إبراهيم محمود - الابن المطيع.. جوزيف مسعد في كتابه " اشتهاء العرب "

2- هل يمكن الحديث عن " عقدة الفلسطيني " ؟ :
ربما تكون هي المرَّة الأولى التي تُستخدَم فيها عبارة " عقدة الفلسطيني " بالمفهوم الفكري- النفسي، حيث أرمي من خلالها إلى توضيح موقف يسلَّط فيه الضوء على بؤرة التوتر النفسية التي يعيشها الفلسطيني، ومنذ ما يُسمَّى بـ" النكبة 1948 " وهي اختلاق إيديولوجي عربي قائم، سواء من كان في الداخل أو في الشتات، بغضّ النظر عن تصنيفاته، وأن هذا الموقف لا يشمل باحثنا " الفكر العربي الرسمي، سريعاً " فقط إلى جانب آخرين، والسابق عليه: المفكر الراحل ادوارد سعيد خاصة، وإنما يبقيه في قلب المشهد التفكيري المغيّب لحقيقة تكوينه، إنما أيضاً، المخاتل لحقيقة كينونته واقعاً.
أقرّ بذلك إلى حد كبير، وأنا أنوه إلى الشعور الفلسطيني المستدام غالباً، وهو القائم على ازدواجية قاهرة – مقهورة:
بوصفها لا تنفك تتقدمه مسلكاً وتفكيراً، ويعتد بها، وكونها علامة مأساته، والكتابة البارزة على شاهدته، مهما كانت أخطاؤه في الواقع اليومي. وهنا تتبدى عقدة الفلسطيني، إذ يرى الآخرين على خطأ، وما يقوله حكَماً أو حُكْماً هو الصواب، ليكون الضحية المستمرة لعنف يعتبَر مفروضاً عليه: عنف العدو " الإسرائيلي: الصهيوني "، وعنف " الأخوة " العرب " الذين لا يقدّرون مأساته، كما لو أن ليس له دور في أي جنحة جغرافية، سياسية ونفسية.
تقوم عقدة الفلسطيني على أنه ملاحق/ مطارد، ومحاصَر، أو تحت المراقبة، في كل ما يقوم به أو يتفوه به. فهو محتَل " مستعمَر " وإن كان في أقصى أقاصي الأرض، وهو يتهم من " باعوه " أو يريدون المساومة عليه أو تجريده من كونه إنساناً له جغرافيته وتاريخه الخاصين به، من خلال التواطؤ مع العدو. عقدة الاضطهاد المركَّبة هذه، يمكن تبين مأثرتها ذات الصدى لدى أغلب كتاب " القضية " ومثقفيها، وفي واجهتها ينبري أولئك الذين لا يترددون في تبرئة ذمتهم، واتهام الآخرين: عرباً وغير عرب بأنهم لا يأبهون بهم وبـ " شعبهم " بالمفهوم الإنساني الفعلي. إنما السؤال: هل ساءل أحدهم نفسه عما يقوم به هو نفسه في تعميق هذا الشعور المختلق كثيراً، وفي مسلكه الذي يقوم به إزاء الآخر وما يترتب عليه من انطباع سيء ؟
إن هذه العقدة في أقصى متتالياتها هي التي تعرّف بمفكرين من مقام " ادوارد سعيد " ومن رُسِموا على الصعيد الرسمي العربي مفكرين " حال جوزيف مسعد "، إذ إن " خدماتهم " التفكيرية هي التي تمارس زحزحة لهم من موقعهم المعتبر إنسانياً، بالمفهوم السوي للكلمة، إلى موقع تجيَّر فيه سلوكياته: كينونته .
يذكّرنا موقفه هذا، بما أفصح عنه ادوارد سعيد في مذكرته " خارج المكان، الطبعة العربية، دار الآداب البيروتية، 2000 "، وهو يستخدم عبارات ذات إحالة سيكولوجية " فرويدية، ربما ": توتر، صراع، غربة، ازدواجية...، وهو يقارن نفسه بالكاتب البولوني الشهير جوزيف كونراد، والمعروف بكتابته بالانكليزية، وادوارد سعيد عربي ويكتب بالانكليزية، ليبقى الفارق لديه كبيراً، فكونراد في المحصلة أوربي، وادوارد ليس كذلك، ووسط هذا الصراع، يترجم مأثرته في قهْر الازدواجية ، والغربة القاهرة تلك، بكتابة مقاوِمة، وقد انتصرت فيه عربيته " الفطرية " على انكليزيته " المكتسبة "، ولا يعود ادوارد سعيد المركَّب إلا الموحد، من خلال ( توكيد أصوله العربية، وأن تلك الثقافة، إذ تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات . ص 10 ).
