ظهر الإسلام وقد تحكم في حياة العرب جاهلية قاسية وعقلية جافية وعصبية مفرقة، فكان الشعر مظهر هذه الصفات وباعثها؛ فلما أعلن الرسول الحرب على هذه الأخلاق تمهيداً لألفة القلوب ووحدة العرب، كان من الطبيعي أن ينغض رأسه إليه، وألا يشجع الناس عليه، ففي القرآن: (والشعراء يتَّبعهم الغاوُون. وما علمناه الشعر وما ينبغي له)، وفي الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ فمه شعراً). فازور جانب المسلمين عن قرض الشعر وروايته، على علمهم بأن الدين لم يكرهه على إطلاقه، وإنما كره منه ذلك النوع الذي يمزق الشمل ويثير دفائن القلوب. ثم شغل العرب جميعاً بالدعوة العظمى، فمن مؤيد ومن معارض، واشتدت الخصومة بين الرسول وبين قريش، فجردوا عليه الأسنة والألسنة، ولكن شعراء العرب وقفوا موقف الحياد والتربص ينتظرون نتيجة المعركة بين التوحيد والوثنية، وبين الديمقراطية والأرستقراطية، وبين محمد وقريش. فلم يغامر في الخصومة إلا الشعراء القرشيون وقد كانوا قلالاً قبل الإسلام لشواغل الحضارة والتجارة، فصاروا كثاراً بعده لدواعي النزاع والمعارضة. بدأ هذه الحملة منهم عبد الله بن الزبعري وعمرو بن العاص وأبو سفيان، فآذوا الرسول وأتباعه بقوارص الهجاء، فهاج ذلك من شاعرية المسلمين وودوا لو يأذن لهم الرسول بمجالستهم، فما هو إلا أن قال لهم: (ماذا يمنع الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم؟) حتى صمد للقرشيين نفر من الصحابة، فيهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وشبهوها حرباً كلامية جاهلية لم يهاجم المهاجمون فيها بفضائل الوثنية، ولم يدافع المدافعون بفضائل الإسلام، حتى نقول إن الشعر قد خطأ في مذاهب الفن خطوة جديدة، بل كانوا يتهاجون على النمط المعروف من الفخر بالأنساب والتبجح بالسؤدد؛ يدل على ذلك قول الرسول لحسان: (أذهب إلى أبي بكر فهو أعلم بمثالب القوم)، وقوله: (كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟) فقال: أسلك كما أسل الشعرة من العجين
فليس من شك في أن الشعر ظل على عهد الرسول جاهلياً. وخضعت قريش وسائر العرب للدين الجديد بعد لأي، فخرست الألسنة اللاذعة، وفر الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية، وانصرف المسلمون إلى حفظ القرآن ورواية الحديث وجهاد الشرك، فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي إليه، فما كان يظهر إلا الحين بعد الحين في صادق المدح والرثاء؛ وتساهل الرسول في سماعه حتى أثاب عليه، وحتى قال فيه: (إن من الشعر لحكمة)
تلك كانت حالة الشعر في عهد النبوة، وأما حاله بعدها فأقل شأناً وأحط مكانة لذهاب المعارضة ولشدة الخلفاء في تأديب الشعراء، وانصراف هم العرب إلى الفتوح؛ ولكن الدين قد بدأ يفعل في النفوس، ومظاهر الحضارة قد أخذت تؤثر في الأذهان، فظهر أثر ذلك ضئيلاً في شعر المخضرمين ككعب بن زهير والحطيئة ومعن بن أوس والنابغة الجعدي، ولكنه أثر لا يتعدى بعض الألفاظ الإسلامية كالمعروف والمنكر والصلاة والزكاة والجنة والنار والمهاجرين والأنصار. ولذلك نرى من المبالغة جعل المخضرمين طبقة ممتازة، فان شعرهم استمرار للمذهب الجاهلي لم يتأثر بالإسلام إلا تأثراً عرضياً كضعف الأسلوب في شعر حسان، أو قلة الإنتاج في قريحة لبيد، أو كثرته في الحطيئة والنابغة الجعدي مثلاً؛ والأشبه