أعيش بذراعي وأعرف أنني إذا ضعفت يوما أو جبنت فسيكون في ذلك نهايتي وهلاكي، ذلك هو قانون الشارع بل قانون البقاء، تعلمته منذ زمن بعيد يرجع إلى طفولتي المبكرة، لكنني تعلمت أيضا أنه آت رغم محاولاتي وتصميمي على تفاديه أو تأخير قدومه، قد يكون التقدم في العمر هو السبب، وقد تكون حركة الحياة التي لا يبقى فيها إلا الأقوى والأكثر جرأة، وقد تكون أمور أخرى لا أعرفها وسأفاجئ بها عندما يحين أوانها، الشارع هو مملكتي وملاذي ومحل عملي، لم أعرف لي بيتا غيره أو بديلا عنه منذ كنت طفلا صغيرا، لم أشعر بطفولتي ولم أعشها إلا أنني أحببتها لأنني كنت فيها ملكا لنفسي، لم أسمح أبدا لفرد أو جماعة أن يتحكموا في أمري أو مصيري، حاول الكثيرون أن يستغلوا طفولتي وضعفي لأكون تابعا لهم .. متسولا أو لصا أو حتى خادما، لكنني نجحت مرارا في الفرار منهم وتعلمت أن أفعل هذه الأشياء لحسابي أنا، قضيت طفولتي وصباي أمارس التسول والسرقة وأمورا أخرى، تنقلت من منطقة لأخرى ورحلت من بلد إلى آخر، لم ألتحق بالطبع بمدرسة أو أنل أي قدر من التعليم لكنني تعلمت من الشارع والحياة أشياءً أهم وأكثر، فلما أصبحت شابا وكنت لحسن حظي طويلا عريضا قوى البنية يهابني الناس، قررت أن أهجر تلك الأعمال التافهة وأن أفرض بدلا من ذلك سطوتي وسيطرتي على غيري، استلزم ذلك أن أجمع من حولي أتباعا يطيعوني ويأتمرون بأمري، لم يكن تحقيق ذلك أمرا سهلا لكنني نجحت في النهاية في تكوين عصابتي الخاصة، كان محتما علىّ أيضا أن أستقر لأول مرة في حياتي بمنطقة محددة وأن أفرض نفسي حاميا لها ولأهلها مقابل مكافآت مالية وعينية، ورغم أن رجال الشرطة كانوا في الغالب يتجنبون المناطق التي تشابه منطقتي إلا فيما ندر إلا أنه كان من المحتم علىّ أن أصطدم بهم، في صغرى ثم في صباي نجحت دائما في الإفلات منهم لمرونتي وخفة حركتي، أما الآن فقد كان لا مفر أمامي من التعامل معهم بشكل أو بآخر، ورغم أن تجربتي الأولى معهم كانت أسوأ ما عرفته في حياتي وذقت خلالها ما لم أذقه قبلها من عذاب ومهانة، إلا أن علاقتي بهم تحولت بعد ذلك إلى علاقة منفعة ملتبسة محكومة بضوابط وشروط كثيرة، أوكلوا إلىّ أمر منطقتي فصرت حاكما فعليا عليها أتحكم في دنيا رجالها ونسائها، بل تحكمت حتى في شيوخهم فأصبحت أمور دينهم أيضا في يدي، في المقابل كان علىّ التعاون مع رجال الشرطة وتنفيذ ما يطلبوه منى داخل منطقتي أو خارجها، فقد أُستدعى وعصابتي للتعامل مع عصابات أخرى دون معرفة أسباب ذلك، وقد يُطلب منا أحيانا تدبير مشاجرات مقصودة أو ترويع أفراد بعينهم والإساءة إليهم، أو عمليات تخريب ممتلكات أو خطف أشخاص أو ابتزاز أو حتى تجسس، أما المال فكان نهمهم إليه لا يردعه رادع وكان علىّ أنا وعصابتي جمعه لهم تحت مسميات عديدة، السياسة أيضا لها نصيبها ومواسمها والانتخابات هي أهم هذه المواسم وذروتها، فوقتها يصبح لنا دورا كبيرا وشأنا عاليا لا يقل بحال من الأحوال عن دور رجال الشرطة والحكومة في إدارة أحداثها وتحديد نتائجها، وهو موسم نجنى فيه الكثير من الأرباح ويتضاعف فيه نفوذنا ومهابتنا داخل منطقتنا أو في المناطق المجاورة، وقد تعلمت مع الوقت أمورا عن السياسة وألاعيبها لم أكن أعلم عنها شيئا، فتعرفت على الأحزاب ورجالها وكيفية التعامل معها ومعهم، حركات المعارضة والمدبرون للاحتجاجات وكيفية التصدي لها وقمعهم، الجماعات الدينية وكيفية مراقبتها واختراقها، لم يكن لنا اختيار في أغلب الأحوال بل علينا تنفيذ التعليمات دون مناقشة أو تفكير، كان الأمر بالطبع لا يخلو من مكاسب عديدة نجنيها من مثل هذه العمليات، ورغم كل هذه الخدمات التي