هبت نسمات البحر، وقابلت بينها وبين لوافح القاهرة، وكلما تجلى علينا البدر يضيء البر والبحر على السواء، ويملأ العيون قرة، والقلوب رضا، وكلما جلست على شط البحر أتعشى وسط أصحابي كما كانت حالي وقت أن رأيتك لأول مرة، وسمعنا حديثك وأعجبت بك، أذكرك كلما خطر ببالي النظر في حال المرأة الشرقية ومستقبلها وعلى من نستطيع أن نعتمد في المساعدة على انتقالها إلى الأفق الذى نرجوه. وكلما قرأت من الشعر ومن النثر أفكاراً تتناسب مع أفكارك أو تختلف عنها...."
أمضى لطفي السيد ما يناهز شهرين في الإسكندرية ثم قفل إلى بلدته (برقين) حيث راسلته مي فردَّ عليها بخطاب أيلول/سبتمبر 1913، مما جاء فيه: "جاءني كتابك اليوم وأنا في الجنينة، جاءني ولا أكذبك أنى كنت في انتظاره فقرأته، ثم قرأته، وذكرت تلك الليلة التي لها في حياتي تاريخ ومركز خاص، وذكرت إذ استمتعت برؤيتك وتهولني قدرتك على هذا الشباب الغض"
وتواصلت رسائله إليها تفيض بمشاعر المودة والحنين. قال لها في إحداها بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1913: "ما أسعد حظ الشعراء. مازال طيفك يسرى معي، وكلانا تغمره أشعة القمر الباهتة، ويظرفه السكون الشامل حتى وصلت البيت، وكأن الطريق قد انطوى تحتي، فلم أحس طوله. والوقت قصر فلم أشعر بأجزائه، بل ندمت على أنى اتبعت الطريق المستقيم وكان أولى أن أقطع المسافة خطاً متكسراً يطول به وقت الائتناس بك. أشكرك، وأرجوك ألا تظني أن طيفك الرقيق الحاشية، الجريء القلب الذى ينزل علىّ ليسايرني وسط الخلاء المخيف في الليل، لا تظني أنه يغنى غناء قلمك فتتباطئين في رد كتابي كما عودتني بعض الأحيان."
الأكثر انسجاما:
من بين كل الأدباء والمفكرين المحليين المحيطين بمي زيادة ، انفرد أحمد لطفي بأنه الأكثر تحرراً. فقد عُرف باسم "أبو الليبرالية المصرية"، و"رائد حركة النهضة والتنوير في مصر". ولم يخطئ العقاد حينما لقبه "أفلاطون الأدب العربي". وكيف لا والرجل كان يقدس العقل. وكان متأثرا بمفكرين غرب من أمثال كونت وجان جاك روسو، مؤيدا الحضارة الغربية، ولم يكن متعصبا لأي معتقد.. وقد بلغ ولعه بالغرب حد رغبته في الحصول على الجنسية السويسرية. ومثلها، كان يحسن اللغة الفرنسية ومنها ترجم مؤلفات أرسطو إلى العربية. فكان بشخصيته هذه الأقرب إلى شخصية مي المتحررة والمنفتحة على الغرب مقارنة بمعجبين آخرين من كالعقاد والرافعي المحافظين..
إن لم يكن أبديا فهو ليس حقيقيا:
لكن هل كان هذا التآلف كافيا لبناء صلة حب حقيقي دائم بينهما؟ الجواب يكون حتما بالسلب لجملة من الأسباب، نذكر منها:
. اختلاف الظروف الشخصية: ففي الوقت الذي كانت فيه مي زيادة عزباء متحررة من الأعباء الأسرية، كان أحمد لطفي السيد مرتبطا بأطفال. ولم يكن يبدو مهتماً بالتورط في علاقة مع امرأة ثانية بعد وفاة زوجته. ومعروف من سيرته أنه بقي أعزب بعد وفاة زوجته إلى آخر عمره.
. فارِق السن: اختلاف السن بينهما كان معتبراً، إذ كان لطفي يفوقها بنحو 14 سنة مقارنة بجبران (3 سنوات فحسب).
. الانشغال بالنشاط السياسي والفكري: كان لطفي منشغلا بعمله السياسي وقضية التحرر. فبعد ثورة 1919، سافر مع الوفد المصري إلى باريس للمشاركة في مؤتمر السلام المنعقد في فرساي. واشتغل مديرا لدار الكتب، ووكيلا للجامعة المصرية الأهلية، ولاحقا رئيسا لمجمع اللغة العربية حتى وفاته.
. تعلّق مي بجبران: التقت مي لطفي السيد سنة 1911. ومعروف أنه في تلك السنة بدأت المراسلات بينها وبين جبران. فقلبها كان متعلقا بالأديب المهجري الذي كان يحيا بعيداً عنها.
التوافق لا يعني التفوّق:
فلا شك أنَّ من بين كل الأدباء والمفكرين المعجبين بمي زيادة، انفرد أحمد لطفي السيد بأن يكون الأقرب إليها بشخصيته المتفتحة والمؤيدة للغرب والمتقبلة للأديان الأخرى والمدافعة عن حرية المرأة.
لكن هذا التوافق لم يكن كافيا ليفضي إلى علاقة حب حقيقي دائم لما كان بينهما من اختلافات في السن والظروف الشخصية، فضلاً عن ارتباط لطفي السيد بنشاطه السياسي وقضية التحرر، وتعلق مي زيادة بأديب آخر يحيا في مغارب الدنيا يدعى جبران، فلا نرى شيئا يذكر من مي يوحي بتعلقها به.
وإن تأملنا رسائل أحمد لطفي إليها وجدناها في مجملها تصب في مجرى المودة والاحترام والتقدير، وعلاقة المدرِّس بتلميذته، عدا القليل منها كرسالة 15 تموز/يوليو 1913 والتي بلا ريب تعبر عن مشاعر قوية لكن عابرة قد تستبد بأي رجل يجد نفسه بجوار فتاة ساحرة في مقام مي زيادة، والنفس البشرية ضعيفة، تتلاطم في أغوارها أمواج الأحاسيس والرغبات والفانتازيا. لكنّ لطفي السيد كان معروفا بنظرته العميقة الواقعية التي سرعان ما نبهته أنّ حياته المليئة بالمشاغل والمسؤوليات لا مكان فيها لامرأة اسمها مي زيادة، ولا لأي امرأة أخرى بعد وفاة زوجته، ما يفسر فتور مشاعره تجاهها لاحقا وتخليه عنها في ساعة الشدة عندما وجدت نفسها وحيدة محطمة في مستشفى العصفورية. وهو من بقي أعزب مدى الحياة.
مولود بن زادي - طيور مهاجرة حرّة - بريطانيا