بالحق أن نقرر ما أشرنا إليه من قبل، وهو أن الشعر العربي ظل في الجاهلية والإسلام واحداً في مظهره وجوهرة ونوعه حتى أواخر عهد بني أمية؛ والتأثير الذي ناله من الموالي والسياسة والحضارة والدين لم يعطفه إلى طرق جديدة، وإنما وسع في معانيه ومناحيه، فقوى بعض أغراضه كالهجاء، وميز بعضاً أخر كالغزل وهل يمكن التجديد في الشعر وجل الشعراء إنما يأتون من البادية، والخلفاء يتعصبون للبادية، والرواة والأدباء واللغويون يطلبون اللغة والشعر في البادية، والعرب بطبيعتهم يميلون إلى التقليد ويجلون القديم المأثور من سؤدد وخلق وأدب؟ فليس من سبيلنا أن نتكلف البحث العقيم في القرن الأول عن مذهب شعري جديد يصبح أن يكون أساساً لأدب عربي جديد، فأن مذهب عمر بن أبي ربيعة في الغزل لا يختلف عن مذهب امرئ القيس إلا في المعاني الحضرية؛ ومذهب جرير والفرزدق في الهجاء لا يختلف عن مذهب الحطيئة والشماخ إلا في المعاني الأساسية، فلنقصر الجهد على تحليل نهضة الشعر في العراق والحجاز على عهد بين أمية وبيان خطرها وأثرها في الإنتاج العقلي للعرب
كانت القحطانية والعدنانية، والعلوية والبكرية، والهاشمية والأموية، والعروبة والشعوبية، تضطرم في نفوس المسلمين اضطرام البركان قبيل أن يثور، ولكنها كانت تضعف حيناً وتشد حيناً تبعاً لسياسة القائم بالأمر ونظام حكمه؛ فالقبائل كانت تنزل منزلها في البلاد على هذه الفكرة، والبصرة والكوفة تخططان على هذه الفكرة، والخلاف ينجم في فارس والشام والعراق والأندلس من هذه الفكرة، وكلها تدور على الزعامة والإمامة؛ فمن كان سيداً في الجاهلية أن يكون سيداً في الإسلام، كأن العرب لم يفهموا من الدين الجديد إلا أنه طريق إلى السلطان وسبيل إلى الغلبة والثروة والحكم ليس غير. ولعلك تذكر أن بعضاً من شيوخ القبائل كقيس بن عاصم والأحنف بن قيس كانوا يعرضون على الرسول أن يدخلوا في دين الله لا على أنه دين الحق، بل ليكون لهم من بعده
ظلت هذه الروح العصبية مكبوتة في عهد الشيخين لأخذهما الأمور بالحزم والعدل، ولانصراف العرب إلى المغنم من طريق الجهاد والفتح، فلما ولي الأمر عثمان وهنت اليد المصرفة فسندتها يد أخرى، وتشتت الرأي فلم يصدر عن الخليفة وحده، وحكم إله الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ وكان المسلمون يومئذ قد أفاءت عليهم الفتوح والغنائم بالثراء إلى حد البطر، فاستيقظت الفتنة وقامت الثورة وانتهت بمقتل عثمان، وتجددت الخصومة على أثر ذلك بين علي ومعاوية، وقتل الإمام فتحرج الأمر وانشقت العصا، وانصرف العرب إلى جهاد العدو عن جهاد أنفسهم باللسان والسيف، وتفرقوا أحزاباً وشيعاً بعضها للدين وبعضها للدنيا. ففي الشام حزب يشايع بني أمية، يريض لهم الأمر، ويمكنهم في الملك. وفي الحجاز حزب يناصر أبن الزبير، يؤيده في دعواه وينصره في دعوته؛ وفي العراق حزب يشايع أهل البيت ويطلب لهم بحقهم في الخلافة؛ وهنالك حزب ديمقراطي ينكر الأحزاب ويكفر الزعماء ويقول بالشورى في الخلافة. وفي هذه الأحزاب الأربعة توزعت أهواء المسلمين وآراؤهم إلا طائفة قليلة لزمت الحياد وأرجأت الحكم بين المختلفين إلى قضاء الله يوم الدين، وهم المرجئة؛ واتصلت بين الأحزاب الخصومة، وأعنف فيها الخصوم، ولكن معاوية بعد أن تم له الأمر كان يصانع معارضيه بالدهاء والعطاء والإغضاء والحزم حتى أستوثق له