تلك عقدة موازية تلك، حين يكون رهانه على ثقافة الآخر كثيراً وبلغته، وفَلَاحه المعلوم من خلال إرادة عربية فطرية، وهو يحاول تطويع المكتوب لإرادة الانتماء تلك .
جوزيف مسعد، من خلال المقدمة، وفيما بعد، وهو لا يخفي شعوره بانسكانه بهذه العقدة، يتكتم على عنفه الداخلي، على حقيقة ما يكونه ضمناً، عندما يحاكِم الغرب في امبرياليته، والشرق الذي استسلم لها عبر مثقفيه وكتابه الكبار أيضاً، يلوذ بالمفكر الانكليزي واليساري ريموند ويليامز، إذ يفرق بين مفهوم الثقافة، بمعناها القديم " الاهتمام بالزراعة " والحديث، وهو المتعلق بتنشئة الطفل، ومن ثم لتشمل مختلف المنتوج العلمي، الفكري والفني، وهو يحمل دمغة الامبريالية. ليقول وهو في ضوء هذا الدعم الفكري الامبريالية مرجعية طبعاً ( أثبتت الثقافة بوصفها تصنيفاً من تصنيفات الفكر الحديث أنها تتمتع بالديناميكية والقدرة على التفاعل مع نظم الفكر القائمة، تماماً، كما أثبتت بوصفها موضوعاً للدراسة ما تتمتع به من ديناميكية وقدرة على التفاعل مع النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة التي تعرّفها وتعرَّف من خلالها. ص 21 ). ليضيف إليه أوربياً آخر، وهو شولتزه وإشارته إلى الكيفية التي دمَّر بها الاستعمار ( النخبة العربية المثقفة في ذلك الوقت وقضى على مادتها البحثية، ألا وهي المخطوطات المنسوجة يدوياً بعد أن أدخل المطابع الآلية عام 1821... إذ ستخلق الكتب جمهوراً من نوع جديد، مثقفين يرون الجيل السابق عليهم مجمد الفكر، محبوساً داخل المخطوطات القروسطية، جمهوراً يحكم على الكتاب المطبوع باعتباره معيار الحداثة الحضارية.ص 25 ).
كل ذلك، ليتقدم بفكرته المريعة في تأثيم الغرب، وتبرئة الشرق " السياسي " قبل كل شيء، وما يتبعه فكرياً، كما في استشهاده بالجبرتي " 1754-1826 "، إذ يذم أخلاق الفرنسيين، مقابل الغرب الاستعماري الذي يذم الإسلام، وربما كان اسم باحثة أوربية أخرى هي " ستولر " مفيداً هنا، حين يستعين بها، لتأكيد " امبريالية " هذه العلاقة، وخاصيتها الحضارية .
يعني ذلك، أن مسعد ناقم على هذه الثقافة الجديدة، ساخط على الآلة، مشدد على مكانة الجبرتي فيما ذهب، وليس ما توجه إليه، مثلاً، كل من الطهطاوي، علي عبدالرازق، مصطفى عبدالرزاق وغيرهم، طبعاً لأنهم خارج نطاق معتقده الفكري.
وتلك مفارقة المفارقات، إذ يلوذ يراهن على ويليامز، وسواه، فيما رغب في توكيده، ناسفاً بذلك فكرته عن الثقافة وارتباطها بالحداثة و" الاستعمار "، وهي وضعية إرادوية تماماً، وإيديولوجيا معتقد رغم بريقها الفكري .
في البنية المفهومية للثقافة، يستلف مسعد ما يلائمه، وهو في وحدته، أو نسَبه التأريخي والاجتماعي، فلا ينبغي التعسف في إقامة علاقة رجراجة، مع مفهوم هو ضده في صراطيته السلفية تقديراً، حيث الثقافة أبعد من كونها هكذا.