أضطر وعصابتي لتقديمها لرجال الشرطة إلا أن ذلك لم يحمينا من غدرهم بشكل مطلق، فمن الجائز أحيانا أن يتم إساءة معاملتنا أو حتى احتجاز بعضنا بالقسم في ظل ظروف أمنية أو سياسية معينة، صحيح أنه يتم بعد ذلك إخلاء سبيل من تم احتجازهم والتأكيد على التفاهمات الودية القائمة بيننا، إلا أنني تعودت أن أظل في حالة من الشك الدائم والارتياب الخفي منهم، وعندما أخبرونا أن جماعات متطرفة ستقوم بالتظاهر ومحاولة الانقلاب على النظام، وأنه علينا عند استدعائنا التصدي بكل قوة لهؤلاء الجماعات الإرهابية لم يكن ذلك جديدا أو غريبا، اعتدنا منهم تلقى مثل هذا الطلبات من حين لآخر سواء كانت هناك بالفعل جماعات إرهابية أو مجرد متظاهرين يضايقون النظام، لكننا على غير المعتاد فوجئنا بكثافة من نواجههم من المتظاهرين في الشوارع والميادين المختلفة، كانت أعدادهم أكبر كثيرا مما اعتدنا عليه ومقاومتهم لنا أكثر عنفا وجرأة، لفت انتباهي وجود المئات من رجال عصابات أخرى تشارك معنا بتوجيه من رجال الشرطة في التصدي لتلك الأعداد الهائلة من المتظاهرين، كان الأمر بالفعل يختلف كثيرا عما عرفناه من قبل، أثار ارتباكنا ما كنا نسمعه من هتافاتهم وما يرفعونه من لافتات تطالب بالحرية والعدالة لجميع أفراد الشعب، سمعت بأذني كلمة ثورة تتردد كثيرا على ألسنتهم، ازدادت الأمور اشتعالا واضطر بعضنا للانسحاب أما خوفا على حياتهم أو استغلالا لحالة التردد والتراجع التي لاحظناها على رجال الشرطة والتي شملت القيادات الكبيرة منهم، سادت الفوضى والهرج وقرر بعضنا استغلال الأمر لمصلحته، اتجه بعضنا نحو نهب المتاجر والمحلات الفخمة، بينما استغل البعض الآخر فرصة انسحاب رجال الشرطة وتخاذلهم غير المفهوم للهجوم على الأقسام والسجون وتحرير زملائهم وأقاربهم، شهدت لأيام وليال عديدة حالة غريبة من الفوضى والاضطراب لم أتعود عليها رغم كل ما تعلمته من الشارع والحياة، وكأنني أعيش في بلد غريب غير بلدي ومع أناس مختلفين غير أناسها، شعرت لأول مرة في حياتي بالحيرة وبأنني أواجه وضعا لم أعتد عليه من قبل، جمعت رجالي وقررت الانكفاء إلى منطقتي والاكتفاء بالسيطرة عليها كما كان الأمر سابقا، لكن حتى أهالي منطقتي كانوا مختلفين عما تعودنا عليه، شجعتهم الأحداث الساخنة على التململ ثم التمرد على سلطتنا، وعندما عرفنا كغيرنا أن رئيس الدولة قد ترك الحكم تحت ضغط الجماهير، استقبلنا الأمر بقليل من الاهتمام فوجوده أو عدم وجوده لا يفرق كثيرا معنا، لكن سلوك الناس من حولي في منطقتي وخارجها كان عجيبا ولم أر مثله من قبل، كانت فرحتهم برحيل الرئيس أسطورية، زادهم ما حدث جرأة في تحدى سلطتنا والتمرد علينا، اضطررنا للدخول معهم في مواجهات دموية لاستعادة السيطرة على المنطقة، خرجنا منتصرين إلى حد ما لكن مع بعض الخسائر وبهيبة ونفوذ أقل مما اعتدنا عليه سابقا، ثم تبدلت الأمور لأسباب لم أفهمها وانشغل الناس بأحوالهم وما يجرى حولهم من أحداث متلاحقة، عدنا من جديد لفرض سطوتنا بكل قوة وساعدنا الغياب المتعمد لرجال الشرطة عن ممارسة حتى أبسط مهامهم، كنت لا أفهم أحيانا المسار الذي تسير فيه الأحداث والتقلبات السريعة التي تواجه البلاد، لكنني كنت سعيدا عندما استعدت ورجالي السيطرة الكاملة على منطقتي، وفرت لنا الأحداث المتسارعة والفوضى المنتشرة فرصا وأبوابا للرزق لم نكن نحلم بها من قبل، قررت أن أنتهز ذلك لتحقيق أعظم قدر ممكن من المكاسب فقد يداهمني اليوم الذي أخشاه منذ صغري بأسرع مما أتوقع.
ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"
ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"