الأمر طيلة حياته إلا من جهة الخوارج، فلما مات أفاق خصومه من خدر سياسته فزعزعوا عرشه، حتى إذا وهي أدركه مروان وبنوه فسنده واقتعدوه. وفي زمن عبد الملك أشتد المعارضة واستعرت الحروب، وكثر المطالبون بالخلافة، وأنبسط سلطان العرب، وزخرت موارد الفيء، وأكتمل شباب الجيل الذي نشأ في الإسلام واغتذى بثمرة الفتوح واستمتع بجمال الحضارة وأختلط بأنماط شتى من الناس وساهم بيده ولسانه في هذه الفتن، فبلغ الأدب العربي غاية ما قدر له أن يبلغ. فهل يمكن أن يظل الشعر بنجوة عن هذه الحياة الصاخبة، والعصبية الغالبة، والأحزاب المتحاربة، والأهواء المتضاربة، والشعر العربي ربيب الخصومة والجدل، تبعثه الحزبية ويقويه الهراش وتوحيه شيطان الفرقة؟ الواقع أنه كان وقود هذه الفتن ولسان هذه الأحزاب، يصطنعونه كما نصطنع نحن الصحف اليوم، فيناضل عن زعمائه، ويدافع عن آرائهم، ويصطبغ بصبغة العقيدة التي يدعو إليها وينافح عنها. وإذا علمت أن العرب جميعاً ساهموا في هذه الخصومات، وأن أكثرهم يقول الشعر وخصوصاً في هذه الأزمات، وأن الأمويين استمالوا بالمال هوى الشعراء، وأوقدوا بينهم نار التنافس والهجاء وأن الشعر أصبح صناعة متميزة يعيش عليها بعض الناس، أدركت سبب وفرة الشعر وكثرة الشعراء في عصر عبد الملك، إذ بلغ عدد الفحول المائة. وليس من شك في أن الشعر وأن حافظ على طريقته وطبيعته قد تأثر بهذه الحياة الجديدة تأثراً ظاهراً في معانيه وأغراضه؛ ولكن هذه الحياة لم تكن كلها نزاعاً سياسياً وجدالاً دينياً حتى يقف تأثيره عند هذا الحد، وإنما كان لها مظاهر أخرى يحسن أن نشير إليها قبل أن ندل على أثارها في الشعر
كان من الطبيعي تختلف مظاهر هذه الحياة في العواصم العربية لاختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية فيها. فالعراق كان منذ القدم منتجع الخواطر العربية لخصبه ونمائه، ووفرة ظله ومائه؛ وقد لاذ العرب قبل الإسلام بأطرافه وأريافه واللسان واليد فيه للفرس، فأنشئوا إمارة المناذرة؛ فلما فتحوه في عهد عمر نزحوا إليه وأنشئوا على حدود البادية البصرة والكوفة. وكان في العراق ميراث وفر من العلم والأدب والدين خلفته الأمم الغابرة، ولم يؤت العراق ما أوتيت مصر من قوة الهضم والتمثيل حتى يحيل سكانه إلى جنسية واحدة وعقلية واحدة، فانطبعت الأهواء فيه على الفرقة، والنفوس على التنافر؛ وأتى إليه العرب بالعصبية اليمينية والنزارية، ووقعت فيه الأحداث الإسلامية الجلى كوقعة الجمل ومصرع الأئمة والقادة، وما نجم عن ذلك من قيام الشيعة والخوارج، واشتداد المعارضة لبني أمية، واستحكام الخلاف بين البصريين والكوفيين في السياسة والدين والعلم، فكانت البصرة عثمانية، والكوفة بعد استقرار الإمام بها علوية، والجزيرة الفراتية إما نصرانية وإما خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهم كما قال الأصمعي رأس كل فتنة؛ ومن ربيعة بنو تغلب الذين قال فيهم الإمام علي: (يا خنازير العرب والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعن عليكم الجزية). فكان الشعر العراقي صورة لهذه الحياة الثائرة المتنافرة؛ فهو قوي عنيف يكثر فيه الهجاء والفخر، وتتلون فيه العصبية القبلية ألواناً شتى من التحزب للمكان والعقيدة والجنس، وتتغلب فيه النزعات الجاهلية على التعاليم الإسلامية، وتغذيه نفحات بدوية وصلات أموية، فيزدهر وينتشر حتى يشغل كل لسان ويحتل كل مكان ويعبر عن كل مبدأ
