إذن فالجامد والحي شيئان مختلفان أشد ما يكون الاختلاف، وليس من اليسير أن يسيغ العقل أنهما جانبان لحقيقة واحدة هي الطبيعة، وأنهما يسيران وفق قانون واحد هو قانون الطبيعة؛ ولعل أعقد المشاكل التي يصادفها المذهب الطبيعي هي هذه:
كيف أنتج الجماد عالم الأحياء وبين موات الجماد وحياة الأحياء ما رأينا من فروق؟ هنا تقدمت نظرية التطور لتأخذ بيد المذهب الطبيعي فتنجو به من هذا المأزق العسير بأن تفسر لنا كيف نشأت الحياة وكيف نشأ العقل.
أما دارون فلم يستطع ذلك، أو هو على الأصح لم يحاوله، فقد سلم بوجود الحياة تسليماً وفرضه فرضاً، ثم بدأ سيره من هذه النقطة بأن أخذ يبحث فيما يطرأ على الحياة من تغير وتحول، ومعنى ذلك أن دارون قد فرض أن الكائن الحي قد تسلسل من كائن حي قبله، وهذا من كائن حي قبله، وهكذا دواليك. فهو على ذلك لم يزد في بحثه على أن تتبع حلقات الاتصال بين أنواع الأحياء أي بين الكائنات السفلى والكائنات العليا، وإذن فدارون لم يقدم في نظريته حلاً للمشكلة الأولى: مشكلة المذهب الطبيعي، وهي، كيف نشأت الحياة من الجماد، وكيف نبت العقل مما لا عقل فيه؟
ثم جاء في أثره هربرت سبنسر وتناول بعقله الجبار نظرية دارون فأكمل نقصها وأتم مطلبها. فأقام الحجة على أن الحياة إن هي إلا ضرْب من ضروب المزيج الكيميائي بين أجزاء المادة، فإذا كنا نبغي الوصول إلى الحلقة التي تصل الحياة بالجماد، فما علينا إلا أن نلتمس علماء الكيمياء!. . . ولقد رأى سبنسر مما وصلت إليه العلوم في عهده أنه ليس بين قطع الجماد وكائنات الأحياء تلك الشقة الفسيحة التي توهمها الأولون، فالفرق كل الفرق بينهم اختلاف في درجة التعقيد والتركيب. أما العقل فضرب من ضروب الطاقة كالحرارة والكهرباء والضوء.
ولكن ما بالنا نركب رءوسنا فلا يرضينا إلا أن يقوم الدليل على أن العقل قد نشأ من الجماد نشأة تدريجية معقولة وإلا كان الأمر في أعيننا لغزاً مغلقاً؟ فلم لا تكون الحياة قد خرجت من الجماد خروجاً فجائياً مباغتاً بغير مقدمة ولا تمهيد؟ قلب النظر في جوانب الكون تر آلافاً من الأشياء التي جاءت إلى الوجود من غير مقدمة منطقية؛ خذ طعم الملح مثلاً وسائل نفسك من أين جاء؟ هو لم يكن في عناصر الملح الأولى التي من مزيجها نشأ الملح، وإذن فقد جاء هذا الطعم الذي نعرفه للملح طارئاً مباغتاً. فلماذا لا تكون الحياة ولا يكون العقل قد نشأ كلاهما على هذا النحو، فيكون لهما من الخصائص ما ليس لعنصرهما الأول: أعني ما ليس في مادة الطبيعة الجامدة. . . تلك حجة جديدة يؤيد بها المذهب الطبيعي رأيهم.
ولكن دعك بعد هذا كله من تطور العقل سواء أكان تدريجياً أم مفاجئاً، وحسبنا أن نأخذه كما بين أيدينا. فهل يستطيع المذهب الطبيعي أن يفسر كيف يعمل العقل؟ كيف يمكن لقطعة من اللحم أو الشحم أن تخلق فكراً وتبدع خيالاً كما نرى؟ إنه إن استطاع أن يعلل ذلك هان عليه بعد ذلك كل شئ، ولهذا تراه اليوم يجاهد جهاد الأبطال في ميدان علم النفس لعله واجد عنده نصيراً وظهيراً؛ وهاهو ذا علم النفس منذ منتصف القرن الماضي ينحو في بحثه نحواً فسيولوجياً، أي أنه يعتبر العقل وظيفة للمخ لا أكثر ولا أقل، فهو لذلك خاضع كبقية أعضاء الجسم لقوانين العلة والمعلول. وكثير بين علماء اليوم من يزعم أن كل ظواهر الإنسان الروحية والعقلية لا تعدو أن تكون نتائج كيميائية لبعض إفرازات الجسم. وليس بعيداً عن هؤلاء أن يحين الحين الذي يسيطر فيه الإنسان على قواه العقلية، بأن يبتكر طعاماً معيناً إفرازاً خاصاً يرفع الفدم الوضيعْ إلى مرتبة الفلاسفة والحكماء!!
