قرأتُ في جريدة «فتاة الجزيرة» الغراء مقالاً آخراً في تحريم الغناء والعزف والفن الموسيقي بأجمعه، وقد سبق مثل ذلك وسبق لنا على ذلك جواب وكان جوابنا في غاية اللطف والمجاملة رغبة في الهدوء فلم تُحْدِث تلك المجاملة إلا العناد واستمرار بعض المجادلين في الكتابة على غير هدى. فإن القول بتحريم الفن الموسيقي قد قابلته الأمم الإسلامية بعدم الإكتراث، والفن يتقدم وتبني له الدول الإسلامية المعاهد والمدارس وقد انتشر في سائر الناس إنتشاراً طبيعياً فلا يستطيع منعه أحد كائن من كان. وكان مقال التحريم في هذه المرة ركيكاً بالمرة، وقد سبق ونقلنا تفسير الآية التي يستدلون بها في التحريم عن الفخر الرازي، وقلنا إنما نُزلت في حق الكفار ولم يعجبهم ذلك. والآن نسرد شيئاً من تفسير المسعودي رضي الله عنه للهو الحديث، قال: «لهو الحديث هو كل ما ينهي عما ينبغي، كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتداد بها وسائر ما لا خير فيه وفضول الكلام»، ثم ذكر سبب نزول الآية الكريمة فقال: «وقيل أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وكان النضر اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريش ويقول إن كان محمد (صلعم) يحدثكم عن عاد وثمود فأنا أحدثكم عن رستم واسفيديار والأكاسرة، واشترى قياناً يحملهن على معاشرة من أراد الإسلام فيصدونه عنه» ونقل السيوطي رضي الله عنه هذا السبب في نزول الآية.
فما تقدم صريح أن الآية نزلت في الذين يصدون عن سبيل الله ويتخذون آيات الله هزواً وهم الكفار أعداء الإسلام وليس لها علاقة بالغناء والعزف كما زعم البعض، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
ولم يكن العود والطنبور معروفين عند العرب وإنما لمّا خضعت الفرس والروم للعرب واندمجت القوتان تمكن الموسيقي فنفذ إلى جزيرة العرب يحمل آلات الفرس والروم الفنانون فسمعت الأذن العربية صوت العود والطنبور. وكان ثابت بن خائر أول من غنى على الوتر في قصيدة مطلعها:
لمن الديار رسومها قفر لعبت بها الأرواح والقطر
أما لهو الحديث فلفظ عربي يعرفه الخاص ولعام. فالحديث له معنى والغناء له معنى آخر. ولهو الحديث غير لهو الغناء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إباحة اللهو، فقال: «الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم إكراه». ورويت أحاديث كثيرة في إباحة الغناء والعزف، وأقوال العلماء كثيرة في هذا الباب فكيف يلتمس منا صاحب المقال ولو حديث واحد؟ سنسرد له أحاديثاً وأقوالاً للعلماء ورواياتٍ تاريخية عن الثقات ليتبين له الحقّ من الباطل.
الحديث الأول: رواه البخاري بسنده عن عائشة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعندي جاريتان تغنيان ودخل أبوبكر فنهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبيّ، فأقبل عليه صلى الله عليه وسلّم وقال: لكلّ قوم عيد وهذا عيدنا».
الحديث الثاني: رواه البخاري بسنده عن عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم عيد يلعب فيه السودان بالدف والحراب، فقال صلى الله عليه وسلّم: تشتهين تنظرين، فقلت: نعم. فأقامني وراءه وخدي على خده يقول: دونكم يا بني ارفده. حتى إذا مللت قال: حسبكِ، قلت: نعم، قال: اذهبي».
الحديث الثالث: رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «زُفّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو».
الحديث الرابع: رواه البخاري بسنده عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت: «دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلّم غداة بني علي فجلس على فراشه كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولي هكذا، قولي كالذي كنتِ تقولين». وقال الشوكاني روى هذا الحديث الجماعة إلا مسلم.