والحجاز منبع الإسلام كان أشبه بينابيع النهر: يفيض منه الماء الصافي في سكون ورفق، حتى إذا بعد مجراه اعترضته الشلالات وتقسمته التيارات فتكدر نميره واشتد هديره، وتوزعته الجداول والأقنية، فبعضه في سباخ الأرض، وبعضه في الرياض، فروى بعضاً وأغرق بعضاً. انتقلت منه الخلافة والمعارضة والعلم إلى العراق والشام، وبقى هو كما كان وكما هو الآن يقبل المال والمعونة من كل قطر، واقتضت سياسة الأمويين أن يعتقلوا فيه شباب الهاشميين فلا يتركونه إلا بإذن، وسلطوا عليهم الترف، وشغلوهم بالمال عن الملك، وخلوا بينهم وبين الفراغ، وقد ورثوا مع ذلك عن آبائهم المجاهدين مغانم الفتح من أموال ورقيق، وفي أهل الحجاز ملاحة ظرف ووداعة نفس ولطافة حس وفصاحة لسان ومحبة لهو، فتبسطوا على النعيم وعكفوا على اللذة، وقطعوا أيامهم بالمنادرة والمنادمة، وذهبوا في حياة المجون كل مذهب؛ ووصل الحج بينهم وبين الحسان والقيان، واستهوت هذه الحال المغنين فوفدوا إلى مكة والمدينة من أقطار الدولة حتى اجتمع منهم في وقت واحد كما يقول أبو الفرج: (ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وابن محرز، وجميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومالك، وابن عائشة، وابن طنبورة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وابن مسجح) وحتى غلب الغناء على أعمال الناس وميولهم؛ فقد حدث الإمام مالك عن نفسه قال: (نشأت وأنا غلام أتتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لا يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه؛ فتركت المغنين وأتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى). من ذلك شاع الحب في مدن الحجاز ورقت عواطف بنيه، فسلكوا في الشعر مسالك الغزل الحضري الرقيق الصادق، حتى كاد هذا الفن لافتنانهم فيه يبتدئ بهم وينتهي إليهم
وأما الشام فكان بنجوة من الثورات النفسية والأزمات السياسية لخضوعه لبني أمية وإخلاصه لهم وانصرافه إلى تأييدهم، فلا هو مضطرم العواطف كالحجاز، ولا هو مضطرب الأهواء كالعراق، وقد أمن الخلفاء جانبه فتركوه لشأنه دون أن يثيروا عصبية لخلاف، أو يهجوا طماعيته لمغنم، فبقى الشعر من جراء ذلك راكداً في نفوس أهله لا يبعثه باعث، ولا يتوافر على دراسته وروايته باحث؛ وأكثر ما كان فيه من ذلك إنما كان يفد إليه من العراق والحجاز مع الشعراء الذين يجذبهم سخاء القصر أو دهاؤه، والأدباء الذين يطلبهم الخلفاء من البصرة كلما أعضلتهم مسألة في اللغة والنحو والأدب
(يتبع)
الزيات
مجلة الرسالة - العدد 116
بتاريخ: 23 - 09 - 1935
فليس من شك في أن الشعر ظل على عهد الرسول جاهلياً. وخضعت قريش وسائر العرب للدين الجديد بعد لأي، فخرست الألسنة اللاذعة، وفر الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية، وانصرف المسلمون إلى حفظ القرآن ورواية الحديث وجهاد الشرك، فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي إليه، فما كان يظهر إلا الحين بعد الحين في صادق المدح والرثاء؛ وتساهل الرسول في سماعه حتى أثاب عليه، وحتى قال فيه: (إن من الشعر لحكمة)