المذهب الطبيعي والدين:
لما كان أنصار هذا المذهب يتشبثون بالطبيعة وحدها، فهم ينكرون أشد إنكار أن يكون وراءها أية حقيقة أخرى، وبعبارة موجزة واضحة: هم ينكرون الدين وكل ما يتصل بالعقيدة الدينية من حقائق لا تمت إلى ظواهر الطبيعة بسبب من الأسباب. فإن ساءلتهم قائلاً: إن كانت العقائد ضلالاً في ضلال فما الذي حدا بالإنسان بادئ ذي بدء أن ينظر إلى العالم بمنظار روحي، ومن أين جاءه هذا الاتجاه في التفكير؟ أجابوك إنه خطأ بشري ككل ما يقع فيه الإنسان من أخطاء، ولكنه في رأيهم خطأ واجب مفيد لم يكن للإنسانية عنه بد في حياتها الأولى.
إنما ينشد الإنسان الحقَّ في الرأي لا لشيء إلا أن تكون الحقيقة عوناً له في طريق الحياة؛ إذ الفكرة الصائبة توضح السبيل وتيسر الطريق، وتعمل على استمرار البقاء واجتناب الخطر؛ وعلى نقيضها الفكرة الخاطئة، فهي مضللة للإنسان مبعثرة لجهوده في غير ما طائل، بل إنها قد تضره وتؤذيه وتؤدي به إلى الموت. ولما كانت العقائد الدينية مجموعة آراء نسجها الإنسان ووشج بينها، كان لنا أن نقول إنه كلما بعدت العقيدة عن الصواب كانت أدنى إلى إيذاء الإنسان والعمل على تدهوره، ولكن مما يهون الأمر أن الفكرة الخاطئة لا يستفحل خطرها وأذاها إلا إذا مست حياة الإنسان العملية فأثرت فيها أثراً مباشراً، فإن لم تكن كذلك كانت قليلة الخطر أو عديمته؛ فلما كان الإنسان مثلاً في العصور القديمة لا يتعدى بأسفاره ورحلاته نطاقاً محدوداً ضيقاً، لم تكن لتؤذيه فكرة أن الأرض مسطحة على خطئها، فالخطأ والصواب في مثل هذه الحالة سواء، بل كثيراً ما يكون الخطأ أنفع للإنسان من الرأي الصحيح كأن توهم المشفى على الموت بأنه قوي سليم.
وعلى هذا النحو كانت فائدة النظرة الروحية في مراحل الإنسانية الأولى، إذ كانت العقيدة أقوى حافز يدفعه إلى العمل والنشاط حينما كان الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى التشجيع. فقد كان أول أمره يهيم مع أوابد القفر وضواري الغاب، يعيش لساعته عيش الحاجة والضرورة، فلما أراد أن يعلو على مستوى الحيوان وأن يتخذ لنفسه في الحياة منزلة رفيعة ومكانة ممتازة بين الأحياء، مستعيناً بما أوتي من عقل وخيال، رأى أن الوسيلة الأولى هي أن يحطم أغلال الضرورة ما استطاعت حيلته، وأن يوسع من أفق زمانه فينفذ ببصره إلى الغد، مهنا يعيش في جو من أحلام ينسجها لنفسه بقوة خياله، وسرعان ما ألقى في روع نفسه أن هناك - فوق العالم الذي يرى - قوة سامية سترعاه وتأخذ بيده مما يصادفه في حياته من عسر وإشكال، وتمكنت من نفسه العقيدة بأن تلك القوة العليا ستكون له خير هادٍ ومرشد في طريقه نحو الكمال الذي أخذ يرجوه ويبتغيه بعد أن نقض حياته الحيوانية الأولى، وتحرر من رق الضرورة واستعبادها.
تلك كانت نواة العقيدة الدينية التي عملت فيما بعد على تماسك الأفراد وترابطهم في تكوين المجتمع، إذ أوحت إلى الناس ضرورة احترام العادات والتقاليد التي هي الأساس الأول في بناء المجتمع، كما خلعت على السلطة المدنية مسحة مقدسة زادت من هيبتها واحترامها؛ وبديهي أنه لا بقاء لمجتمع بغير سلطان محترم مهيب، وهكذا كان الدين عماداً قويماً في بناء المجتمع أول الأمر كما كان خير مدرب لمشاعر الإنسان وعواطفه، إذ راضها وصقلها وأجراها في سبيل صالح مستقيم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله كان الدين كنفاً ترعرعت في ظله الفنون الجميلة على اختلافها إبان طفولتها.
كل هذه حسنات للدين مشكورة غير منكورة، ولكن قد يكون هذا الذي عاون الإنسان على السير في أول الطريق عائقاً يحول اليوم دون تقدمه، وقد يكون (فرويد) العالم النفسي الكبير مصيباً في رأيه بأن الدين صالح لتقويم الأخلاق إبان الطفولة حتى إذا ما نضج الإنسان كان لزاماً عليه أن يواجه مشكلات الحياة العملية في صرامتها وجدها، ولا ينبغي أن نطيل الوقوف عند هذه المرحلة الأولى - مرحلة الأحلام الجميلة والآمال الحلوة بأن قوة سامية ستحول بين صدورنا وبين ضربات القدر وسهامه، فلئن كان الدين قد ساهم بقسط وافر في تطور الحياة البشرية ورقيها فلقد فرغت رسالته وأصبحت الإنسانية اليوم في مرتبة من رشد الكهولة تجعلها في غنى عنه.
ويقول أوجست كونت في هذا الصدد إن طريقة تفكير الإنسان بازاء العالم قد سارت منذ نشأتها إلى اليوم في مراحل ثلاث: الأولى هي المرحلة اللاهوتية حيث كانت تُفسر. الأحداث بقوى الآلهة؛ والثانية، وهي المرحلة الغيبية حيث كان الإنسان يعلل حوادث الكون بمجموعة من القوى، فيعزو الحياة إلى القوة الحيوية، والنار إلى الحرارة، وسقوط الأجسام إلى قوة ثقل الجسم؛ والمرحلة الثالثة هي المرحلة الإيجابية التي فيها يفسر الناس ظواهر الوجود بأسباب مباشرة تسبق حدوث الظاهرة المعينة، فإذا وقعت العلة جاء في أثرها المعلول تبعاً لقانون معروف؛ وهذه المرحلة كما يقول كونت هي أسمى مراحل العقل البشري، وهي المرحلة التي تجتازها الإنسانية اليوم. وهكذا يدعو أصحاب المذهب الطبيعي إلى نبذ العقائد على الرغم من رسوخ قدمها في النفس وتأصل جذورها في القلوب، ويهيبون بالناس أن يواجهوا حقائق الكون الواقعة في شجاعة وإقدام.
والعجيب أن هذا المذهب الطبيعي لم يعدم في كل عصر من عصور الفكر ظهيراً ونصيراً، فقد وجد بين فلاسفة الإغريق من يقيمه ويؤيده كديمقريطس؛ ووفق في مستهل العصر الحديث إلى رجل مثل (توماس هويز) الذي أخذ على نفسه أن يفسر كل شئ في الوجود على أنه مادة متحركة ليس إلا، فتناول العقل نفسه وقال إنه نتيجة لجملة الأحاسيس التي تنفذ إلينا خلال الحواس الخمس، ولما كان هذا الإحساس أثراً مباشراً لتحرك الأعصاب، وهذه نتيجة لأزمة لما يقع بين الأشياء المادية من حركة، كان العقل بكل ما فيه من ذاكرة وخيال وما إليها ضرباً من ضروب الحركة المادية لا أكثر ولا أقل - هذا وإن ديكارت الذي يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة وواضع أصولها قد نادى بأن الكائن الحي لا يزيد على آلة صماء عمياء تسير في حياتها كما تسير الآلة الميكانيكية، وقال إن جسم الإنسان أيضاً آلة كسائر صنوف الحيوان ولو أنه استثنى العقل من هذه الآلية وقال إنه عنصر ممتاز. ثم جاء القرن التاسع عشر، وهو عصر ازدهرت فيه المادية ووجدت طائفة كبيرة من المشايعين، على رأسهم دارون وسبنسر وبخنر وهيكل وهكسلي ونيتشه، فسار المذهب الطبيعي على أيديهم شوطاً فسيحاً في تدعيم قواعده.