ففي الأحاديث المقدم ذكرها منع النبي صلى الله عليه وسلّم أبابكر عن قطع غناء الجاريتين وفيها استماعه للغناء وعزف الدف من النساء الأنصاريات، وفيها اقتراح على عائشة رضي الله عنها أن تأخذ معها لهواً في زفاف المرأة غلى الرجل الأنصاري، وفيها اقتراح على عائشة بالنظر إلى لهو السودان وأمرهم بالإستمرار في اللهو.
وفي نيل الأوطار للإمام الشوكاني في باب اللهو والدف قال: «وعن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم. رواه ابن ماجه» قال الشوكاني وقد حكى عن الهادي عن الدف أنه محرم أيضاً إذ هو آلة لهو، وحكى المؤيد بالله عن الهادي أنه يُكره فقط، وقال العباس وأبو حنيفة وأصحابه بل مُباح لقوله صلى الله عليه وسلم: «واضربوا عليه بالدفوف». ويؤيد ذلك ما في حديث المازني «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف». وقال في الفتح في رواية شريك فقال هل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني قلت تقول ماذا تقول.
أتيناكم أتيناكم = فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر = ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا = ما سمنت عذاريكم
قلت هذا الوزن في الشعر موجود إلى الآن في جهة العوالق وما حواليها من البلاد عند زفة العروس يضربون الدفوف والطبول ويقولون:
على امسيرى على امسيرى = الا يا ليلة الرحمن
على امسيرى على امسيرى = خزاك الله يا شيطان
على امسيرى على امسيرى = تسير يا غصين البان
فهل ترى عمل العوالق هذا محرّم أم إتباع لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟
أما تحريم الآلة مع الغناء فقد جاء في ذلك أحاديث منها ما أخرجه القاسم بن سلام أنه نُهي عن ضرب الدف والطبل وصوت المزمار. قلت وفي ذلك تحريم المزمار حتى مزمار الموتر (الهون). قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار "وفي الباب أحاديث كثيرة" يعني في باب التحريم. قال وقد وضع جماعة من أهل العلم مصنفات ولكنه أضعفها جميعاً بعض أهل العلم، حتى قال ابن حزم إنه لا يصح في الباب - أي باب التحريم - حديث أبداً وكل ما فيه موضوع. وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار:
«وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها؛ فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه!! وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضاً عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي، وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوَّادات، وإن ابن عمر دخل عليه والي جنيه عود؛ فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه؛ فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول!! وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: إن رجلاً أتى المدينة بجوار فنزل على عبد الله ابن عمر وفيهن جارية تضرب؛ فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئاً؛ قال انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا. قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر؛ فعرضهن عليه؛ فأمر جارية منهن فقال لها: خذي العود؛ فأخذته فغنت فبايعه؛ ثم جاء إلي ابن عمر إلى آخر القصة. وروى صاحب العقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود؛ ثم قال لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر، وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك، والمزهر عند أهل اللغة العود، وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس، ونقله ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة، وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وحكي الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود، وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبوراً في بيت المنهال ابن عمرو المحدث المشهور. وحكي أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود، قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل المدينة!! قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة، قال الأدفوي: لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم، وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي، وحكاه الإسنوي في المهمات عن الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور، وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر. وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعاً قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة.
وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله. ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضاً إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر!! قال ابن النحوي في العمدة: وقد روى الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره، وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي، وبلال وعبد الله ابن الأرقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا، وحمزة كما في الصحيح، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر، وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي، وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني، وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار، وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة، وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب الأغاني، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي، وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية انتهى كلام ابن النحوي
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته ومنهم من قال باستحبابه قالوا لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله قال المجوزون أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات»
وأما المانعون فقد استدلوا بأحاديث ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار. قال الشوكاني:
« وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية وقد تقدم ما قاله ابن حزم ووافقه على ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام وقال لم يصح في التحريم شيء وكذلك قال الغزالي وابن النحو في العمدة وهكذا قال ابن طاهر أنه لم يصح منها حرف واحد والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله» قد تقدم أنه صحيح وقد ذكر هذا الأستثاء ابن حزم فقال أنهم لو أسندوا حديثا واحدا فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روى عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى «ومن الناس» الآية أنهما فسرا اللهو بالغناء قال ونص الآية يبطل أحتجاجهم لقوله تعالى «ليضل عن سبيل الله» وهذه صفة من فعلها كان كافرا ولو أن شخصا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا فهذا هو الذي ذم الله تعالى وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه لا يضل به عن سبيل الله. قال الفاكهاني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس لا أدلة قطعية»
وجاء في العقد الفريد للإمام أحمد بن عبد ربه الأندلسي قال:
«وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقا، إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت؟ علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان فيمن خرج إلى العقيق، وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان، يمشيان بين يديه أمام دابته، فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به، وإلا أقطعكما إربا إربا، اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه، فإن فعل ما آمره به، وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول، واعلم أنك مأسور في أيديهما، هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق، ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتا، فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت»
أما في هذا العصر حتى علماء الأزهر يحضرون حفلات تقام في مصر لوعظ الناس فيها نغمات موسيقية تعزف فيها جميع آلات الموسيقى. وقد حضرتُ أنا بنفسي مع بعض العلماء في حفلة أقامها لنا أحمد زكي باشا في داره بالجيزة، وسمعنا عزف سامي الشوا على الرباب. وحضرت بنفسي أيضاً في دار الإمام الكبير الصالح زعيم إخواننا الإسماعيلية في حفلة أقامها تكريماً لصاحب السمو السعود ولي عهد المملكة العربية السعودية في دار الزعيم بمدينة يمبي، وكانت الآلات الموسيقية تسمعنا شجي الأنغام. وهذه الآلات الموسيقية تعزف في اليمن للجند اليماني الباسل، ويسمعها أمير المؤمنين بأذنيه وولي عهده سيف الإسلام، وكثير من العلماء وعامة المسلمين يسيرون بعدها يسمعونها في طريقهم إلى الجامع لعبادة الله تعالى. وأغلب العلماء والفقهاء في هذا العصر يسمعون هذه الآلات. والذين يحرّمون الغناء يسمعون آلات العزف في الفونوغراف والراديو ويقولون هذا مُباح لأنه صدى، وما الصدى إلى عكس الصوت الحقيقي في الأثير. وفي الأمة الإسلامية 99 في المائة يستبيحون سماع الغناء وآلاته في كل مصر من الأمصار، وهذا إجماع منقطع النظير.
وفي العقد الفريد للإمام الأندلسي قال:
«قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا = فأين تظنها أينا
ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد.»
قلت الإمام مالك أجلّ وأرفع من أن يؤدبه غيره. وقد سبق فيما تقدم أن الغناء بالآلات مُباح في مذهبه وأنا لا أرغب إلا في إقناع من يحرّم الغناء بدون علم ولا دليل صحيح. ولا يحتاج الفن الموسيقي إلى نصر أو دفاع فإنه يتقدّم كالسيل الجارف يسحب من وقف في طريقه إلى البحر.
والذي وضح مما تقدم أن الفقهاء اختلفوا إختلافاً هائلاً في أنه هل يسمح للمسلمين أن يطبلوا ويغنوا مثل الناس أم لا. فمن الفقهاء من أباح الغناء والموسيقى بأجمعه ومنهم من حرمه مطلقاً. وقد سبقت أدلة الطرفين بما يكفي. وما تحريم ترويح القلوب وسماع الآلات والغناء بما لا يمسّ الدين والآداب إلا خطأً ومخالف للخلق الطبيعي في الإنسان.