تلك كانت حالة الشعر في عهد النبوة، وأما حاله بعدها فأقل شأناً وأحط مكانة لذهاب المعارضة ولشدة الخلفاء في تأديب الشعراء، وانصراف هم العرب إلى الفتوح؛ ولكن الدين قد بدأ يفعل في النفوس، ومظاهر الحضارة قد أخذت تؤثر في الأذهان، فظهر أثر ذلك ضئيلاً في شعر المخضرمين ككعب بن زهير والحطيئة ومعن بن أوس والنابغة الجعدي، ولكنه أثر لا يتعدى بعض الألفاظ الإسلامية كالمعروف والمنكر والصلاة والزكاة والجنة والنار والمهاجرين والأنصار. ولذلك نرى من المبالغة جعل المخضرمين طبقة ممتازة، فان شعرهم استمرار للمذهب الجاهلي لم يتأثر بالإسلام إلا تأثراً عرضياً كضعف الأسلوب في شعر حسان، أو قلة الإنتاج في قريحة لبيد، أو كثرته في الحطيئة والنابغة الجعدي مثلاً؛ والأشبه بالحق أن نقرر ما أشرنا إليه من قبل، وهو أن الشعر العربي ظل في الجاهلية والإسلام واحداً في مظهره وجوهرة ونوعه حتى أواخر عهد بني أمية؛ والتأثير الذي ناله من الموالي والسياسة والحضارة والدين لم يعطفه إلى طرق جديدة، وإنما وسع في معانيه ومناحيه، فقوى بعض أغراضه كالهجاء، وميز بعضاً أخر كالغزل وهل يمكن التجديد في الشعر وجل الشعراء إنما يأتون من البادية، والخلفاء يتعصبون للبادية، والرواة والأدباء واللغويون يطلبون اللغة والشعر في البادية، والعرب بطبيعتهم يميلون إلى التقليد ويجلون القديم المأثور من سؤدد وخلق وأدب؟ فليس من سبيلنا أن نتكلف البحث العقيم في القرن الأول عن مذهب شعري جديد يصبح أن يكون أساساً لأدب عربي جديد، فأن مذهب عمر بن أبي ربيعة في الغزل لا يختلف عن مذهب امرئ القيس إلا في المعاني الحضرية؛ ومذهب جرير والفرزدق في الهجاء لا يختلف عن مذهب الحطيئة والشماخ إلا في المعاني الأساسية، فلنقصر الجهد على تحليل نهضة الشعر في العراق والحجاز على عهد بين أمية وبيان خطرها وأثرها في الإنتاج العقلي للعرب
كانت القحطانية والعدنانية، والعلوية والبكرية، والهاشمية والأموية، والعروبة والشعوبية، تضطرم في نفوس المسلمين اضطرام البركان قبيل أن يثور، ولكنها كانت تضعف حيناً وتشد حيناً تبعاً لسياسة القائم بالأمر ونظام حكمه؛ فالقبائل كانت تنزل منزلها في البلاد على هذه الفكرة، والبصرة والكوفة تخططان على هذه الفكرة، والخلاف ينجم في فارس والشام والعراق والأندلس من هذه الفكرة، وكلها تدور على الزعامة والإمامة؛ فمن كان سيداً في الجاهلية أن يكون سيداً في الإسلام، كأن العرب لم يفهموا من الدين الجديد إلا أنه طريق إلى السلطان وسبيل إلى الغلبة والثروة والحكم ليس غير. ولعلك تذكر أن بعضاً من شيوخ القبائل كقيس بن عاصم والأحنف بن قيس كانوا يعرضون على الرسول أن يدخلوا في دين الله لا على أنه دين الحق، بل ليكون لهم من بعده
ظلت هذه الروح العصبية مكبوتة في عهد الشيخين لأخذهما الأمور بالحزم والعدل، ولانصراف العرب إلى المغنم من طريق الجهاد والفتح، فلما ولي الأمر عثمان وهنت اليد المصرفة فسندتها يد أخرى، وتشتت الرأي فلم يصدر عن الخليفة وحده، وحكم إله الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ وكان المسلمون يومئذ قد أفاءت عليهم الفتوح والغنائم بالثراء إلى حد البطر، فاستيقظت الفتنة وقامت الثورة وانتهت بمقتل عثمان، وتجددت الخصومة على أثر ذلك بين علي ومعاوية، وقتل الإمام فتحرج الأمر وانشقت العصا، وانصرف العرب إلى جهاد العدو عن جهاد أنفسهم باللسان والسيف، وتفرقوا أحزاباً وشيعاً بعضها للدين وبعضها للدنيا. ففي الشام