أنا (والله) لست من علماء (الغناء) ولا من التلامذة فيه؛ ولا أغشى اليوم دوره حتى أسمعه، ولست عراقياً ولست حجازياً. . . (فما أشرب ولا أطرب. . .)
ولو كنت هناك لتمثلت بقول محمد جار الله (رحمه الله):
سهري لتنقيح العلوم ألذُّلى ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصة ... أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها ... أحلى من الدوكاه والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها ... نقرى لألقى الرمل عن أوراقي
وما روايتي قول الحسن البصري في السماع - وقد نظمه ابن عبد ربه في عقده - وسائر ما أرويه في (نقل الأديب) إلا زلفى، تزلف إلى هذه اللغة التي شاء الله أن أكتب في ديوان خدامها ووسيلة لتحبيها إلى بنيها في هذا الزمان العجيب. فلما اطلعت في الرسالة الغراء (563) على مكتوب الفاضل السيد عبد العزيز الرفاعي في (مكة المكرمة) في الحجاز موطن الغناء في القديم ودار محلليه، خفت أن أجيب، فأخطئ ولا أصيب. وأنا في البحث فيما أعرفه المعرفة الصالحة وجل القلب، فكيف تكون حالي في الذي أجهله؟ فليس لي - وقد قلت الحق - إلا اتباع هدى الله والعمل بقوله تعالى في (النحل والأنبياء): (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
رحت إلى ابن عبد ربه وقلت له: أنت رويت قول الحسن في كتابك (العقد) - واسمه اليوم العقد الفريد - فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه ويؤاسى أخاه؟ فتلقيت منه هذا الكلام:
(إن الصوت الحسن يسرى في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمي له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. . . وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الرحم والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويتمثله في ضميره. . . وبعد فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب. . . من الصوت الحسن. . . وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناج؟!
إلا ثاب إليه روحه، وقوى قلبه؟ أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غنى بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد النازح ماذا ... بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه؟. . .)
وناقشت صاحب (العقد) في التحليل والتحريم فقال لي: عِ هذا الخبر:
(قال إبراهيم بن سعد الزهري قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء.
قلت: من أمتعه الله بخزيته!
قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه
قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ ولو سمعت مالكاً يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. . .)
وجيت إلى ابن خلدون وفاتحته بما قصدته لأجله، فمما أملاه على:
(إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل معها الصعب. . . ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة. . . لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة)
وقلت في نفسي: (الحكمة ضالة المؤمن) فغدوت إلى أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) واسترأيتهم - طلبت رأيهم - في الغناء، فمن جواباتهم: (من الألحان والنغمات ما تسكن سورة الغضب، ويحل الأحقاد، ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة. فمن ذلك ما يحكى أنه في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان وكان بينهما ضغن قديم، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد، والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهراً في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن ثورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا. ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المخزن) وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت وتبكي العيون وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر، إصلاح الضمائر. وكانوا قد استخرجوا لحناً آخر يقال له (المشجع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات يخفف ألم الأسقام عن المريض. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان يغرى النفوس ويسكن الحزن. واستخرجوا لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وأصحاب المراكب يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس. ولكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها لا يستلذها غيرهم مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات. . .)
وقد وجدت عند صاحب كتاب (إنسان العيون) المعروف بالسيرة الحلبية هذه المقالة وهي جديرة بالرواية:
(قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار. . . ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكر عليهم. وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر. وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه (صلوات الله وسلامه عليه) بالأصوات الطيبة مع الدف ويغيره. وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف، ولو فيه جلاجل، لما هو سبب لإظهار السرور) تلكم أقوال جماعة في الغناء، وحيا الله أخانا الفاضل المكي وحيا ربعه، وحيا مواطن عظيمة كريمة بهر الدنيا منها ذلك الضياء!
مجلة الرسالة - العدد 567
بتاريخ: 15 - 05 - 1944
ولو كنت هناك لتمثلت بقول محمد جار الله (رحمه الله):
سهري لتنقيح العلوم ألذُّلى ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصة ... أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها ... أحلى من الدوكاه والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها ... نقرى لألقى الرمل عن أوراقي
وما روايتي قول الحسن البصري في السماع - وقد نظمه ابن عبد ربه في عقده - وسائر ما أرويه في (نقل الأديب) إلا زلفى، تزلف إلى هذه اللغة التي شاء الله أن أكتب في ديوان خدامها ووسيلة لتحبيها إلى بنيها في هذا الزمان العجيب. فلما اطلعت في الرسالة الغراء (563) على مكتوب الفاضل السيد عبد العزيز الرفاعي في (مكة المكرمة) في الحجاز موطن الغناء في القديم ودار محلليه، خفت أن أجيب، فأخطئ ولا أصيب. وأنا في البحث فيما أعرفه المعرفة الصالحة وجل القلب، فكيف تكون حالي في الذي أجهله؟ فليس لي - وقد قلت الحق - إلا اتباع هدى الله والعمل بقوله تعالى في (النحل والأنبياء): (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
رحت إلى ابن عبد ربه وقلت له: أنت رويت قول الحسن في كتابك (العقد) - واسمه اليوم العقد الفريد - فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه ويؤاسى أخاه؟ فتلقيت منه هذا الكلام:
(إن الصوت الحسن يسرى في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمي له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. . . وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الرحم والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويتمثله في ضميره. . . وبعد فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب. . . من الصوت الحسن. . . وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناج؟!
إلا ثاب إليه روحه، وقوى قلبه؟ أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً ثم غنى بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد النازح ماذا ... بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه؟. . .)
وناقشت صاحب (العقد) في التحليل والتحريم فقال لي: عِ هذا الخبر:
(قال إبراهيم بن سعد الزهري قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء.
قلت: من أمتعه الله بخزيته!
قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه
قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ ولو سمعت مالكاً يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. . .)
وجيت إلى ابن خلدون وفاتحته بما قصدته لأجله، فمما أملاه على:
(إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل معها الصعب. . . ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة. . . لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة)
وقلت في نفسي: (الحكمة ضالة المؤمن) فغدوت إلى أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) واسترأيتهم - طلبت رأيهم - في الغناء، فمن جواباتهم: (من الألحان والنغمات ما تسكن سورة الغضب، ويحل الأحقاد، ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة. فمن ذلك ما يحكى أنه في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان وكان بينهما ضغن قديم، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد، والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهراً في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن ثورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا. ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى (المخزن) وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت وتبكي العيون وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر، إصلاح الضمائر. وكانوا قد استخرجوا لحناً آخر يقال له (المشجع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات يخفف ألم الأسقام عن المريض. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان يغرى النفوس ويسكن الحزن. واستخرجوا لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وأصحاب المراكب يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس. ولكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها لا يستلذها غيرهم مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات. . .)
وقد وجدت عند صاحب كتاب (إنسان العيون) المعروف بالسيرة الحلبية هذه المقالة وهي جديرة بالرواية:
(قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار. . . ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع. وعن أبي بشر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكر عليهم. وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر. وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه (صلوات الله وسلامه عليه) بالأصوات الطيبة مع الدف ويغيره. وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف، ولو فيه جلاجل، لما هو سبب لإظهار السرور) تلكم أقوال جماعة في الغناء، وحيا الله أخانا الفاضل المكي وحيا ربعه، وحيا مواطن عظيمة كريمة بهر الدنيا منها ذلك الضياء!
مجلة الرسالة - العدد 567
بتاريخ: 15 - 05 - 1944