وقد تفضّل أديب من أدباء لحج فشطر أبيات العود التي سببت الهزة الكهربائية في أعصاب من لم يفهم مقصدنا فسكنت بتشطيره تلك الهزة والحمد لله على السلامة وجزئ المشطر العبدلي خير جزاء:
تشطير أبيات العود
يا عود قل من ذا الذي حرمك؟ = من الأوائل والأواخر
ومن إذا أتيت لا يفهمك = إلا الذي في الذوق قاصر
جل الذي أنشأك أونظمك = صنعة حكيم الصنع قادر
وشدَّ أزرك في الغناء بالرباب = تسر إخواناً وأصحاب
قد كان داؤود إذا ما اعتلى = وسبح المولى وغنّى
يوماً على المنبر غنى الملأ = جميعهم فرداً ومثنى
وإن قرأ التوراة أو رتلا = فهي الصلاة حسّاً ومعنى
فزدت يا عود لهم في الثواب = لكل مستغفر وأواب
الله قد أسس هذا النظام = مقدماً من قبل داؤود
وألهم القُمْرِي الغناء والحمام = فكيف تنهون عن العود
وأصلح الناس على ما يرام = سبحان ربّي خير معبود
فليس في الفن الموسيقي عقاب = وليس للتحريم أسباب
غنّوا فإن العود حقاً حلال = إلا إذا ساء استماعه
وليس في التحريم إلا ضلال = إن كان للترويح ساعه
وسوف لا نلقاه بالإمتثال = ولا نقابله بطاعه
إذا قضى في ذوقنا بالخراب = ما في الحقيقة شك مرتاب
لا تعتبر قط ولا تنتمي = بلا تحيّز أو مغالاة
للعسقلاني لا ولا الهيثمي = إن حرموا معبد أو مغناه
ولا البخاري لا ولا مسلم = بل نتبع ما قاله الله
فإن عند العقل فصل الخطاب = حكم بهذا ربّ الأرباب
وقد تبين أن قوله تعالى «ليضل عن سبيل الله» أبطل الإحتجاج بأن المراد بلهو الحديث الغناء كما تقدم. وتبين أن الأحاديث التي يستدلون بها على تحريم الفن الموسيقي ضعيفة بل موضوعة لا يصحُّ منها حرف واحد، فعلام المغالطة؟ فلو جاء في كتاب الله نصّاً قاطعاً، حرّم عليكم العود والرباب والمزمار والطنبور، ربما وجد الناس ذلك، فمن اضطر ىغير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، فالدين الإسلامي دين يسر شرعه الله ليكون ديناً عالمياً خالداً وكان فاتحة لعهد جديد من عهود البشرية يتآخى فيه الدين والعقل ويتفق الوحي والعلم. ولا حاجة قط إلى مضايقة المسلمين بما لم يأمر به الدين، وإتهام الدين بتلك المضايقة وهو بريء منها والله المستعان والسلام على من اتبع الهدى.
* نشر المؤلف هذا الكتيب رداً على عدد مقالات نشرت في صحيفة «فتاة الجزيرة»، ورداً كذلك على "محسن بن محمد العطاس" الفقيه الحضرمي الذي أصدر فتوى يحرّم فيها الغناء والموسيقى.
فما تقدم صريح أن الآية نزلت في الذين يصدون عن سبيل الله ويتخذون آيات الله هزواً وهم الكفار أعداء الإسلام وليس لها علاقة بالغناء والعزف كما زعم البعض، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
ولم يكن العود والطنبور معروفين عند العرب وإنما لمّا خضعت الفرس والروم للعرب واندمجت القوتان تمكن الموسيقي فنفذ إلى جزيرة العرب يحمل آلات الفرس والروم الفنانون فسمعت الأذن العربية صوت العود والطنبور. وكان ثابت بن خائر أول من غنى على الوتر في قصيدة مطلعها:
لمن الديار رسومها قفر لعبت بها الأرواح والقطر
أما لهو الحديث فلفظ عربي يعرفه الخاص ولعام. فالحديث له معنى والغناء له معنى آخر. ولهو الحديث غير لهو الغناء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إباحة اللهو، فقال: «الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم إكراه». ورويت أحاديث كثيرة في إباحة الغناء والعزف، وأقوال العلماء كثيرة في هذا الباب فكيف يلتمس منا صاحب المقال ولو حديث واحد؟ سنسرد له أحاديثاً وأقوالاً للعلماء ورواياتٍ تاريخية عن الثقات ليتبين له الحقّ من الباطل.
الحديث الأول: رواه البخاري بسنده عن عائشة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعندي جاريتان تغنيان ودخل أبوبكر فنهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبيّ، فأقبل عليه صلى الله عليه وسلّم وقال: لكلّ قوم عيد وهذا عيدنا».
الحديث الثاني: رواه البخاري بسنده عن عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم عيد يلعب فيه السودان بالدف والحراب، فقال صلى الله عليه وسلّم: تشتهين تنظرين، فقلت: نعم. فأقامني وراءه وخدي على خده يقول: دونكم يا بني ارفده. حتى إذا مللت قال: حسبكِ، قلت: نعم، قال: اذهبي».
الحديث الثالث: رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «زُفّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو».
الحديث الرابع: رواه البخاري بسنده عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت: «دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلّم غداة بني علي فجلس على فراشه كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولي هكذا، قولي كالذي كنتِ تقولين». وقال الشوكاني روى هذا الحديث الجماعة إلا مسلم.
ففي الأحاديث المقدم ذكرها منع النبي صلى الله عليه وسلّم أبابكر عن قطع غناء الجاريتين وفيها استماعه للغناء وعزف الدف من النساء الأنصاريات، وفيها اقتراح على عائشة رضي الله عنها أن تأخذ معها لهواً في زفاف المرأة غلى الرجل الأنصاري، وفيها اقتراح على عائشة بالنظر إلى لهو السودان وأمرهم بالإستمرار في اللهو.
وفي نيل الأوطار للإمام الشوكاني في باب اللهو والدف قال: «وعن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم. رواه ابن ماجه» قال الشوكاني وقد حكى عن الهادي عن الدف أنه محرم أيضاً إذ هو آلة لهو، وحكى المؤيد بالله عن الهادي أنه يُكره فقط، وقال العباس وأبو حنيفة وأصحابه بل مُباح لقوله صلى الله عليه وسلم: «واضربوا عليه بالدفوف». ويؤيد ذلك ما في حديث المازني «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف». وقال في الفتح في رواية شريك فقال هل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني قلت تقول ماذا تقول.
أتيناكم أتيناكم = فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر = ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا = ما سمنت عذاريكم
قلت هذا الوزن في الشعر موجود إلى الآن في جهة العوالق وما حواليها من البلاد عند زفة العروس يضربون الدفوف والطبول ويقولون:
على امسيرى على امسيرى = الا يا ليلة الرحمن
على امسيرى على امسيرى = خزاك الله يا شيطان
على امسيرى على امسيرى = تسير يا غصين البان
فهل ترى عمل العوالق هذا محرّم أم إتباع لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟
أما تحريم الآلة مع الغناء فقد جاء في ذلك أحاديث منها ما أخرجه القاسم بن سلام أنه نُهي عن ضرب الدف والطبل وصوت المزمار. قلت وفي ذلك تحريم المزمار حتى مزمار الموتر (الهون). قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار "وفي الباب أحاديث كثيرة" يعني في باب التحريم. قال وقد وضع جماعة من أهل العلم مصنفات ولكنه أضعفها جميعاً بعض أهل العلم، حتى قال ابن حزم إنه لا يصح في الباب - أي باب التحريم - حديث أبداً وكل ما فيه موضوع. وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار:
«وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها؛ فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه!! وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضاً عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي، وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوَّادات، وإن ابن عمر دخل عليه والي جنيه عود؛ فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه؛ فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول!! وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: إن رجلاً أتى المدينة بجوار فنزل على عبد الله ابن عمر وفيهن جارية تضرب؛ فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئاً؛ قال انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا. قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر؛ فعرضهن عليه؛ فأمر جارية منهن فقال لها: خذي العود؛ فأخذته فغنت فبايعه؛ ثم جاء إلي ابن عمر إلى آخر القصة. وروى صاحب العقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود؛ ثم قال لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر، وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك، والمزهر عند أهل اللغة العود، وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس، ونقله ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة، وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وحكي الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود، وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبوراً في بيت المنهال ابن عمرو المحدث المشهور. وحكي أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود، قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل المدينة!! قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة، قال الأدفوي: لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم، وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي، وحكاه الإسنوي في المهمات عن الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور، وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر. وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعاً قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة.
وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله. ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضاً إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر!! قال ابن النحوي في العمدة: وقد روى الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره، وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي، وبلال وعبد الله ابن الأرقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا، وحمزة كما في الصحيح، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر، وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي، وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني، وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار، وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة، وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب الأغاني، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي، وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية انتهى كلام ابن النحوي
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته ومنهم من قال باستحبابه قالوا لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله قال المجوزون أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات»
وأما المانعون فقد استدلوا بأحاديث ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار. قال الشوكاني:
« وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية وقد تقدم ما قاله ابن حزم ووافقه على ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام وقال لم يصح في التحريم شيء وكذلك قال الغزالي وابن النحو في العمدة وهكذا قال ابن طاهر أنه لم يصح منها حرف واحد والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله» قد تقدم أنه صحيح وقد ذكر هذا الأستثاء ابن حزم فقال أنهم لو أسندوا حديثا واحدا فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روى عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى «ومن الناس» الآية أنهما فسرا اللهو بالغناء قال ونص الآية يبطل أحتجاجهم لقوله تعالى «ليضل عن سبيل الله» وهذه صفة من فعلها كان كافرا ولو أن شخصا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا فهذا هو الذي ذم الله تعالى وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه لا يضل به عن سبيل الله. قال الفاكهاني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس لا أدلة قطعية»
وجاء في العقد الفريد للإمام أحمد بن عبد ربه الأندلسي قال:
«وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقا، إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت؟ علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان فيمن خرج إلى العقيق، وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان، يمشيان بين يديه أمام دابته، فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به، وإلا أقطعكما إربا إربا، اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه، فإن فعل ما آمره به، وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول، واعلم أنك مأسور في أيديهما، هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق، ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتا، فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت»
أما في هذا العصر حتى علماء الأزهر يحضرون حفلات تقام في مصر لوعظ الناس فيها نغمات موسيقية تعزف فيها جميع آلات الموسيقى. وقد حضرتُ أنا بنفسي مع بعض العلماء في حفلة أقامها لنا أحمد زكي باشا في داره بالجيزة، وسمعنا عزف سامي الشوا على الرباب. وحضرت بنفسي أيضاً في دار الإمام الكبير الصالح زعيم إخواننا الإسماعيلية في حفلة أقامها تكريماً لصاحب السمو السعود ولي عهد المملكة العربية السعودية في دار الزعيم بمدينة يمبي، وكانت الآلات الموسيقية تسمعنا شجي الأنغام. وهذه الآلات الموسيقية تعزف في اليمن للجند اليماني الباسل، ويسمعها أمير المؤمنين بأذنيه وولي عهده سيف الإسلام، وكثير من العلماء وعامة المسلمين يسيرون بعدها يسمعونها في طريقهم إلى الجامع لعبادة الله تعالى. وأغلب العلماء والفقهاء في هذا العصر يسمعون هذه الآلات. والذين يحرّمون الغناء يسمعون آلات العزف في الفونوغراف والراديو ويقولون هذا مُباح لأنه صدى، وما الصدى إلى عكس الصوت الحقيقي في الأثير. وفي الأمة الإسلامية 99 في المائة يستبيحون سماع الغناء وآلاته في كل مصر من الأمصار، وهذا إجماع منقطع النظير.
وفي العقد الفريد للإمام الأندلسي قال:
«قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا = فأين تظنها أينا
ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد.»