أشير هنا إلى الفيلسوف الألماني غادامير، ومن خلال كتابه المميَّز " الحقيقة والمنهج" الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية " الترجمة العربية، دار آويا، طرابلس، ليبيا "، حيث إنه يوسّع في مفهوم الثقافة، بوصفها تركيباً من علاقات، وفي المفهوم المعقد للثقافة، حيث الإشارة أولاً إلى المظهر الخارجي لها( الصورة المرسومة جيداً ".ص58)، وكون ( الثقافة، كالطبيعة، ليس لها غايات خارج ذاتها. ص 59)، ثم ليتوقف عند هيغل ( إن الطبيعة الكلية للثقافة الإنسانية هي التي تنصّب نفسها كالئناً ثقافياً كلياً.ص59)، ولاحقاً ( وتتبدى الثقافة العملية في تحقيق الإنسان حرفته كلياً ومن جوانبها كافة.ص 60... فثمة شيء خارجي لصيق به، شيء نظري : لأن امتلاك موقف نظري، هو بحد ذاته اغتراب مسبَّق...تفضي الثقافة النظرية إلى ما وراء ما يعرفه الإنسان وما يجرّبه على نحو مباشر.ص 60)، وما ينطوي عليه الموقف الإشكالي للثقافة ومشدّها الذاتي بالمقابل، أو ما تكون عليه الذات من تركيب طيّاوي مؤثر في السلوك، إذ ( لا أحد سينكر أن لغتنا تؤثر في فكرنا. فنحن نفكر بالكلمات. وأن تفكر يعني أن تفكر في شيء ما مع الذات، وأن تفكر في شيء ما مع الذات يعني أن تقول شيئاً ما للذات . ص 693 )، وبطريقة حجاجية، يظهر كلامه.
لقد اقتبست أكثر من شاهد من كتاب غادامير، ليس للرد، إنما لإضاءة مفهوم الثقافة، ليس كما تعرَّض له مسعد، ليس كما أراد التركيز عليه في تعامله مع المفهوم والذات معاً.
ذلك يذكّرنا بمثال شعري، وهو يتمثل في قصيدة للشاعر الفلسيطيني الكبير محمود درويش، رافعاً من شأن " يوسف " حيث القصيدة معنونة باسمه، ومحيلاً إياه إلى ذات ناطقة بلسانه الجغرافي والتأريخي والرمزي :
أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا
أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ
يَمْدَحُونِي . وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ. هُمْ
سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي. وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي. حِينَ مَرَّ النَّسِيمُ وَلَاعَبَ
شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ، فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي؟
وليقول فيما بعد :
هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إنِّي رَأَيْتُ أَحدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ
والقَمَرَ، رَأَيتُهُم لِي سَاجِدِينْ.
وهذا ما يمكن تلمسه بصورة أوخم وأفخم معاً، في قصيدة أخرى للشاعر الكبير إذ يعزز من مقام صلة القربى بين " أناه " والمكان، وما يكونه المكان إليه، وما يكونه هو نفسه مكانياً :
أنا من هنا
وهنا أنا , دوّى أبي ,أنا من هنا
وأنا هنا , وأنا أنا
وهُنا هُنا , إني أنا
و أنا أنا , وهنا أنا
و أنا هنا , إني هنا
و أنا أنا , ودَنا الصدى
لا، ولم يسأل درويش نفسه، وهو ينبثق صوراً أدبية لها صداها، عمن يكون " يوسفه " المبرَّأ من كل شيء، يوسفه الفلسطيني، وأخوته ممن ضحَّوا به، أو أرادوا التخلص منه، لتكون قيامة يوسف في نهاية إنذاراً لأولئك، كما هو الوضع الآن، ودون أن يسأل عن حقيقة " أناه " وصنافة التمزقات التي تتقاسمه داخلاً وخارجاً، جرّاء عقدة الاضطهاد الفلسطينية بالذات .
مسعد، الأكاديمي الأميركي، والمعرف أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث، لا يتردد، كما يظهر عن تنصيب نفسه قيّماً على وراد الثقافة العربية : قديمها وحديثها، وليته حافظ على سوية منهجه، وتضعضعه من الداخل، ليته تراجع قليلاً إلى الوراء، لينظر في الخراب المترتب على تحكيمات وتقويمات من هذا النوع الكارثي: اعتبار المطبعة ساعة نحس في التاريخ العربي، ومن جاؤوا تالياً كسلالة مشوهة، أطفال أنابيب الكولونيالية دون تفريق عموماً، وهي الخدمة الكبرى التي يقدّمها لمن آووه واحتوه ووظَّفوه ومنحوه اسماً ولقباً حتى خارق حدودهم.
أتراه الموقع الجدير باسمه، الجدير بالحسد عليه ؟ موقع يبقي الاشتهاء " بطنياً"؟!


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى