أدب السجون صلاح الدين المنجد - سجون بغداد زمن العباسيين.. -7

(تتمة)

- 5 -

ولعلي بن الجهم قصيدة أخرى قالها في الحبس، منها:
وتوكلنا على ربّ السماء ... وسلمنا لأسباب القضاء
وَوَطَّنّا على غِير الليالي ... نفوساً سامحت بعد الإباء
وأفنية الملوك محجّبات ... وباب الله مبذول الفناء
هي الأيام تكلمنا وتأسو ... وتأتي بالسعادة والشقاء
حلبنا الدهر أشطره ومدّت ... بنا عقب الشدائد والرخاء
وجربنا وجرّب أوّلونا ... فلا شيء أعز من الوفاء
ولم ندع الحياء لمس خيرٍ ... وبعض الضرّ يذهب بالحياء
ولم نحزن على دنيا تولَّت ... ولم نسبق إلى حزن العزاء

- 6 -

ومن أروع وأرق ما قيل في الحبس قول محمد بن صالح العلوي، وكان خرج على المتوكل فظفر به وسيره إلى سر من رأى فحبس.

طرب الفؤاد وعاد أحزانه، ... وتشعّبت به شُعباً أشجانُه
وبدا له من بعد من اندمل الهوى ... برق تتابع مَوْهناً لمعانُه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانُه
فدنا لينظر أين لاح فلمُ يطق ... نظراً إليه وردّه سجّانُه
فالوجد ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحّت به أجفانُه
ثم استعاذ من القبيح وردّه ... نحو العزاء عن الصبا إيقانُه
وبدا له أن الذي قد ناله ... ما كان قدّره له ديّانُه

- 7 -

ولإبراهيم بن المدبر في حبسه أشعار حسان منها قوله في قصيدة أولها:

أدموعها أم لؤلؤ متناثر ... يندى به ورد جنى ناضر

يقول:

لا تؤنسك من كريم نبوة ... فالسيف ينبو وهو عضب باتر
هذا الزمان تسومني أيامه ... خسفا وهاأنذا عليه صابر
إن طال ليلى في الإسار فطالما ... أفنيت دهراً ليله متقاصر
والحبس يحجبني وفي أكفانه ... مني على الضرّاء ليث خادر
عجب له كيف التقت أبوابه ... والجودُ فيه والغمام الباكر
هلا تقطّع أو تصدّع أو وهى ... فعذرته، لكنه بيَ فاخر

- 8 -

ولما غضب جعفر على ابن الزيات عذبه في التنور. وكان قد حبسه قبل تعذيبه في بيت. فوجد على الحائط قوله:

لعب البلى بمعالمي ورسومي،=ودُفنتُ حياً تحت ردم غموم
وشكوت غمي حين ضقت ومن شكا ... كرباً يضيق به، فغير ملوم
لزم البلى جسمي وأوهن قوتي ... إن البلى لموكل بلزومي
أبنيتي قلِّي بكاءك واصبري ... فإذا سمعت بهالك مغموم
فانعي أباك إلى نساء واقعدي ... في مأتم يبكي العيون وقومي

وقال في التنور الذي عذب فيه:

هيض عظمي الغداة إذ صرت فيه ... إن عظمي قد كان غير مهيض
ولقد كنت أنطق الشعر دهراً ... ثم حال الجريض دون القريض

- 9 - وبعث الإفشين إلى المعتصم من الحبس: (إن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين كمثل رجل ربي عجلاً له حتى أسمنه، وكبر، وحسنت حاله. وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم. فاتفقوا جميعاً على أن قالوا له ذات يوم: ويحك، ألم تر هذا الأسد وقد كبر، والسبع إذا كبر رجع إلى جنسه، فقال لهم: هذا عجل. فقالوا هذا سبع، سل من شئت عنه. وقد تقدموا إلى جميع من يعرفه انه إن سألهم عنه قالوا: هو سبع. فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف اقدر أن أكون أسداً؟ الله الله في أمري، فقد وجب حقي. وأنت سيدي ومولاي) فلم يلتفت المعتصم إليه

- 10 -

ومما نسب إلى ابن المعتز قوله:

تعلمت في السجن التكك ... وكنت امرأ قبل حبسي ملك
وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذلك إلا بدور الفلك
ألم تبصر الطير في جوه ... يكاد يلامس ذاك الحبك
إذا أبصرته خطوب الزما ... ن أوقعْنَه في حبال الشرك
فها ذاك من حالق يُصاد ... ومن قعر بحر يُصاد السمك

- 11 -

وعقد الثعالبي في اليتيمة لأبي اسحق الصابي فصلاً سماه (ما أخرج في شهره في الحبس) وأكثره في الحكمة والشكوى وذم الدنيا. فمن ذلك قوله:

يعيّرني بالحبس من لو يحله ... حلولي لطالت واشمخرّت مراكبه
وربّ طليق أطلق الذل رقه ... ومعتقل عانٍ وقد عزّ جانبه
وإني لقرن الدهر يوماً تنوبني ... سطاه ويوماً تنجلي بي نوائبه
ومن مدّ نحو النجم كيما يناله ... يداً كَيِدي لاقته أيدٍ تجاذبه
ولا بد للساعي إلى نيل غاية ... من المجد من ساع تدب عقاربه
وما ضرّني أن غاض ما ملكت يدي وفي فضل جاهي أن تفيض مذاهبُه
ولي بين أقلامي ولّبي ومنطقي ... غني قلَّما يشكوا الخصاصة صاحبه

صلاح الدين المنجد

مجلة الرسالة - العدد 647
بتاريخ: 26 - 11 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
906
آخر تحديث
أعلى