قلت الإمام مالك أجلّ وأرفع من أن يؤدبه غيره. وقد سبق فيما تقدم أن الغناء بالآلات مُباح في مذهبه وأنا لا أرغب إلا في إقناع من يحرّم الغناء بدون علم ولا دليل صحيح. ولا يحتاج الفن الموسيقي إلى نصر أو دفاع فإنه يتقدّم كالسيل الجارف يسحب من وقف في طريقه إلى البحر.
والذي وضح مما تقدم أن الفقهاء اختلفوا إختلافاً هائلاً في أنه هل يسمح للمسلمين أن يطبلوا ويغنوا مثل الناس أم لا. فمن الفقهاء من أباح الغناء والموسيقى بأجمعه ومنهم من حرمه مطلقاً. وقد سبقت أدلة الطرفين بما يكفي. وما تحريم ترويح القلوب وسماع الآلات والغناء بما لا يمسّ الدين والآداب إلا خطأً ومخالف للخلق الطبيعي في الإنسان.
وقد تفضّل أديب من أدباء لحج فشطر أبيات العود التي سببت الهزة الكهربائية في أعصاب من لم يفهم مقصدنا فسكنت بتشطيره تلك الهزة والحمد لله على السلامة وجزئ المشطر العبدلي خير جزاء:
تشطير أبيات العود
يا عود قل من ذا الذي حرمك؟ = من الأوائل والأواخر
ومن إذا أتيت لا يفهمك = إلا الذي في الذوق قاصر
جل الذي أنشأك أونظمك = صنعة حكيم الصنع قادر
وشدَّ أزرك في الغناء بالرباب = تسر إخواناً وأصحاب
قد كان داؤود إذا ما اعتلى = وسبح المولى وغنّى
يوماً على المنبر غنى الملأ = جميعهم فرداً ومثنى
وإن قرأ التوراة أو رتلا = فهي الصلاة حسّاً ومعنى
فزدت يا عود لهم في الثواب = لكل مستغفر وأواب
الله قد أسس هذا النظام = مقدماً من قبل داؤود
وألهم القُمْرِي الغناء والحمام = فكيف تنهون عن العود
وأصلح الناس على ما يرام = سبحان ربّي خير معبود
فليس في الفن الموسيقي عقاب = وليس للتحريم أسباب
غنّوا فإن العود حقاً حلال = إلا إذا ساء استماعه
وليس في التحريم إلا ضلال = إن كان للترويح ساعه
وسوف لا نلقاه بالإمتثال = ولا نقابله بطاعه
إذا قضى في ذوقنا بالخراب = ما في الحقيقة شك مرتاب
لا تعتبر قط ولا تنتمي = بلا تحيّز أو مغالاة
للعسقلاني لا ولا الهيثمي = إن حرموا معبد أو مغناه
ولا البخاري لا ولا مسلم = بل نتبع ما قاله الله
فإن عند العقل فصل الخطاب = حكم بهذا ربّ الأرباب
وقد تبين أن قوله تعالى «ليضل عن سبيل الله» أبطل الإحتجاج بأن المراد بلهو الحديث الغناء كما تقدم. وتبين أن الأحاديث التي يستدلون بها على تحريم الفن الموسيقي ضعيفة بل موضوعة لا يصحُّ منها حرف واحد، فعلام المغالطة؟ فلو جاء في كتاب الله نصّاً قاطعاً، حرّم عليكم العود والرباب والمزمار والطنبور، ربما وجد الناس ذلك، فمن اضطر ىغير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، فالدين الإسلامي دين يسر شرعه الله ليكون ديناً عالمياً خالداً وكان فاتحة لعهد جديد من عهود البشرية يتآخى فيه الدين والعقل ويتفق الوحي والعلم. ولا حاجة قط إلى مضايقة المسلمين بما لم يأمر به الدين، وإتهام الدين بتلك المضايقة وهو بريء منها والله المستعان والسلام على من اتبع الهدى.
* نشر المؤلف هذا الكتيب رداً على عدد مقالات نشرت في صحيفة «فتاة الجزيرة»، ورداً كذلك على "محسن بن محمد العطاس" الفقيه الحضرمي الذي أصدر فتوى يحرّم فيها الغناء والموسيقى.