للحياة العسكرية أصولها وضوابطها التي تختلف بشكل جذري عن الحياة المدنية، فقوامها الضبط والربط واحترام القيادة الأعلى وإطاعة أوامرها، كما أن هناك آلية محددة لاتخاذ القرارات وتنفيذها، ولا يمكن على الإطلاق ترك الأمور تعصف بها الفوضى وتحركها الأهواء، فحياة الأفراد ومصير الدول ليست بالأمور الهينة لتترك بين أيدي المحترفين من الساسة فما بالك بالهواة منهم، وللأسف لا يفهم الكثيرون من المدنيين شيئا عن هذا الاختلاف الذي يشمل كل جوانب حياة وشخصية الفرد الذي اختار العسكرية طريقا له، والمؤسسة العسكرية في غالبية الدول هي رمانة الميزان والعمود الفقري الذي يحمى حدود الوطن ويتصدى لأي عدوان خارجي، وقد يتعدى الأمر ذلك إلى المحافظة على التوازن الداخلي للمجتمع، ويبرز دور المؤسسة العسكرية أكثر ما يبرز في أوقات الحروب والأزمات العصيبة التي تمر بها الأوطان، فعندما تهتز مؤسسة الرئاسة والحكومة أو المؤسسة التشريعية وغيرها من مؤسسات الدولة يجب أن تبقى المؤسسة العسكرية قوية متماسكة حتى يمكنها الإمساك بدفة الأمور والعبور بالوطن والمواطنين إلى بر الأمان، ولما استشعرت وزملائي تردى أحوال الدولة وتراخى قبضة الحاكم ورجاله في ضبطها، وانفصالهم التام عن مشاكل عموم الناس وهمومهم، انشغلنا بتقوية الجيش وتوفير الدعم والامتيازات المختلفة لوحداته وأفراده تحسبا لأي طارئ، كما حرصنا على أن ننأى به إلى حد ما عن الحاكم وأسرته ورجاله وعن مشاريعهم الخاصة التي أثارت قدرا كبيرا من الاستياء والتذمر بين أفراد الشعب، وعندما تسارعت الأحداث واندلعت الفتنة في أوساط الشعب انهارت المؤسسات وعجز الحاكم وحكومته ورجاله عن ضبط الأمور واستعادة الاستقرار، انكشف بوضوح رفض غالبية الشعب لهم وكراهيته لاستمرارهم في الحكم، ونتيجة لتخاذل الشرطة عن القيام بدورها اكتسب الشعب الجرأة والإرادة على الاستمرار في العصيان، تمدد العصيان واقترب من أن يكون ثورة شعبية عارمة تطيح بكل شيء، لحظتها أصبح الجيش محطا لأنظار الجميع ومطمعا لكل طرف في أن يجتذبه إلى صفه، فقد الحاكم ورجاله السيطرة على الأمور فأيقنوا أن الجيش هو المنقذ الوحيد لهم من هذه الورطة التي تعصف بكيانهم وسلطانهم، حاولوا بأي شكل دفع الجيش لمواجهة غضب الناس حتى ولو كان ذلك تدريجيا أو بصورة غير مباشرة، من جهته حاول الشعب أن يستميل الجيش إلى صفه ويجعل منه سندا له وحاميا لثورته التي تتشكل بسرعة، وفى ظل حالة من التنافر الكامل بين النظام اليائس والشعب الغاضب سقطت الدولة في فوضى عارمة تهدد وحدتها ومؤسساتها وتعرضها لأخطار جسيمة من قوى خارجية متعددة، لحظتها كان لزاما علىّ وعلى زملائي من القادة أن نستدعى كافة خبراتنا العسكرية والإستراتيجية كي نتخذ القرار المناسب، ولما تبين لنا أن الحاكم قد فقد صوابه وأن كفة الشعب تبدو أكثر رجحانا لم يكن من الحكمة أبدا أن نقف في وجه الشعب وهو في هذه الحالة المستعرة من الهياج والإثارة البالغة، كان منطقيا أن نلبى له طلباته أو على الأقل ما يبدو عاجلا منها دون أن ننقاد له أو نخضع لسيطرته، لم يكن مقبولا أن نترك الحاكم ورجاله يتخبطون أكثر من ذلك ولا أن نسمح للشعب بالاستيلاء بنفسه على السلطة، قررنا إذن أن نأخذ جانب الشعب الثائر دون أن نهين الحاكم المهتز أو نسمح بالتعرض له بأي سوء، كان الأمر يحتاج إلى كل ما استقر وترسخ بداخلنا من علم وخبرة عسكرية وإستراتيجية وقدرة على المناورة، كان محتما علينا أن نجرى مشاورات مكثفة مع أطراف متعددة هنا وهناك، وأن نعد لترتيبات غير مكتوبة تسبق الانتقال المطلوب في مؤسسة الرئاسة وما يتبعها من مؤسسات تنفيذية وتشريعية، عشنا فترة دقيقة وحرجة وكان قرارنا الذي عزمنا على تنفيذه محفوفا بمخاطر عديدة، وعندما خرج القرار إلى العلن انقلبت الأمور رأسا على عقب، عمت الشعب فرحة عارمة وهستيرية فغفل عن كل شيء عدا أنه قد تخلص من الحاكم ورموز نظامه، سلم جميع الفرقاء بنقل سلطة الرئاسة إلينا وإدارة شئون البلاد ووفروا علينا حرج ومشقة إقناعهم بضرورة ذلك، أصدرنا البيان تلو البيان لنؤكد للشعب عزمنا على تحقيق مطالبه وتسليم السلطة لمن يختاره عن طريق انتخابات حرة ديمقراطية، بدأنا بحذر مجموعة من الإجراءات الخاصة بالانتقال غير المتعجل للسلطة إذا سمحت الظروف بذلك، سمحنا للنخبة بكافة أطيافها أن تعبر عن نفسها وتركنا لهم العنان عالمين أنهم سينقلبون في الغالب على بعضهم البعض وسيقودون الشعب بدوره إلى الانقسام والتشتت، حدث ما توقعناه واختلفوا سريعا حول الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها وآليات تطبيقها، اختلفوا حول أصغر التفاصيل فيما تجاهلوا الأمور العاجلة والأكثر أهمية، ارتضوا بأن يتركوا البلد عرضة للفوضى وساحة للأهواء، لم نحاول من جانبنا أن نبذل جهدا لفرض الاستقرار أو استعادة الهيبة الضائعة للدولة، كنا نعطيهم ما يطلبونه دون أن يحصلوا عليه بالفعل، نمنحهم كل شيء ولا شيء، تاركين البلد تغرق مؤقتا في بحار من الفوضى والتشرذم والانفلات الأمني، عالمين أن الأمور ستؤول إلى النهاية التي نرغب في الوصول إليها، إعادة إنتاج النظام القديم لكن في صورة جديدة ومختلفة، فيبقى الشعب كما هو محصورا في الشارع ونبقى كما نحن ممسكون بالسلطة.
ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"
ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"