(يتبع)
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935
كيف أنتج الجماد عالم الأحياء وبين موات الجماد وحياة الأحياء ما رأينا من فروق؟ هنا تقدمت نظرية التطور لتأخذ بيد المذهب الطبيعي فتنجو به من هذا المأزق العسير بأن تفسر لنا كيف نشأت الحياة وكيف نشأ العقل.
أما دارون فلم يستطع ذلك، أو هو على الأصح لم يحاوله، فقد سلم بوجود الحياة تسليماً وفرضه فرضاً، ثم بدأ سيره من هذه النقطة بأن أخذ يبحث فيما يطرأ على الحياة من تغير وتحول، ومعنى ذلك أن دارون قد فرض أن الكائن الحي قد تسلسل من كائن حي قبله، وهذا من كائن حي قبله، وهكذا دواليك. فهو على ذلك لم يزد في بحثه على أن تتبع حلقات الاتصال بين أنواع الأحياء أي بين الكائنات السفلى والكائنات العليا، وإذن فدارون لم يقدم في نظريته حلاً للمشكلة الأولى: مشكلة المذهب الطبيعي، وهي، كيف نشأت الحياة من الجماد، وكيف نبت العقل مما لا عقل فيه؟
ثم جاء في أثره هربرت سبنسر وتناول بعقله الجبار نظرية دارون فأكمل نقصها وأتم مطلبها. فأقام الحجة على أن الحياة إن هي إلا ضرْب من ضروب المزيج الكيميائي بين أجزاء المادة، فإذا كنا نبغي الوصول إلى الحلقة التي تصل الحياة بالجماد، فما علينا إلا أن نلتمس علماء الكيمياء!. . . ولقد رأى سبنسر مما وصلت إليه العلوم في عهده أنه ليس بين قطع الجماد وكائنات الأحياء تلك الشقة الفسيحة التي توهمها الأولون، فالفرق كل الفرق بينهم اختلاف في درجة التعقيد والتركيب. أما العقل فضرب من ضروب الطاقة كالحرارة والكهرباء والضوء.
ولكن ما بالنا نركب رءوسنا فلا يرضينا إلا أن يقوم الدليل على أن العقل قد نشأ من الجماد نشأة تدريجية معقولة وإلا كان الأمر في أعيننا لغزاً مغلقاً؟ فلم لا تكون الحياة قد خرجت من الجماد خروجاً فجائياً مباغتاً بغير مقدمة ولا تمهيد؟ قلب النظر في جوانب الكون تر آلافاً من الأشياء التي جاءت إلى الوجود من غير مقدمة منطقية؛ خذ طعم الملح مثلاً وسائل نفسك من أين جاء؟ هو لم يكن في عناصر الملح الأولى التي من مزيجها نشأ الملح، وإذن فقد جاء هذا الطعم الذي نعرفه للملح طارئاً مباغتاً. فلماذا لا تكون الحياة ولا يكون العقل قد نشأ كلاهما على هذا النحو، فيكون لهما من الخصائص ما ليس لعنصرهما الأول: أعني ما ليس في مادة الطبيعة الجامدة. . . تلك حجة جديدة يؤيد بها المذهب الطبيعي رأيهم.
ولكن دعك بعد هذا كله من تطور العقل سواء أكان تدريجياً أم مفاجئاً، وحسبنا أن نأخذه كما بين أيدينا. فهل يستطيع المذهب الطبيعي أن يفسر كيف يعمل العقل؟ كيف يمكن لقطعة من اللحم أو الشحم أن تخلق فكراً وتبدع خيالاً كما نرى؟ إنه إن استطاع أن يعلل ذلك هان عليه بعد ذلك كل شئ، ولهذا تراه اليوم يجاهد جهاد الأبطال في ميدان علم النفس لعله واجد عنده نصيراً وظهيراً؛ وهاهو ذا علم النفس منذ منتصف القرن الماضي ينحو في بحثه نحواً فسيولوجياً، أي أنه يعتبر العقل وظيفة للمخ لا أكثر ولا أقل، فهو لذلك خاضع كبقية أعضاء الجسم لقوانين العلة والمعلول. وكثير بين علماء اليوم من يزعم أن كل ظواهر الإنسان الروحية والعقلية لا تعدو أن تكون نتائج كيميائية لبعض إفرازات الجسم. وليس بعيداً عن هؤلاء أن يحين الحين الذي يسيطر فيه الإنسان على قواه العقلية، بأن يبتكر طعاماً معيناً إفرازاً خاصاً يرفع الفدم الوضيعْ إلى مرتبة الفلاسفة والحكماء!!
المذهب الطبيعي والدين:
لما كان أنصار هذا المذهب يتشبثون بالطبيعة وحدها، فهم ينكرون أشد إنكار أن يكون وراءها أية حقيقة أخرى، وبعبارة موجزة واضحة: هم ينكرون الدين وكل ما يتصل بالعقيدة الدينية من حقائق لا تمت إلى ظواهر الطبيعة بسبب من الأسباب. فإن ساءلتهم قائلاً: إن كانت العقائد ضلالاً في ضلال فما الذي حدا بالإنسان بادئ ذي بدء أن ينظر إلى العالم بمنظار روحي، ومن أين جاءه هذا الاتجاه في التفكير؟ أجابوك إنه خطأ بشري ككل ما يقع فيه الإنسان من أخطاء، ولكنه في رأيهم خطأ واجب مفيد لم يكن للإنسانية عنه بد في حياتها الأولى.
إنما ينشد الإنسان الحقَّ في الرأي لا لشيء إلا أن تكون الحقيقة عوناً له في طريق الحياة؛ إذ الفكرة الصائبة توضح السبيل وتيسر الطريق، وتعمل على استمرار البقاء واجتناب الخطر؛ وعلى نقيضها الفكرة الخاطئة، فهي مضللة للإنسان مبعثرة لجهوده في غير ما طائل، بل إنها قد تضره وتؤذيه وتؤدي به إلى الموت. ولما كانت العقائد الدينية مجموعة آراء نسجها الإنسان ووشج بينها، كان لنا أن نقول إنه كلما بعدت العقيدة عن الصواب كانت أدنى إلى إيذاء الإنسان والعمل على تدهوره، ولكن مما يهون الأمر أن الفكرة الخاطئة لا يستفحل خطرها وأذاها إلا إذا مست حياة الإنسان العملية فأثرت فيها أثراً مباشراً، فإن لم تكن كذلك كانت قليلة الخطر أو عديمته؛ فلما كان الإنسان مثلاً في العصور القديمة لا يتعدى بأسفاره ورحلاته نطاقاً محدوداً ضيقاً، لم تكن لتؤذيه فكرة أن الأرض مسطحة على خطئها، فالخطأ والصواب في مثل هذه الحالة سواء، بل كثيراً ما يكون الخطأ أنفع للإنسان من الرأي الصحيح كأن توهم المشفى على الموت بأنه قوي سليم.
وعلى هذا النحو كانت فائدة النظرة الروحية في مراحل الإنسانية الأولى، إذ كانت العقيدة أقوى حافز يدفعه إلى العمل والنشاط حينما كان الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى التشجيع. فقد كان أول أمره يهيم مع أوابد القفر وضواري الغاب، يعيش لساعته عيش الحاجة والضرورة، فلما أراد أن يعلو على مستوى الحيوان وأن يتخذ لنفسه في الحياة منزلة رفيعة ومكانة ممتازة بين الأحياء، مستعيناً بما أوتي من عقل وخيال، رأى أن الوسيلة الأولى هي أن يحطم أغلال الضرورة ما استطاعت حيلته، وأن يوسع من أفق زمانه فينفذ ببصره إلى الغد، مهنا يعيش في جو من أحلام ينسجها لنفسه بقوة خياله، وسرعان ما ألقى في روع نفسه أن هناك - فوق العالم الذي يرى - قوة سامية سترعاه وتأخذ بيده مما يصادفه في حياته من عسر وإشكال، وتمكنت من نفسه العقيدة بأن تلك القوة العليا ستكون له خير هادٍ ومرشد في طريقه نحو الكمال الذي أخذ يرجوه ويبتغيه بعد أن نقض حياته الحيوانية الأولى، وتحرر من رق الضرورة واستعبادها.
تلك كانت نواة العقيدة الدينية التي عملت فيما بعد على تماسك الأفراد وترابطهم في تكوين المجتمع، إذ أوحت إلى الناس ضرورة احترام العادات والتقاليد التي هي الأساس الأول في بناء المجتمع، كما خلعت على السلطة المدنية مسحة مقدسة زادت من هيبتها واحترامها؛ وبديهي أنه لا بقاء لمجتمع بغير سلطان محترم مهيب، وهكذا كان الدين عماداً قويماً في بناء المجتمع أول الأمر كما كان خير مدرب لمشاعر الإنسان وعواطفه، إذ راضها وصقلها وأجراها في سبيل صالح مستقيم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله كان الدين كنفاً ترعرعت في ظله الفنون الجميلة على اختلافها إبان طفولتها.
كل هذه حسنات للدين مشكورة غير منكورة، ولكن قد يكون هذا الذي عاون الإنسان على السير في أول الطريق عائقاً يحول اليوم دون تقدمه، وقد يكون (فرويد) العالم النفسي الكبير مصيباً في رأيه بأن الدين صالح لتقويم الأخلاق إبان الطفولة حتى إذا ما نضج الإنسان كان لزاماً عليه أن يواجه مشكلات الحياة العملية في صرامتها وجدها، ولا ينبغي أن نطيل الوقوف عند هذه المرحلة الأولى - مرحلة الأحلام الجميلة والآمال الحلوة بأن قوة سامية ستحول بين صدورنا وبين ضربات القدر وسهامه، فلئن كان الدين قد ساهم بقسط وافر في تطور الحياة البشرية ورقيها فلقد فرغت رسالته وأصبحت الإنسانية اليوم في مرتبة من رشد الكهولة تجعلها في غنى عنه.
ويقول أوجست كونت في هذا الصدد إن طريقة تفكير الإنسان بازاء العالم قد سارت منذ نشأتها إلى اليوم في مراحل ثلاث: الأولى هي المرحلة اللاهوتية حيث كانت تُفسر. الأحداث بقوى الآلهة؛ والثانية، وهي المرحلة الغيبية حيث كان الإنسان يعلل حوادث الكون بمجموعة من القوى، فيعزو الحياة إلى القوة الحيوية، والنار إلى الحرارة، وسقوط الأجسام إلى قوة ثقل الجسم؛ والمرحلة الثالثة هي المرحلة الإيجابية التي فيها يفسر الناس ظواهر الوجود بأسباب مباشرة تسبق حدوث الظاهرة المعينة، فإذا وقعت العلة جاء في أثرها المعلول تبعاً لقانون معروف؛ وهذه المرحلة كما يقول كونت هي أسمى مراحل العقل البشري، وهي المرحلة التي تجتازها الإنسانية اليوم. وهكذا يدعو أصحاب المذهب الطبيعي إلى نبذ العقائد على الرغم من رسوخ قدمها في النفس وتأصل جذورها في القلوب، ويهيبون بالناس أن يواجهوا حقائق الكون الواقعة في شجاعة وإقدام.
والعجيب أن هذا المذهب الطبيعي لم يعدم في كل عصر من عصور الفكر ظهيراً ونصيراً، فقد وجد بين فلاسفة الإغريق من يقيمه ويؤيده كديمقريطس؛ ووفق في مستهل العصر الحديث إلى رجل مثل (توماس هويز) الذي أخذ على نفسه أن يفسر كل شئ في الوجود على أنه مادة متحركة ليس إلا، فتناول العقل نفسه وقال إنه نتيجة لجملة الأحاسيس التي تنفذ إلينا خلال الحواس الخمس، ولما كان هذا الإحساس أثراً مباشراً لتحرك الأعصاب، وهذه نتيجة لأزمة لما يقع بين الأشياء المادية من حركة، كان العقل بكل ما فيه من ذاكرة وخيال وما إليها ضرباً من ضروب الحركة المادية لا أكثر ولا أقل - هذا وإن ديكارت الذي يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة وواضع أصولها قد نادى بأن الكائن الحي لا يزيد على آلة صماء عمياء تسير في حياتها كما تسير الآلة الميكانيكية، وقال إن جسم الإنسان أيضاً آلة كسائر صنوف الحيوان ولو أنه استثنى العقل من هذه الآلية وقال إنه عنصر ممتاز. ثم جاء القرن التاسع عشر، وهو عصر ازدهرت فيه المادية ووجدت طائفة كبيرة من المشايعين، على رأسهم دارون وسبنسر وبخنر وهيكل وهكسلي ونيتشه، فسار المذهب الطبيعي على أيديهم شوطاً فسيحاً في تدعيم قواعده.
(يتبع)
زكي نجيب محمود
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935