حزب يشايع بني أمية، يريض لهم الأمر، ويمكنهم في الملك. وفي الحجاز حزب يناصر أبن الزبير، يؤيده في دعواه وينصره في دعوته؛ وفي العراق حزب يشايع أهل البيت ويطلب لهم بحقهم في الخلافة؛ وهنالك حزب ديمقراطي ينكر الأحزاب ويكفر الزعماء ويقول بالشورى في الخلافة. وفي هذه الأحزاب الأربعة توزعت أهواء المسلمين وآراؤهم إلا طائفة قليلة لزمت الحياد وأرجأت الحكم بين المختلفين إلى قضاء الله يوم الدين، وهم المرجئة؛ واتصلت بين الأحزاب الخصومة، وأعنف فيها الخصوم، ولكن معاوية بعد أن تم له الأمر كان يصانع معارضيه بالدهاء والعطاء والإغضاء والحزم حتى أستوثق له الأمر طيلة حياته إلا من جهة الخوارج، فلما مات أفاق خصومه من خدر سياسته فزعزعوا عرشه، حتى إذا وهي أدركه مروان وبنوه فسنده واقتعدوه. وفي زمن عبد الملك أشتد المعارضة واستعرت الحروب، وكثر المطالبون بالخلافة، وأنبسط سلطان العرب، وزخرت موارد الفيء، وأكتمل شباب الجيل الذي نشأ في الإسلام واغتذى بثمرة الفتوح واستمتع بجمال الحضارة وأختلط بأنماط شتى من الناس وساهم بيده ولسانه في هذه الفتن، فبلغ الأدب العربي غاية ما قدر له أن يبلغ. فهل يمكن أن يظل الشعر بنجوة عن هذه الحياة الصاخبة، والعصبية الغالبة، والأحزاب المتحاربة، والأهواء المتضاربة، والشعر العربي ربيب الخصومة والجدل، تبعثه الحزبية ويقويه الهراش وتوحيه شيطان الفرقة؟ الواقع أنه كان وقود هذه الفتن ولسان هذه الأحزاب، يصطنعونه كما نصطنع نحن الصحف اليوم، فيناضل عن زعمائه، ويدافع عن آرائهم، ويصطبغ بصبغة العقيدة التي يدعو إليها وينافح عنها. وإذا علمت أن العرب جميعاً ساهموا في هذه الخصومات، وأن أكثرهم يقول الشعر وخصوصاً في هذه الأزمات، وأن الأمويين استمالوا بالمال هوى الشعراء، وأوقدوا بينهم نار التنافس والهجاء وأن الشعر أصبح صناعة متميزة يعيش عليها بعض الناس، أدركت سبب وفرة الشعر وكثرة الشعراء في عصر عبد الملك، إذ بلغ عدد الفحول المائة. وليس من شك في أن الشعر وأن حافظ على طريقته وطبيعته قد تأثر بهذه الحياة الجديدة تأثراً ظاهراً في معانيه وأغراضه؛ ولكن هذه الحياة لم تكن كلها نزاعاً سياسياً وجدالاً دينياً حتى يقف تأثيره عند هذا الحد، وإنما كان لها مظاهر أخرى يحسن أن نشير إليها قبل أن ندل على أثارها في الشعر
كان من الطبيعي تختلف مظاهر هذه الحياة في العواصم العربية لاختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية فيها. فالعراق كان منذ القدم منتجع الخواطر العربية لخصبه ونمائه، ووفرة ظله ومائه؛ وقد لاذ العرب قبل الإسلام بأطرافه وأريافه واللسان واليد فيه للفرس، فأنشئوا إمارة المناذرة؛ فلما فتحوه في عهد عمر نزحوا إليه وأنشئوا على حدود البادية البصرة والكوفة. وكان في العراق ميراث وفر من العلم والأدب والدين خلفته الأمم الغابرة، ولم يؤت العراق ما أوتيت مصر من قوة الهضم والتمثيل حتى يحيل سكانه إلى جنسية واحدة وعقلية واحدة، فانطبعت الأهواء فيه على الفرقة، والنفوس على التنافر؛ وأتى إليه العرب بالعصبية اليمينية والنزارية، ووقعت فيه الأحداث الإسلامية الجلى كوقعة الجمل ومصرع الأئمة والقادة، وما نجم عن ذلك من قيام الشيعة والخوارج، واشتداد المعارضة لبني أمية، واستحكام الخلاف بين البصريين والكوفيين في السياسة والدين والعلم، فكانت البصرة عثمانية، والكوفة بعد استقرار الإمام بها علوية، والجزيرة الفراتية إما نصرانية وإما خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهم كما قال الأصمعي رأس كل فتنة؛ ومن ربيعة بنو تغلب الذين قال فيهم الإمام علي: (يا خنازير العرب والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعن عليكم الجزية). فكان الشعر العراقي صورة لهذه الحياة الثائرة المتنافرة؛ فهو قوي عنيف يكثر فيه الهجاء والفخر، وتتلون فيه العصبية القبلية ألواناً شتى من التحزب للمكان والعقيدة والجنس، وتتغلب فيه النزعات الجاهلية على التعاليم الإسلامية، وتغذيه نفحات بدوية وصلات أموية، فيزدهر وينتشر حتى يشغل كل لسان ويحتل كل مكان ويعبر عن كل مبدأ
والحجاز منبع الإسلام كان أشبه بينابيع النهر: يفيض منه الماء الصافي في سكون ورفق، حتى إذا بعد مجراه اعترضته الشلالات وتقسمته التيارات فتكدر نميره واشتد هديره، وتوزعته الجداول والأقنية، فبعضه في سباخ الأرض، وبعضه في الرياض، فروى بعضاً وأغرق بعضاً. انتقلت منه الخلافة والمعارضة والعلم إلى العراق والشام، وبقى هو كما كان وكما هو الآن يقبل المال والمعونة من كل قطر، واقتضت سياسة الأمويين أن يعتقلوا فيه شباب الهاشميين فلا يتركونه إلا بإذن، وسلطوا عليهم الترف، وشغلوهم بالمال عن الملك، وخلوا بينهم وبين الفراغ، وقد ورثوا مع ذلك عن آبائهم المجاهدين مغانم الفتح من أموال ورقيق، وفي أهل الحجاز ملاحة ظرف ووداعة نفس ولطافة حس وفصاحة لسان ومحبة لهو، فتبسطوا على النعيم وعكفوا على اللذة، وقطعوا أيامهم بالمنادرة والمنادمة، وذهبوا في حياة المجون كل مذهب؛ ووصل الحج بينهم وبين الحسان والقيان، واستهوت هذه الحال المغنين فوفدوا إلى مكة والمدينة من أقطار الدولة حتى اجتمع منهم في وقت واحد كما يقول أبو الفرج: (ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وابن محرز، وجميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومالك، وابن عائشة، وابن طنبورة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وابن مسجح) وحتى غلب الغناء على أعمال الناس وميولهم؛ فقد حدث الإمام مالك عن نفسه قال: (نشأت وأنا غلام أتتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لا يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه؛ فتركت المغنين وأتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى). من ذلك شاع الحب في مدن الحجاز ورقت عواطف بنيه، فسلكوا في الشعر مسالك الغزل الحضري الرقيق الصادق، حتى كاد هذا الفن لافتنانهم فيه يبتدئ بهم وينتهي إليهم
وأما الشام فكان بنجوة من الثورات النفسية والأزمات السياسية لخضوعه لبني أمية وإخلاصه لهم وانصرافه إلى تأييدهم، فلا هو مضطرم العواطف كالحجاز، ولا هو مضطرب الأهواء كالعراق، وقد أمن الخلفاء جانبه فتركوه لشأنه دون أن يثيروا عصبية لخلاف، أو يهجوا طماعيته لمغنم، فبقى الشعر من جراء ذلك راكداً في نفوس أهله لا يبعثه باعث، ولا يتوافر على دراسته وروايته باحث؛ وأكثر ما كان فيه من ذلك إنما كان يفد إليه من العراق والحجاز مع الشعراء الذين يجذبهم سخاء القصر أو دهاؤه، والأدباء الذين يطلبهم الخلفاء من البصرة كلما أعضلتهم مسألة في اللغة والنحو والأدب
(يتبع)
الزيات
مجلة الرسالة - العدد 116
بتاريخ: 23 - 09 - 1935